مائة عام بالكمال يتمها اليوم نجيب محفوظ.. هو نفسه الذى رحل عنا قبل 5 أعوام. هى المفارقة إذن، فكيف يحضر من غاب عنا؟ وكيف يرحل الماكث فينا؟ للإجابة يكفيك أن تطالع «الحرافيش» أو «المرايا» أو «ثرثرة فوق النيل» أو «اللص والكلاب» أو تشاهد «بين القصرين» أو «قصر الشوق» أو «السكرية» لتتأكد أن الكتب لا تموت، وأن السطور لا يمحوها الزمن ولا يعلوها الغبار. وأن اسم صاحبها لايزال يتردد بين جنبات أزقته التى أحبها وأطال السير فيها وتأمل منها وجوه العابرين. الاسم لايزال حاضراً يردده من يهوى الأدب والتاريخ والحياة.. من يدرك معنى الالتزام.. من كان موقنا بأن الدراويش لايزالون هنا، قابعون فى تكاياهم، يتأملون مثله وينتظرون اللحظة المناسبة ليثوروا.. وليرقصوا فرحاً بعون السماء.. حين يزول فتوتهم الباطش والهش ويترقبون آخر ربما يحمل معه العدل. نجيب محفوظ لم يغادر البيت. «المصرى اليوم» تحتفل بمئوية ميلاد أديب نوبل الذى وصل برواياته عبر أدق التفاصيل الشعبية إلى العالمية، ولذلك كان وسيبقى «نجيباً» و«محفوظاً».
«محفوظ» أمام لجنة «نوبل»: أنا ابن الحضارتين «الفرعونية والإسلامية»
فى كلمته أمام الأكاديمية السويدية لجائزة نوبل التى ألقاها الكاتب محمد سلماوى، نيابة عنه أكد الأديب نجيب محفوظ أنه ابن حضارتين «فرعونية وإسلامية»، مطالباً المثقفين بالعمل على تطهير البشرية من الكذب والغدر والقسوة والتلوث الأخلاقى، وداعياً لإنقاذ الجائعين الأفارقة والفلسطينيين من الرصاص والعذاب، وهذا نص الكلمة:
سيداتى سادتى..
فى البدء أشكر الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل التابعة لها على التفاتها الكريم الاجتهادى المثابر الطويل، وأرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثى إليكم بلغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم، ولكنها هى الفائز الحقيقى بالجائزة، فمن الواجب أن تسبح أنغامها فى واحتكم الحضارية لأول مرة. وإنى كبير الأمل ألا تكون المرة الأخيرة، وأن يسعد الأدباء من قومى بالجلوس بكل جدارة بين أدبائكم العالميين الذين نشروا أريج البهجة والحكمة فى دنيانا المليئة بالشجن.
سادتى..
أخبرنى مندوب جريدة أجنبية فى القاهرة بأن لحظة إعلان اسمى مقرونا بالجائزة ساد الصمت، وتساءل كثيرون عمن أكون- فاسمحوا لى أن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية. أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصرمن عصور التاريخ زواجا موفقا، أولهما عمره سبعة آلاف سنة وهو الحضارة الفرعونية، وثانيهما عمره ألف وأربعمائة سنة وهو الحضارة الإسلامية. ولعلى لست فى حاجة إلى تعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن فى مقام النجوى والتعارف.
وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات وبناء الإمبراطوريات فقد أصبح ذلك من المفاخر البالية التى لا ترتاح لذكرها الضمائر الحديثة والحمد لله. ولن أتحدث عن اهتدائها لأول مرة إلى الله سبحانه وتعالى وكشفها عن فجر الضمير البشرى. فلذلك مجال طويل فضلا عن أنه لا يوجد بينكم من لم يلم بسيرة الملك النبى إخناتون. بل لن أتحدث عن إنجازاتها فى الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة الأهرام وأبوالهول والكرنك. فمن لم يسعده الحظ بمشاهدة تلك الآثار فقد قرأ عنها وتأمل صورها. دعونى أقدمها- الحضارة الفرعونية- بما يشبه القصة طالما أن الظروف الخاصة بى قضت بأن أكون قصاصا، فتفضلوا بسماع هذه الواقعة التاريخية المسجلة. تقول أوراق البردى أن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يجهز على الجميع فلا يشذ فى تصرفه عن مناخ زمانه. ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون. وطالبهم بالتحقيق فيما نما إلى علمه، وقال لهم إنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل. ذلك السلوك فى رأيى أعظم من بناء إمبراطورية وتشييد الأهرامات وأدل على تفوق الحضارة من أى أبهة أو ثراء. وقد زالت الإمبراطورية وأمست خبراً من أخبار الماضى. وسوف تتلاشى الأهراماً ذات يوم ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان مادام فى البشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض.
