ومما زاد المشكلة السنية الشيعية إرباكا العلاقة الجغرافية المعقدة بين العراق وإيران. فقد تسببت الفجوة العسكرية والحضارية المهولة بينهما- قبل الإسلام- فى اعتبار العراق مستعمرة فارسية أو مجالا حيويا لفارس.
ثم بدأت الحضارة الفارسية منحنى الهبوط، وكثر الظلم وانعزل الأكاسرة عن الشعب. وتدهورت الإمبراطورية لدرجة تولى ١٢ ملكا عرش فارس فى العشر سنين الأخيرة التى سبقت الفتح الإسلامى.
بعد وفاة الرسول فتح خالد بن الوليد مملكة الحيرة لكنه لم يتم فتح العراق حيث أرسله أبوبكر لفتح الشام. فى عهد عمر استكملت الفتوح وقاد سعد بن أبى وقاص الجيوش الإسلامية وانتصر فى معركة القادسية وقتل رستم، قائد الفرس، وانتهت الإمبراطورية الفارسية، وأقبل الفرس طواعية- وبإخلاص- على اعتناق الإسلام، فقد كانت المظالم والفوضى السابقة للفتح تدفعهم للدين الجديد.
المشكلة أن الدولة الأموية تعاملت مع الفرس بكثير من الصلف والاحتقار وسموهم (الموالى). يتزوجون بناتهم ولا يسمحون لهم بالزواج من عربية، وإذا حدث ذلك يفرقون بينهما بعد جلده وتحقيره. كان هذا مستفزا للفرس الذين طالبوا بالتطبيق السليم لشريعة المصطفى فى المساواة والعدل. وحين لم يحدث الإنصاف كان إقبالهم على أمجادهم القديمة أمرا متوقعا وبدأ ظهور ما يُسمى (الشعوبية). وكان رد فعل الدولة الأموية حاسما بالعنف والتنكيل.
كان هناك فريقان مضطهدان هما الفرس والشيعة من قبل طرف واحد غالب هو الدولة الأموية. وكانوا يعلمون أن استعادة المجد الفارسى القديم مستحيل إلا عن طريق الدفع بسلطان يدين لهم بالفضل والولاء. فاختاروا التحالف القائم بين العلويين والعباسيين وقاموا بمعاضدته. وحاربوا جيش مروان آخر الخلفاء الأمويين وهزموه، وبويع أبوالعباس بن عبدالله الملقب بالسفاح عام 132 هجرية.
وبالطبع حفظ العباسيون الجميل وجهروا بدور الفرس فى إقامة الدولة. هارون الرشيد ارتكب خطأ قاتلا حينما قسم الخلافة بين أبنائه الثلاثة وأعطى فارس للمأمون بينما كان للأمين الشام ومصر. ولجملة أسباب- من ضمنها أن أم المأمون فارسية- ناصروه حتى قتل أخاه الأمين، فاعتبروا ذلك نصرا جديدا على العرب. وكان طبيعيا أن يزداد نفوذهم فى عهد المأمون.
ويمكن وصف التأثير الفارسى على العرب بعد الإسلام بأنه كان بمثابة القوة الناعمة، فلقد تسربت مفردات حضارتهم القديمة إلى تفاصيل الحياة العراقية. فنون الطرب والغناء، الاحتفال بأعياد فارسية محضة كالنيروز. وعرفوا أبهة الحكم الفارسى، ونبه من الفرس أعلام لم يزل التاريخ يحتفى بهم مثل أبى حنيفة والطبرى والبخارى والزمخشرى وابن سينا والفارابى.
برغم هذا ظلت إيران سنية حتى قيام الدولة الصفوية عام ١٥٠١ التى قامت بتشييع البلاد. وكان حريا بعد كل هذه السنين أن تُنسى الثأرات التاريخية ونعود أمة واحدة. لكن استيقظت الأشباح القديمة لأسباب سياسية، وبُعث الخلاف السنى الشيعى من مراقد الماضى، وانفجرت الأحقاد.