تخوض وزارة التربية والتعليم ووزيرها طارق شوقى معركة حقيقية لإقناع التلاميذ وأولياء الأمور باستراتيجية تطوير التعليم، التى بدأت أولى خطواتها العام الدراسى الجارى، فيما يوجد نظام تعليمى يبدو أكثر قوة من الحكومة وهو المراكز التعليمية
.
«السناتر» تطور لفكرة الدروس الخصوصية، ولكن بشكل أفضل تنظيماً، وأكثر إقناعاً للآباء، رغم أنها مكلفة للغاية مقارنة بالتعليم الحكومى، ولم تستطع الوزارة حتى الآن القضاء على المراكز التعليمية أو الحد منها، حتى باتت أشبه بمدارس موازية.. ورغم أن الوزارة شنت حملات بالتعاون مع المحافظات وأغلقت أعدادا كبيرة منها، إلا أن هذه الخطوة لم تفلح وزادت السناتر انتشاراً وكل شىء يقدم فيها للطلاب بـ«تمنه».
ما بين البحث عن «كرسى» وقاعة كبيرة ومدرس شهير، كانت رحلة يوسف إسلام، فى عالم مراكز الدروس التعليمية فى إمبابة.
يوسف طالب بالصف الثالث الإعدادى، ورحلته فى عالم «السناتر» بدأت عندما قام أحد أصدقائه بمعايرته بأنه «عيل» لأنه يريد الحصول على درس خصوصى داخل منزله، ثم وجد يوسف مركزاً تعليمياً عن طريق صديقه، ليجد أزمة أخرى بانتظاره وهى البحث عن «كرسى». هذه هى الرحلة المعتادة، حالياً، لمعظم طلاب القاهرة الكبرى على وجه التحديد، بداية من الصف السادس الابتدائى حتى الصف الثالث الثانوى، حيث يبحث الجميع عن «سنتر» بديل عن المدرسة التى لم تعد مكاناً للتعليم. الأمر أكثر سهولة للمراحل الانتقالية حتى الصف الثانى الإعدادى، ولكن الأزمة الحقيقية تبدأ مع الصف الثالث الإعدادى، فلا يوجد ما يجبر الطلبة على الالتزام بالحضور فى المدرسة، لأن «الغياب» شبه مرفوع، لعدم وجود أعمال سنة، كما أن وقت الحصة «45 دقيقة» غير كاف، لدراسة المنهج بشكل متكامل، ولم تمنع «فكرة التابلت» من تقلص المراكز الخصوصية بل زادت أكثر، مع ضعف الرقابة.
يقول أحد العاملين فى مركز بإمبابة، إن حجز الكرسى يأتى بسبب العدد الهائل الذى يحضر إلى المركز، فى جميع المواد، وتتراوح قيمة الحجز من 5 لـ20 جنيهاً، حسب السنة الدراسية للطالب، وهناك طلبة يحضرون معهم «كراسى بلاستيك»، مؤكداً أن المركز يسمح بذلك طالما يقوم الطالب بسداد قيمة الحصة والملزمة، التى لا يجوز للطالب عدم الحصول عليها. وأضاف: «هناك بعض الطلبة كانوا يقومون بشراء ملزمة واحدة وتصويرها فيما بينهم، وهو ما جعلنا نطالب المدرسين بطباعة ملزمة بكود لا يستطيع معه الطالب تصويرها، وبالتالى يصبح مجبراً على شراء الملزمة».
قبل نهاية الإجازة الدراسية بشهر على الأقل تلقت نورا المهدى، الطالبة فى مرحلة الثانوية العامة، رسالة من أحد مراكز الدروس الخصوصية بمدينة نصر، تخبرها بأنه تم البدء فى تسجيل حضور الحصص لبعض مدرسى المواد الأساسية حتى تستطيع الحجز فى المواد التى تريدها بداية من أغسطس، وهو ما حدث مع آلاف الطلاب، وتقول: «الحصة بتبقى فى الغالب سعرها 65 جنيها، لكن المركز يقوم بتحصيل مبلغ إضافى فى أول كُل شهر ليرتفع السعر لـ85 جنيه».
تحصل نورا، على 4 حصص لمادة الكيمياء شهرياً، أما الرياضة فتصل الحصص المخصصة لها لـ6 بالنسبة لآخرين، ومع ذلك؛ تضطر نورا لأخذ بعض المواد الدراسية فى منزلها أو منزل إحدى صديقاتها، بسبب وجود أعداد كبيرة فى المركز وتوفير للوقت وتكاليف الانتقال، «أقل وقت للحصة فى المركز بتكون ساعتين، وأكتر وقت ممكن تأخده بيكون حوالى 3 ساعات، وعدد الطلاب الحاضرين يصل لنحو 300 طالب فى مواد التخصص العلمى، بينما يقل العدد لـ40 فى مواد مثل اللغة الانجليزية».