وعن الحضارة الإسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية فى رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها- فمن مفكريكم من كرمه كأعظم رجل فى تاريخ البشرية- ولا عن فتوحاتها التى غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا. ولا عن المآخاة التى تحققت فى حضنها بين الأديان والعناصر فى تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد. ولكنى سأقدمها فى موقف درامى- مؤثر- يلخص سمة من أبرز سماتها. ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد. وهى شهادة قيمة للروح الإنسانية فى طموحها إلى العلم والمعرفة. رغم أن الطالب يعتنق دينا سماويا والمطلوب ثمرة حضارة وثنية.
قدر لى يا سادة أن أولد فى حضن هاتين الحضارتين. وأن أرضع لبنيهما وأتغذى على آدابهما وفنونهما. ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة. ومن وحى ذلك كله بالإضافة إلى شجونى الخاصة- ندت عنى كلمات أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة فتوجت اجتهادى بجائزة نوبل الكبرى. فالشكر أقدمه لها باسمى وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسى الحضارتين.
سادتى..
لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجــد من فـراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟ وهو تساؤل فى محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام فى آسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون فى أفريقيا من المجاعة. وهناك فى جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قضى عليهم بالنبذ والحرمان من أى من حقوق الإنسان فى عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر. وفى الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم. هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائى وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به. فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة- رجالا ونساء وشبابا وأطفالا- تكسيرا للعظام وقتلا بالرصاص وهدما للمنازل وتعذيبا فى السجون والمعتقلات. ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب. يتابعون ما يحدث بغضب وأسى مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين فى السلام الشامل العادل.
أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصا؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره.
وفى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن نتلاشى أنات البشر فى الفراغ. لا شك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد. وزماننا يبشر بالوفاق بين العمالقة ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب. وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعى فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقى. فمن حقنا وواجبنا أن نطالب القادة الكبار فى دول الحضارة كما نطالب رجال اقتصادها بوثبة حقيقية تضعهم فى بؤرة العصر. قديما كان كل قائد يعمل لخير أمته وحدها معتبراً بقية الأمم خصوماً أو مواقع للاستغلال. دونما أى اكتراث لقيمة غير قيمة التفوق والمجد الذاتى. وفى سبيل ذلك أهدرت أخلاق ومبادئ وقيم. وبرزت وسائل غير لائقة. وازهقت أرواح لا تحصى. فكان الكذب والمكر والغدر والقسوة من آيات الفطنة، ودلائل العظمة. اليوم يجب أنت تتغير الرؤية من جذورها. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره لمسؤولية نحو البشرية جميعاً. وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسؤوليته نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة. ولعلى لا أتجاوز واجبى إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دوراً نبيلاً يناسب أقداركم. إنكم من موقع تفوقكم مسؤولون عن أى انحراف يصيب أى نبات أو حيوان فضلا عن الإنسان فى أى ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل. آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين. نحن فى عصر القادة المسؤولين عن الكرة الأرضية. أنقذوا المستبعدين فى الجنوب الأفريقى. أنقذوا الجائعين فى أفريقيا. أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب بل أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحى العظيم. أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة. والفتوا أنظارهم إلى أن مسؤوليتهم عن البشر يجب أن تقدم على التزامهم بقواعد علم لعل الزمن قد تجاوزه.
سادتى..
معذرة. أشعر بأنى كدرت شيئا من صفوكم ولكن ماذا تتوقعون من قادم من العالم الثالث. أليس أن كل إناء بما فيه ينضح؟
ثم أين تجد أنات البشر مكانا تتردد فيه إذا لم تجده فى واحتكم الحضارية التى غرسها مؤسسها العظيم لخدمة العلم والأدب والقيم الإنسانية الرفيعة؟ وكما فعل ذات يوم برصد ثروته للخير والعلم طلباً للمغفرة فنحن- أبناء العالم الثالث- نطالب القادرين المتحضرين باحتذاء مثاله واستيعاب سلوكه ورؤيته.
سادتى..
