حين أبديت اندهاشي من هذه الأطباق الموضوعة أمامي على الطاولة، و التي لا أعرف لا اسم و لا مكونات أياً منها، قال لي صديقي الصيني أن هناك مثلاً معروفاً هو أشبه بالنكتة مفاده أن الصيني يأكل كل ما في الأرض إلا المحراث، و كل ما في السماء إلا الطائرة، و كل ما في البحر إلا الغواصة، لم يكن صديقي مبالغاً فيما قال، فكل شيء هنا يتم طهوه، بما في ذلك طحالب البحر، و العصافير، و حتى التماسيح، و أشياء أخرى كثيرة، إلا أن الخضروات هي الطبق الأول على المائدة الصينية، سواء كانت نية أو مسلوقة.
و كعادة كل شيء في الصين، يعود تاريخ المطبخ الصيني و تاريخ مكوناته إلى آلاف السنوات، و يستمد مكوناته و آدابه بل و أدواته من الأساطير و التعاليم البوذية و الكونفوشيوسية، فالصيني و إن كان اليوم يأكل اللحم، رغم أن كلا الفيلسوفين منعا أكل اللحوم، إلا أن ما يكفي فرد واحد من اللحوم في الولايات المتحدة يكفي ثمانية أشخاص هنا في الصين، لازالت تعاليم بوذا و كونفوشيوس تلعب دوراً كبيراً في حياة الشعب الصيني إذن، فاللحم يرتبط بشكل كبير بمرض الإنسان، أما الخضروات و الفواكه الطازجة فكلها فائدة لجسم الإنسان، كما تقول تعاليم الفيلسوفين.
و الحقيقة أنني دفعت ثمن هذه التعاليم حينما قررت تناول طعامي في مطعم صيني، لم يكن أمامي سوى استخدام العيدان الخشبية، فتعاليم كونفوشيوس التي تدعو إلى السلام و المحبة بشكل كبير، تمنع استخدام أي أدوات أخرى على طاولة الطعام مثل الشوكة و السكينة و غيرها، حتى أنها تمنع أن تكون العيدان الخشبية نفسها على شكل أي آلة حرب، كأن تكون مدببة مثلاً، سمعت كثيراً من قبل عن "الأعجوبة" المتمثلة في هذا الصيني الذي يأكل الأرز بالعيدان الخشبية، إلا أنني لم أجرب هذا من قبل، أما الآن فالوضع قد اختلف، فالطريقة الوحيدة التي بات من الممكن تناول الطعام بها هي العيدان الخشبية، لم يكن الأمر سهلاً في بدايته، إلا أنني بت أفضل بعد ذلك الأكل بهذه العيدان طالما كنت في الصين.
و العيدان الخشبية هنا في الصين ضرورة من ضرورات الحياة، و لا يمكنك أن تتخيل طعام، أي طعام، بدون العيدان الخشبية، ففي المطاعم مثلاً، و خاصة الشعبية منها، ستجد البيض و قد وضعت أربعة منه أو ثلاثة في عود خشبي، و طبعاً البيض هنا لا يتوقف على بيض الدجاج كما هو الحال عندنا في مصر، بل كل أنواع البيض، بما في ذلك بيض الحمام و بيض السمان، ستجد أيضاً الأسماك و قد اخترقت كل سمكة منها عود خشبي، تستطيع أن تحمل السمكة به لتأكلها، بالإضافة إلى ذلك كل ما يمكن أن تتخيله من طعام سواء لحوم أو خضروات، أو مأكولات بحرية مثل الأخطبوط، أو حتى الفاكهة مثل الأناناس بالعيدان الخشبية و البطيخ كذلك.
و التعامل مع العيدان الخشبية له سلوكيات خاصة لا يجب تجاوزها، فالعيدان يجب أن توضع أمام كل فرد و يكون طرفاها المدببان موضوعان على قطعة خشبية تشبه الهلال، و بالتالي لا يجب وضع العيدان في الأطباق التي تتغير على المائدة، أو الأطباق الكبيرة المشتركة، كما أن على الشخص الذي يأكل بها عدم استخدامها في اللعب في الطبق الذي أمامه بعد انتهائه من الطعام، و أيضاً يجب عدم تحريكها في الهواء لاعتقاد الصينيون أن هذه الحركة تجلب الحظ السيئ، بالإضافة إلى أنه يجب عدم إمساكها بشكل يوحي بأنك تمسك سكيناً أو أي آلة قتالية، إمعاناً في تنفيذ تعاليم كونفوشيوس.
و المطبخ الصيني يتكون من ثمانية أطباق رئيسية، كل طبق منها له ما يميزه عن غيره، فطبق شاندونج يتميز باستخدام البصل و الثوم بكثرة، و المأكولات البحرية و أحشاء الحيوانات، أما طبق جيانغسو فيتميز بقوامه السميك و قلة الدهون فيه، و من أشهر أكلاته السمك بالبط، و زعانف القرش، و الدجاج مع البطيخ، و يشتهر طبق تشجيانغ بخفة الطعم و من أشهر أصنافه الجمبري بشاي لونغ جينغ و الدجاج المشوي، أما طبق جوانج دونج فيتميز بالقلي و التحمير، و يتميز طبق هونان بالمواد الحريفة التي تضاف إليه، أما طبق فوجيان فيتميز بالحلاوة و الحموضة في آن، و يتميز طبق سيتشوان و هو الأشهر بين الأطباق الصينية بالمواد الحريفة التي به، و بشكلها الأنيق المعتمد على تعدد الألوان.
ثقافة الطعام في الصين على كل حال، لا تهتم فقط بمذاق الطعام، و إنما أيضاً برائحته و شكله و ألوانه، فالصيني بشكل عام يقدس الطعام، فالطعام بالنسبة له هو الحياة، حتى أنه يقول أن السماء تحب من يأكل جيداً، إلا أنه يؤمن أنه ليس كل الطعام مفيداً للحياة و استمرارها، فهناك من الطعام ما قد يكون تأثيره السلبي على الإنسان أكبر من أي تأثير إيجابي، مثل اللحوم على سبيل المثال، و هناك من الأطعمة ما تفيد الجسم و تعني لدى الصيني استمرارية الحياة مثل الفواكه الطازجة و الخضروات، و قد يكون ذلك سبب أن المثل الصيني قال يأكل جيداً و ليس يأكل كثيراً، و على كل حال، فإن احترام الصيني لطعامه، ينعكس أيضاً على احترامه لمواعيد وجباته، حتى أنك تستطيع أن تضبط ساعتك على الثانية عشر ظهراً، عندما تجد الكل هنا في الصين و قد بدأ في تناول وجبة غدائه، سواء في المنزل أو العمل أو المطعم أو أي مكان.