لا تقتصر مصادر الدخل لمراكز الدروس الخصوصية عند نصيبها من ثمن الحصة الذى يتم تحصيله بشكل يومى، لأنها تملك مصادر أخرى مثل أرباح بيع الملازم الدراسية التى يقوم مدرس المادة بإعدادها أسبوعيا، وحسب نورا: «سعر الملزمة مش أقل من 120 جنيها، للمواد السهلة، بينما يصل سعر ملزمة المواد العلمية مثل الأحياء والكيمياء لـ200 جنيه، والملزمة تتضمن غالباً 3 وحدات من المنهج».
«المصرى اليوم» تجولت بين مراكز الدروس الخصوصية، ما بين مدينة نصر وشبرا الخيمة وإمبابة، حيث تختلف الأسعار حسب المنطقة يوجد عاملون بالمركز يجلسون على مكتب مهمتهم استقبال الطلاب الوافدين لحجز الدروس الخصوصية، ويتأكدون من حمل بعض هؤلاء الطلاب على كارنيه المركز المخصص للطلاب الذين يدفعون مقابل الحصص فى شهر كامل.
يوفر المركز غرفاً يمكن للطلاب المذاكرة فيها، ومشروبات مقابل مبالغ مالية، ويقول أحد العاملين فى المركز:« مصدر دخل السنتر يتضمن نسبة عن كل طالب، تصل لـ30 %، فضلاً عن الدخل الذى يحصل عليه من المذكرات لأنه يكون مسؤولاً عن تصويرها وبيعها للطلاب بسعر يزيد على التكلفة بـ80 جنيها على الأقل». العاملون فى المراكز يرفضون التقاط صور لها، يبرر أحد العاملين ذلك بقوله:« الوزارة عارفة إن المراكز شغالة، رغم تعليمات الوزير بإغلاقها، لكن لو سمحنا بظهور صورنا فى الصحف سيشكل الأمر استفزازاً لا داعى له». وتتحايل بعض المراكز التعليمية بشبرا الخيمة لإخفاء هويتها كـ«سناتر» بوضع لافتات تُشير إلى أنها مراكز لتعليم اللغات والحاسب الآلى، ويقول أحد العاملين:«نتيجة لوجود لجنة ضبطية قضائية تمر على المراكز، اتفق بعض المدرسين مع أصحاب هذه المراكز على تغيير لافتاتها لعدم جذب انتباه المفتشين، كما أن البعض يلجأ لإعطاء الدروس الخصوصية فى بعض الحضانات»، وذلك للهروب من أعين مسؤولى الوزارة.
على مدار عام أو أقل أنفق سلامة، 58 عاماً، ما يصل لـ20 ألف جُنيه، مقابل الدروس الخصوصية التى تلقاها نجله فى أحد المراكز التعليمية، خلال مرحلة الثانوية العامة، إذ كان الالتحاق بالمركز أمرا لا مفر منه، لأن الابن لم يكن يذهب إلى المدرسة المقيد فيها على الإطلاق: «اخترت المركز بدل المدرس الخاص فى المنزل علشان وجود طلاب آخرين مع ابنى، أقرب لمناخ المدرسة، فدا هيساعده فى التركيز وكمان المركز فى مدرسين على أعلى مستوى».
لم يكن الأب ليطمئن إلى جودة مستوى التعليم بالمركز، دون دليل قوى، لذا قام بالتأكد من درجة عناية المدرسين بالطلاب ومتابعتهم، فضلاً عن وجود امتحانات دورية لتقييم مدى استيعاب وفهم الطلاب للدروس، بالإضافة إلى وجود تفاعل بين المركز وأولياء الأمور حتى يعلم كل أب مستوى نجله: «كنت بشوف بنفسى الامتحانات اللى بياخدوها كل أسبوع وكل شهر، وكان فى متابعة ودرجات»، واستخدم سلامة أوراق الامتحان الذى يقدمها ولده نهاية كل أسبوع عاملًا تحفيزيًا له على الدراسة وبذل الجهد: «أى ورقة امتحان وكان بيجيب فيها الدرجة النهائية كنت بديله 100 جنيه فورا». رغم ذلك، لدى الأب نوع من التصالح مع وسائل المراكز التعليمية فى كسب المال من الطلاب وذويهم ويعتبرها وسائل «مشروعة» فى ظل مجريات العصر: «المراكز لها طرق تحايل لكسب المال من الآباء، لكن هو مش بيحط إيده فى جيبك ويسرق، إنما بيقولك الامتحان بفلوس، والملزمة بفلوس، والأستاذ طابع كتاب مخصوص بيشرح منه وتمنه كذا، لكن رغم كدا فى النهاية العيال بتنجح».