رغم كل ما يجرى حولنا فإننى ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف «كانت» إن الخير سينتصر فى العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذى لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية، أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما فى الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبوالعلاء عندما قال:
إن حزنا ساعـة الموت أضعاف سرور ساعة الميلاد.
سادتى.. أكرر الشكر وأسألكم العفو.
يحيى حقى يكتب: الرواية عند نجيب
الكلام عن الرواية لأنها الجواد الأثير عنده، الذى انتزع به قصب السبق بين كوكبة من عتاولة الفكر والفن والأدب فى جميع بقاع الأرض.
فرسانهم من كتاب الغرب وراءهم تراث عتيق، أما أبناء العرب فربما كانوا يقولون عنهم إنهم «محدثى نعمة»، بل غشم لا بأس فكم من غشيم كسب أول جولة فى لعب الطاولة.
وقد تقلبت الرواية بين حظوظ عديدة. مما قرأت أن الأب الإنجليزى قبل زماننا بقرنين، كان إذا دخل على ابنته فوجدها قد انفردت بنفسها لتقرأ رواية زجرها زجراً شديداً، لا لأنه يخاف على أخلاقها من الفتنة، بل لأنها تسمح لغيرها أن يقودها ويسحبها إلى عالم الخيال، ويزحزح بذلك ثبات أقدامها على الأرض، وربما وجدنا شيئاً من هذه النظرة عند تولستوى عندما هاجم الموسيقى لهذا السبب، والتصق بالرواية وصفها بأنها للتسلية متخذة لذلك سبيل التحدث عن الناس وعلاقاتهم وغرائب طبعهم، فلم يكن وصف المجتمع، هو هدف الرواية الأول، ولكنه مفروض عليها بالضرورة، وشيئاً فشيئاً أخذت صفة التسلية تقل، ووصف المجتمع يزداد، وحتى حين تخلصت الرواية فى آخر الأمر من اتهامها بأنها موضوعة للتسلية، وجدنا الرجل إذا تقدم فى العمر انصرف فى أغلب الأمر عن قراءة الروايات وتحول إلى قراءة التاريخ والسير، وفى عصرنا الحديث إلى العلوم حتى الحشرات.
وكان لابد فى وصف المجتمع من الاستناد إلى نظرة فلسفية، أى أننا وصلنا إلى الرواية ذات المضامين الفلسفية، وربما كان «جوته» هو الذى بدأها برواية «فاوست»، فأنت ترى أن الرواية يتجاذبها قطبان، التسلية والفكر، وتجلى الآن مطمعها الأكبر فى رواية يكون مظهرها التسلية، وفى حقيقتها معالجة قضايا فكرية، وهذا ما حققه نجيب محفوظ، وأكبر مثل على ذلك رواية «أولاد حارتنا»، فإنى أعلم منه أن صديقاً له ألح عليه إلحاحاً شديداً، أن يصحبه فيريه الحارة التى وقعت فيها حوادث هذه الرواية. وربما كان هذا الكلام كله نظرياً، أو متعلقاً بالشكل. الأهم من ذلك كله أن نجيب محفوظ لم يكتب فحسب أرقى أنماط الرواية، بل كتب الرواية المصرية منتزعة من الشعب متتبعة تاريخه وقضاياه، راسمة له مثله التى يؤمن بها نجيب محفوظ، الليبيرالية والديمقراطية، والتسامح، وأخيراً الإيمان بالعلم، وتحقق له شرط أساسى وهو أن يكون صادقاً مع نفسه، فهو لم يكتب عن العمال لأنه، باعترافه لم يخالطهم، ولا عن القرية لأنه لم تلسعه بعوضها، ولم يصب بالبلهارسيا.
من أجل هذه الصفات كلها نال الجائزة العالمية، وما هى إلا تصديق على استفتاء شعبى، حكم بالإجماع بأنه كاتب مصر الأول، المبدع، وما دخلت دكان قصاب أو بقال فى حينا إلا ورأيت أصحابه يتهللون من الفرح، ففرحت واستبشرت بأن هموم الثقافة أصبحت الآن من هموم الشعب.
دعنى من الروائى لأحدثك عن الرجل. لم أر رجلاً مثله يجمع بين التحفظ أشد التحفظ، والسماحة أجمل السماحة، جاد فى كتاباته أشد الجد، فكه فى مجالسه أشهى الفكاهة، لم أسمعه قط يستنقص أو يذم أو يغتاب أحداً. من أكبر نعم الله على أننى فزت بصداقته.
