على بعد أمتار قليلة من ميدان التحرير، رمز الثورة المصرية، اجتمعت شخصيات عالمية بارزة عاشت واقعا سياسيا مشابها لما عاشته مصر وواجهت أزمات المراحل الانتقالية سواء فى العلاقة بين المدنيين والعسكريين، أو الأزمات الاقتصادية، وحتى محطة الخلاف الكبرى: الدستور أم البرلمان أولاً.
تشيلى والبرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا وإندونيسيا هى الدول التى روت للحضور قصتها مع التغيير وذكرياتها مع المراحل والفترات الانتقالية فى المنتدى الدولى الذى عقده البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة فى القاهرة، الإثنين، بعنوان «مسارات التحولات الديمقراطية: خبرات دولية ودروس مستفادة»، مع إصرارهم على عدم تقديم توصيات لمصر، مبررين بأن لكل بلد ظروفه وطبيعته وأن وجودهم فقط من أجل رواية تجربتهم وليس من أجل نصيحة مصر باتباع منهج معين.
«الديمقراطية كالموسيقى، هناك طرق عديدة لعزفها لكنها فى النهاية موسيقى»، هكذا بدأ سيزار نافا، عضو مجلس النواب، رئيس حزب «بان مكسيكو» المكسيكى، حديثه، مؤكدا أن بلاده ربما كانت فى حاجة أكثر إلحاحا من مصر لثورة وأكثر ظمأً للديمقراطية، حيث هيمن حزب واحد على حكمها طوال 72 عاما.
وبعد مرور 72 عاما كان الاختبار الأول للديمقراطية بعدما فاز فيسينتى فوكس فى انتخابات الرئاسة، وهو ما اعتبره سيزار نافا ذو الـ37 عاما دليلا على ذلك، وقال إنه تأكد من تحقق الديمقراطية الحقيقية عندما أتت الانتخابات التالية فى 2006 ولم يكن باستطاعة أحد التنبؤ بالنتيجة، وحسمت النتيجة لصالح حزب «بان مكسيكو» الذى يرأسه الآن.
عشرة تغيرات شهدتها المكسيك بعد تحولها للديمقراطية يعتبرها سيزار نتاج عملية التحول، وقال معددا أهمها: انتقلنا من الزعيم الكاريزمى إلى الزعيم الدستورى، ومن الانتخابات التى تشتهر بالعنف إلى أخرى سلمية، ومن حكومة الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية فى الحكم، ومن نظام يقوم على رئيس استعمارى إلى تقسيم حقيقى للسلطات، ومن أسبقية الاقتصاد إلى أسبقية السياسة، ومن مؤسسات سياسية ساكنة إلى أخرى متحركة.
وكما كانت علامات التحول عشرة، فقد كانت التحديات عشرة، وهى تشبه كثيرا ما تواجهه مصر الآن.
يقول نافا: واجهنا فجوة بين طموحات الشعب والتغيرات الممكنة، وفى حين أن محور التنمية يتركز على تلبية التوقعات، لكن فى النهاية كان يجب أن ندرك أن السياسة هى فن الممكن وليس المستحيل، وأن التغيرات المثالية ليست ممكنة.
وعن تجربة أخرى اتخذت صبغة إسلامية، تحدث بشار الدين يوسف الحبيبى، رئيس إندونيسيا الأسبق، الذى أكد أن الشعب الإندونيسى بعد أن تخلص من ديكتاتورية سوهارتو اختار إعداد وتدريب الموارد البشرية للبلاد كوسيلة لمحاربة الفقر، وهو ما تحقق من خلال ثلاثة محاور هى «الثقافة، والدين، والعلوم والتكنولوجيا».
وبرر «الحبيبى» وجود الدين فى المحاور بأن 90% من سكان إندونيسيا مسلمون، وبأن المجتمع الإندونيسى اتفق على الثقافة الإسلامية كأرضية مشتركة بين السكان.
وأكد أن السعى الدائم لتحقيق العدالة الاجتماعية وعدم التفريق بين فقير مسلم وآخر مسيحى لم يجعل هناك أصواتا داخلية معارضة لهذه الصبغة، خاصة أن القضية التى تحرك من أجلها الإندونيسيون هى محاربة الفقر الذى لا يعرف ديانة محددة وإنما تسببت فيه ديكتاتورية سوهارتو التى استمرت لمدة 32 عاما.
وعن الدرس البرازيلى، يؤكد سيلسو إموريم، وزير الخارجية البرازيلى السابق - ممثل البرازيل السابق لدى الأمم المتحدة – أنه جاء حصيلة إنجازات وإخفاقات عاشتها البلاد فى فترة انتقالية تحولت فيها من النظام الديكتاتورى إلى الديمقراطى، موضحا: «كنا نتعلم الدروس من أخطائنا وإنجازاتنا».
ويؤكد سيلسو أوجه التشابه مع مصر: «كان لدينا نظام شبه شمولى وقلة تسيطر على الحكم، وشبه حرية صحافة حتى قامت القوات المسلحة بشبه انقلاب». يواصل سيلسو: «انتظرنا 20 عاما من أجل نيل الحكم المدنى، بعد الاتفاق مع الجيش لنضفى الشرعية على الحكم المدنى».
