«الميديا المتواطئة» ربما يكون العنوان الأمثل للتقرير السنوى الذى يفضح الصحف الأمريكية حين يشير بشكل موثق إلى مجموعة من القصص الخبرية البارزة التى تم تجاهلها بشكل متعمد، ولم ينشر عنها حرف واحد. لا مجال هنا للحديث عن أخلاقيات العمل الصحفى الذى يتعامى عن أحداث مهمة، بل ربما تكون هى «الأخطر» فى دلالتها من أخبار وقصص الصفحات الأولى التى تنشر فى كبريات الصحف. التقرير الذى وضعه ميكاى هوف، بالتعاون مع مشروع مراقب الذى يضم عدداً كبيراً من الأكاديميين والدارسين ويقدمه الأكاديمى بيتر فيليبس، يستعرض أهم 25 عنواناً لقصص خبرية فُرض عليها التعتيم والرقابة المؤسسية ولم تلفت نظر الصحافة الأمريكية المسيطرة، وكأنها وهم ولو لفتت الانتباه فغالباً ما يتم التقليل من شأنها أو معالجتها بشكل جزئى مبتور. التقرير صدر بعنوان «الرقابة 2012» ويحمل رقم 12 ويغطى الفترة من 2010 إلى 2011 وهو لا يكتفى فقط بسرد تفصيلى لما تم تجاهله من قصص لكنه يقدم رؤية تحليلية علمية متعمقة لتطور العمل الصحفى فى وسائل الإعلام وأبرز التحديات التى تواجهه. مجالات سبعة دارت حولها القصص المعنية وهى: الخسائر البشرية للحرب والعنف، الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعى، الاقتصاد وعدم المساواة، السلطة وإساءة استخدامها، الصحة والبيئة، المرأة وقضايا النوع، المسائل البنكية والجوانب السلعية.
بالطبع لا يمكن الإشارة بالتفصيل لكل قصص هذه المحاور لكننا سنقف على أبرزها، ومنها مثلاً القصة التى تؤكد تزايد أعداد الجنود الأمريكيين الذين ينهون حياتهم باختيار الحل الأسهل: الانتحار. الجنود الأمريكيون لا يموتون فقط فى الأراضى التى دفعتهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى الذهاب إليها إنما هم أيضاً ينتحرون. تشير القصة إلى أنه مع انتهاء عام 2010 بلغ عدد الجنود الأمريكيين الذين أجهزوا على أنفسهم 468 جندياً، فى حين بلغ عدد الجنود الذين قتلوا خلال المعارك 462 جندياً. وذكرت القصة أن كل عام يمر منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 يشهد عدداً كبيراً من حالات انتحار الجنود الأمريكيين، فبلغوا على سبيل المثال 381 عام 2009. ورغم هذه الحقائق تجاهلت الصحف الأمريكية الكبرى الحدث أو قللت منه بإلقاء اللوم على الضحايا أنفسهم، كما فعلت صحيفة يو. إس. إيه توداى فى تقرير لها نشرته فى 29 يوليو 2009. فى حين أن الحقيقة كما يعلنها كريس هيدج، على لسان جيس جوديل، مسؤولة مستودع الجثث فى البحرية الأمريكية، فى مقال له نشره على الإنترنت ورد فى سياق تحليل التقرير لهذه القصة أن الجنود الأمريكيين، وكما تشير، أثناء وجودهم فى العراق كانوا يظنون فى البداية أنهم ذهبوا لمساعدة العراقيين، فى حين أدركوا فيما بعد أنهم يقومون بـ«العمل القذر»، وأنهم تم استغلالهم من قبل الحكومة. لم تشغل وسائل الإعلام الأمريكية بالها إذن بمحاولة تفسير طبيعة الحرب والاحتلال نفسه. وفى هذا الإطار ذاته تتجاهل هذه الوسائل أيضاً ذكر نتائج الاحتلال على الأرض المحتلة ذاتها، فيما يخص التلوث البيئى الذى تخلقه وسائل الحرب ذاتها من شاحنات وطائرات ودبابات وأسلحة ومئات الأطنان من مخلفات اليورانيوم التى استخدمت أثناء غزو العراق وأفغانستان، فحتى لو رحل الجنود الأمريكيون فستبقى آثارهم المميتة لقرون طويلة كما كتب الصحفى ماثيو ناسوتى فى «كابول برس».
من أبرز القصص التى ضمها التقرير تلك الخاصة بتدخل الجيش الأمريكى فى عمليات تدفق المعلومات على شبكات التواصل الاجتماعى على الإنترنت، بهدف الكشف عن أى أمر من شأنه تعريض الأمة الأمريكية لخطر محتمل، وهكذا انتشرت مجموعات من «جواسيس الإنترنت» التى يكون باستطاعتها - عبر انتحالات هويات مزيفة- المشاركة فى عمليات المحادثة بين المجموعات المتنوعة التى تعرض آراءها بحرية كاملة دون الظن بأن ثمة من يراقبها بل يحادثها باعتباره شخصاً موثوقاً فيه، فى حين أنه ليس إلا جاسوساً. ويسعى هذا الجاسوس لتوجيه النقاش وبث دعاية مناصرة ومؤيدة لممارسات الجيش الأمريكى. الميديا الأمريكية هنا أيضاً لم تلعب أى دور فى الكشف عن هذا القدر المتزايد من انتهاك حرية التعبير وتقييد الخصوصية.
وعن الجيش الأمريكى أيضاً دارت قصة أخرى قللت وسائل الإعلام الأمريكية من شأنها وتأثيراتها، تتعلق بزيادة الاعتداءات الجنسية داخل الجيش الأمريكى من تحرشات واغتصاب تقع على النساء من أفراده. فى عرضها لهذه الحوادث تركز تلك الوسائل على تدابير الوقاية وإجراءات الردع التى يتخذها الجيش تجاهها أكثر من تناول أسبابها أو نتائجها، تقول الأرقام، حسب التقرير، إن امرأة من خمسة فى القوات الجوية الأمريكية تقع ضحية اعتداءات جنسية ترفض الإبلاغ عن الجريمة و20% من اللاتى تبلغن عن تعرضهن لاعتداءات جنسية تتعرض 58% منهن للاغتصاب. ويعلق التقرير: كيف يمكن لقواتنا أن تدافع عن دولتنا فى حين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم فى مواجهة تهديدات السلطة داخل الجيش نفسه؟ لا تتجاهل «الميديا» الأمريكية المهيمنة قضية الانتهاكات الجنسية فى المجتمع الأمريكى بشكل عام ولكنها غالباً تلجأ إلى معالجتها بشكل يخفف من وطأتها، كما فعلت صحيفة «واشنطن بوست» حين نقلت أرقاماً تؤكد انحسار الاعتداءات الجنسية داخل الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام إلى أكثر من 85% منذ عام 1970.