يرى الأب أن تجربة المراكز التعليمية أثبتت على مدار السنوات نجاحًا ملحوظًا، رغم عيوبها، فلها جزء من الفضل فى حصول الطلاب على مجاميع مميزة فى مرحلة الثانوية العامة، ما يؤثر على النسبة النهائية للنجاح على مستوى الجمهورية، إلا أنها بالضرورة تسرق الأضواء من المدرسة، الأمر الذى يعتبره الأب خطأ من المدرسة بالأساس: «كون أن ما فيش مدارس فده قمة المأساة، الأولاد بتغيب والشرح غايب وإعادة القيد بـ100جنيه، فى حين المفروض السنتر يكون مكمل للمدرسة مش هو الأساس».
يعتقد سلامة أن المدارس صارت تفتقد عوامل الجذب الملائمة لإبقاء الطلاب داخل جدرانها، فضلًا عن جودة الخدمات التعليمية المقدمة للطلاب فى مرحلة شديدة الحساسية والأهمية كمرحلة الثانوية العامة، فيما يتساءل الأب عن مصدر وجود الأساتذة فى المراكز التعليمية: «يعنى همّ مدرسين المراكز دول فئة تانية؟ لأ هم مدرسين المدارس، لكن سايبينها وبيروحوا المراكز».
ويقول يوسف عادل، ولى أمر طالبة فى المرحلة الثانوية، «المصرى اليوم» إن مراكز الدروس الخصوصية باتت واقعاً ينبغى التعايش مع وجوده، فى ظل عدم وجود بديل، موضحاً أن حال إغلاق هذه المراكز ستكون العواقب أكبر على المواطن العادى؛ لأننا سنكون مضطرين للتعاقد مع المدرس بشكل خاص فى المنزل، وبالتالى يرتفع أجره المالى لثلاثة أضعاف عما ندفعه فى «السنتر».
وقدر عادل حجم إنفاقه على دروس ابنته فى المرحلة الثانوية بنحو 1200 جنيه شهرياً، قائلاً:«إن ابنته لا تحصل على دروس فى البيت، وكلها فى السنتر مع عشرات الطلاب ما يقلل الأموال التى أدفعها شهرياً لها، وإن المقابل المادى للحصة فى المنزل قد تصل إلى 250 جنيها أو تزيد عن ذلك حسب شهرة المدرس فى المادة التى يدرسها».
يقول كمال مغيث، الخبير والباحث بالمركز القومى للبحوث التربوية، لـ«المصرى اليوم» إن مشكلة الدروس الخصوصية لها علاقة بأزمة التعليم ومشاكله الحقيقية، موضحاً أن مسألة قرار الإغلاق المباشر لهذه المراكز لن يضع حلولاً للأزمة، ولكن الحل الصعب هو تطوير ورفع من كفاءة العملية التعليمية داخل المدارس الحكومية والخاصة بما يجعل حضور هذه الدروس لن يقدم جديدا. ويضيف مغيث أن القرارات الوزارية لن تنجح فى القضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية والمراكز التعليمية، مؤكداً أن الأمر يحتاج إلى رفع أجور المعلمين فى المدارس الخاصة والحكومية، وتطوير المناهج، والإشراف الدائم على الحصص التعليمية ومحتواها.