وبعد تحقيق الحكم المدنى فى البرازيل كان الهم الأكبر هو الاستقرار الاقتصادى، وهو ما أكد سيلسو أن البرازيل حققته بعدما نفذت «عكس» توصيات صندوق النقد الدولى، مشيرا إلى أن زيادة الإنفاق العام لتقريب الفوارق بين الطبقات أدت إلى وجود عدالة اجتماعية قادت بدورها البلاد للاستقرار السياسى.
ومن أهم أوجه الالتقاء بين مصر والبرازيل الخلاف الذى نشب حول تكوين الدستور الجديد وفكرة العفو عن رموز النظام السابق. ويوضح سيلسو كيفية مواجهة هذين المحورين: كانت هناك مناقشات مطولة حول تشكيل مجلس نيابى مؤقت لوضع الدستور الجديد وتسيير الأعمال وحله بعد عمل الدستور الجديد وإعادة انتخابه أو تشكيل المجلس أولا ثم الدستور، لكننا اخترنا أولا مجلسا نيابيا لوضع الدستور وأعدنا انتخابه مرة أخرى بعد الانتهاء من وضع الدستور لكننا قمنا من خلال المجلس الجديد ببعض التعديلات على هذا الدستور، وهو ما كان أصعب من سن دستور جديد، ثم انتخبنا الرئيس.
وبالنسبة للعفو يقول سيلسو: الوضع لدينا كان مختلفا لأن العفو صدر بعد مدة انتقالية طويلة وصدر من المجلس العسكرى نفسه.
وفيما يتعلق بعلاقة المواطنين بالمنظومة الأمنية فى الفترة الانتقالية، تؤكد ميشيل باشليت، رئيسة تشيلى السابقة، أن بلادها واجهت مشكلة التوتر فى هذه العلاقة من خلال التفاوض والاتفاق بين الطرفين، وقالت: «القوات المسلحة والشرطة كان رئيساهما تابعين للنظام السابق كما كانت قوات الأمن متورطة فى انتهاكات لحقوق الإنسان، لذا دخلنا فى مفاوضات سياسية كما كان للاحتكام للقضاء وتعزيز الوعى بحقوق الإنسان دور مهم فى إدارة هذه الأزمة».
وأضافت: «أهم ما حقق الوفاق بين المنظومة الأمنية والشعب فى تشيلى هو تدريب قوات الأمن باستراتيجيات جديدة تقوم على فكرة أن الشعب أولى من الجيش، وهو عكس ما كان سائدا، وتدريب المواطنين على احترام القوانين»، كما أشارت باشليت إلى أهمية الإسراع فى انتخاب رئيس الجمهورية فى إحداث التغيير.
العلاقة بين الجيش والمدنيين فى تشيلى كما وصفها جينارو أرياجدا، عضو فى الحزب الديمقراطى المسيحى فى تشيلى، كانت تواجه ما أطلق عليه جينارو «التوازن الكارثى»، الذى ينتج عن امتلاك طرف السيطرة وعدم القدرة على الاستمرارية، وامتلاك الطرف الآخر وهو الشعب القدرة على الاستمرارية وعدم القدرة على السيطرة. ويبرر جينارو وصفه: «الأزمة تكمن فى عدم قدرة أى من القوتين على الحسم»، مؤكدا أن وجود مشروع مشترك بين رافضى الديمقراطية ومريديها أمر لا غنى عنه للوصول إليها.
ووصف جينارو الجيش بأنه القوة التى لا تفضل الديمقراطية وقال: «القوات المسلحة بحكم تعريفها فى أكثر المجتمعات تقدما تقوم على السلطوية فى الأساس، لذا كان لابد من إبرام اتفاق معهم بأن يخضعوا للسلطة المدنية، وأن ينأوا بأنفسهم عن الاختلافات الحزبية، فى مقابل احترام المدنيين لهم باعتبارهم عسكريين محترفين».
ولأن مصر دولة تعيش التجربة الآن ولم تتمها بعد، فكان دور المتحدثين المصريين ينصب حول التوصيات، حيث طالبت الدكتورة هبة حندوسة، خبيرة الاقتصاد، بالتحرك نحواللامركزية التى وصفتها بأنها لم تشهد أى خطوة بعد، وبالاستعانة بالمرأة والمجتمع المدنى لتحقيق التنمية فى المرحلة المقبلة. وبناء على ملاحظته لأداء الأحزاب القديمة طوال 30 عاما، طالب أيمن الصياد، رئيس تحرير مجلة وجهات نظر، بحل جميع الأحزاب القديمة بوصفها كيانات سياسية تابعة للنظام السابق. وأوضح: «قرأت على أحد المواقع الإلكترونية إعلانا يؤيد فيه جميع رؤساء الأحزاب القديمة مبادرة مبارك التاريخية لتعديل المادة 76»، حيث اعتبر الصياد ذلك أكبر دليل على تبعيتها للنظام السابق.