* كلمة كتبها الأديب الكبير يحيى حقى (1905 - 1993) بعد فوز «محفوظ» بـ«نوبل للآداب» عام 1988
الطاهر بن جلون يكتب: خلا البيت من السيد
حط صمت يفيض بالغم والذكريات على القاهرة. توقف كل شىء لوقت يسمح باستيعاب حقيقة أن نجيب محفوظ مات. فكما قرأنا فى «السكرية» فإن موت إحدى الشخصيات تشير إليه كلمات قليلة: خلا البيت من السيد. رجل الشارع الذى راقبه طوال حياته، الصبى الذى يخدمه فى المقهى الشعبى، الصديق، الجار، السكرتير أو الطالب الذى يطلب مساعدته فى بحث حول أعماله، كل ما يمثله الشعب المصرى بل أكثر من ذلك أضناه الحزن.
كان نجيب محفوظ من هذا الشعب، من هذا الحشد الذى لا يعرف بعضه بعضاً فى شوارع القاهرة. كان يراقب، وهو فى مقهاه، هذا البشر بعين سخية، إنسانية، وأحياناً ساخرة، خبيثة لكنها لا تحمل الشر أبداً. كان هو صوت وذاكرة هذه الحيوات المعقدة، الصغيرة، العظيمة، الرائعة وأيضاً المتواضعة، أى أنها تحمل داخلها كل خيال الكاتب، الراوى، الشاهد على عصره.
كتب بلزاك فى «بعض من شقاء الحياة الزوجية»: «لابد من التنقيب طوال حياتك الاجتماعية لتصبح روائياً حقيقياً، باعتبار أن الرواية هى التاريخ غير الرسمى للأمم». وينطبق هذا التعريف تماماً على نجيب محفوظ الذى كان قارئاً كبيراً لبلزاك، تولستوى، زولا، كونراد، فوكنر وغيرهم الكثير. نقب بدقة فى مجتمعه، فى الحى الذى يعيش فيه، فى شارعه. رأى ولاحظ ما هو أبعد من الرؤية المباشرة، ما هو أبعد من الظاهر. وبخيال إبداعى استثنائى، استطاع أن يصنع من الحياة الاجتماعية لبلده الرواية العربية الكبرى التى لم يكتب مثلها. لا يمكن أن نفهم مصر دون محفوظ، دون أبطاله الذى يتماهى معهم كل قارئ. يقص حيوات، أو بالأحرى حيوات بأكملها توظف الأدب وتصير مراجع لازمة لفهم البلد وتعقيداته. مثله مثل بلزاك وزولا، كان يستمع إلى شعبه، كان يخدم شعبه معتقداً أنه يثريه ويمده بكل الإمكانيات كى يجعل من الأدب أكثر من كونه إطلالة على العصر جزءاً أساسياً من الواقع اليومى.
قيل عن محفوظ إنه ينتج أدباً واقعياً، ويالخطأ هذا القول! لا توجد واقعية ببساطة لأن الحياة خاصة الحياة القاهرية هى نفسها تخيل، متعذر سبرها، لا تنفد حيث تحاذى المأساة الملهاة، حيث تسيل الدموع فرحاً أو حزناً. لم يكن محفوظ فى حاجة لابتكار مواقف وأدوار جديدة. كان تكفيه مراقبة الكائنات من حوله. كانت هى زاده وجعلت منه أكبر كاتب عربى فى القرن العشرين.
كتب كل أنواع الكتابة حتى ما يعرف بالكتابة الجديدة، وكان ذلك فى الستينيات. أمر كان يروق له. صارت لغته التى كانت فى البداية كلاسيكية حكيمة أكثر ابتكاراً، وتوافقت مع ما كان يسمعه فى شوارع حيه الذى لم يغادره أبداً. لم يكن فى حاجة إلى السفر. يحكى أنه غادر القاهرة مرة أو مرتين لا أكثر. كان مسافراً ساكناً، مكتشفاً للروح البشرية من على مكانه فى المقهى.
تأثيره فى العالم العربى كان واسعاً جداً، خاصة بعد الاعتراف الدولى بحصوله على نوبل عام 1988. كان لهذا الامتياز تأثير رمزى مهم على عدد من الكتاب العرب. لقد حررهم، منحهم من الجديد الثقة فى إقدامهم وفى عملهم الإبداعى. هم لا يكتبون مثله لكن قوامه الذى يظلهم يساعدهم على المثابرة فى «التنقيب فى الحياة الاجتماعية».
* مقطع من كلمة نشرها الروائى المغربى الطاهر بن جلون بعد وفاة محفوظ عام 2006