فى الوقت الذى تتهافت فيه النسبة الأكبر من المدرسين للعمل فى المراكز التعليمية، قرر «أحمد. م»، مقاطعتها، وقام بما يشبه «المراجعات» ورفض التنازل عن كرامته، رغم أنه يعلم أن راتبه لن يكيفه إذا قرر التوقف عن الدروس الخصوصية والتعامل مع «السناتر» ومن يديرونها. واختار أحمد السفر إلى إحدى الدول العربية، ليس لأنه يهوى جمع المال، ولكن لأنه يريد جمع مبلغ لـ«الستر» وانتظاراً لحال تعليمى أفضل «دون سناتر»، وفى هذه الحالة فقط سيعود للعمل فى مصر. أحمد، روى لـ«المصرى اليوم»، شهادته عن حال التعليم:
«تعالى احضر مجاناً واحصل على دولارات.. لدينا إمبراطور الفيزياء.. وابن حيان الكيمياء وأرسطو الفلاسفة.. شعارات كثيرة ترفعها السناتر لجذب الطلاب وكلها «سبوبة» لأصحابها، وبعضهم غير متعلمين أو مؤهلين بالمرة. بدأت السناتر التعليمية كمراكز تقوية فى المساجد والكنائس على حد سواء، وكان هدفها بالفعل أن تكون «مراكز تقوية» لطلاب الأحياء السكنية غير القادرين ثم حلت محلها «السناتر». ثم توغلت وانتشرت «السناتر» كالورم السرطانى، الذى يصعب إيقاف نموه أو استئصاله، فأى شخص سواء كان مؤهلا أو غير مؤهل، متعلم أو غير متعلم، لديه «شقة» قريبة يحاول استغلاها لتأسيس «سنتر تعليمى»، فهو لا يغلق أبوابه طوال العام، وبمجرد انتهاء امتحانات الثانوية العامة، يبدأ الدور الثانى، وبعدها يتم بدء دروس العام الجديد مبكراً، الحقيقة أن التعليم «أحلى سبوبة»، ويتنازل البعض مقابل الأرباح عن أى مخالفات وكأنهم يرفعون شعار «غير مبادئك وافتح سنتر».
أولى هذه المخالفات التى يغض أصحاب السناتر والمدرسين الطرف عنها، هى السماح للأولاد بالاختلاط «غير البرىء» مع الأولاد، وتنظيم رحلات ترفيهية إلى مكان ما تحت دعوى أنها «جائزة للمتفوقين»، فضلاً عن عدم حظر المدرسين أو المشرفين، تدخين الطلاب للسجائر أو تعاطى المخدرات، و«طبعاً ما فيش مانع من إقامة أعياد الميلاد للطلبة فى إطار الرفاهية والحرية المطلقة».
العلاقة بين الطالب والمدرس تأتى على حساب الأخير، وصلت لحد نداء الطلاب على المدرسين بأسمائهم مجردة من لقب «مستر» أو «استاذ»، فى شكل يكشف ضياع هيبة المعلم، فى سبيل جمع المال الذى يحصل منه مالك «السنتر»، عادة على 30 أو 35 %. تعاملت مع أصحاب سناتر كثيرين، أعرف منهم من كان يأتى للسنتر الساعة 5 مساءً لـ«يلم الغلة»، قبل السهر فى الكباريهات حتى الفجر، وتعاملت مع آخر كان يدبر المؤامرات مع المدرسين لإبعاد زملائهم والتعاون مع آخرين لـ«قطع رزقهم».
لم تمنع الرقابة على هذه المراكز التعليمية، من انتشار إعلانات ترويجية لأكثر من مركز للدروس الخصوصية على منصة «olx»، المتخصصة فى إعلانات البيع والشراء والتأجير، حيث يمكن من خلالها لأى شخص استئجار أو التعاقد على مكان يصلح كمركز تعليمى.
وتوضح إعلانات «OLX» أسعار استئجار إحدى القاعات داخل «السنتر» والتى تتراوح ما بين 200 لـ300 جنيه، وذلك لساعة واحدة، وتزيد القيمة حسب استخدامات المُدرس واحتياجاته، فضلاً عن استخدام شبكات التواصل الاجتماعى لنشر أحدث المواعيد للدروس، وقائمة بمدرسى كُل سنتر مُتعاقد معه، وتقديم خصومات للطلبة الحائزين على درجات مرتفعة فى الامتحانات الدورية التى يختبرهم فيها أستاذ المادة.
«السنيورة، وحش الفيزياء، الأسطورة»، لافتات تنتشر على جدران شارع بين السرايات بمحافظة الجيزة، وهى ألقاب لمعلمى الثانوية العامة والشهادة الإعدادية لجذب الطلبة والطالبات نحو المجموعات التى تنظمها مراكز للدروس الخصوصية، كوسائل ترويج للمدرس والمركز.
يقول محمد عادل، عامل بأحد مراكز الدروس الخصوصية: «هذه الألقاب تكون بالاتفاق بين المدرس والمركز كوسائل دعاية، والمراكز بدأت تقلل اللافتات المكتوبة على الجدران علشان الحملة من جانب وزارة التربية والتعليم».
وتتنوع لافتات الدعاية للمدرسين والدروس الخصوصية بين لافتات ورقية وأخرى مطبوعة يوزعها العاملون فى «السنتر» على المنازل، وفقاً لعادل، الذى يضيف كذلك أن الاتجاه الأكبر هو استخدام اللافتات الورقية التى يتم توزيعها بعد صلاة الجمعة أو فى المدارس.