لا يمكن نسيان مشهد أصابع الفنان العبقرى محمود المليجى، فى فيلم «الأرض»، وهى تنزف دماً أثناء تمسكه بالأرض، ومحاولته قطف إحدى لوزات القطن أثناء سحله فى أرضه التى تجرفها السلطة، وهى لقطات تمثل حقيقة علاقة أى فلاح بالأرض.
يمثل الفلاحون نحو 51 مليونا، أى ما يقرب من نصف عدد السكان، ومنذ نحو 35 عاماً كان الغالبية العظمى من الأطفال أبناء لمزارعين، إذ إن فئة أصحاب الوظائف أو ملاك الورش ورجال الأعمال والتجار لم يكن حجمها كما هو حالياً، وتفتحت عيون هؤلاء الأطفال على الأرض والمواشى والزراعة، وكانت الفلاحة بالنسبة لهم أشبه بلعبة، يشعرون بسعادة شديدة عندما يركبون حمارا أو جاموسة، أو يلعبون وسط محصول القمح والفول فى الأجران.
وبمجرد أن يكبر هؤلاء الأطفال قليلاً يبدأون فى العمل فى أراضيهم باستخدام «المنقرة»- فأس صغيرة- لتنقية الحشائش، وتتطور مهامهم إلى التسميد ونقل المواشى من المنزل إلى الحقل والعكس وإطعامها وتقديم المياه إليها وأحياناً غسلها بالماء، وأخيراً الرى الذى يحتاج لمهارة خاصة.
الفلاحة مناحة ولكنها ممتعة أيضاً، فبعد ساعات من العمل تحت أشعة الشمس الحارقة صيفاً، أو فى برودة الشتاء ومع هطول الأمطار، يمكن الشعور بالسعادة عند الجلوس فى الظل وشى الذرة أو تناول الفول «الحراتى»، وتفاصيل كثيرة أخرى، مثل الألوان التى تكسو الأرض مع كل حالة، أخضر بلون حقل البرسيم وأصفر عند استواء القمح. الأرض تمنح قوة، ليس لأن الفلاحين يمارسون عملاً يدوياً، ولكن لأنها تمثل «الستر»، يكفى أن جنى محصول القطن يعنى القدرة على شراء الملابس الجديدة فى الأعياد وللمدارس، وتزويج الأبناء، كما أن الفلاح على الأقل فى الماضى كان لا يمكن أن يشعر بالحرمان، لأن إنتاج الغيط موجود فى المنزل طيلة العام من قمح وفول وذرة، لذا لن يحتاج إلى شراء خبر، ولم يكن ليخطر هذا الأمر على ذهنه من الأصل.
يشعر الفلاحون بالفخر مع مشاهد العبقرى محمود المليجى، الذى مثل شخصية «محمد أبو سويلم»، الفلاح الثائر الذى شارك فى ثورة 1919، وهى فكرة لم يتم تناولها فى الدراسات التاريخية بتوسع، إذ إن المساس بالأرض بأى شكل قد يتسبب فى مشادات ومعارك طيلة الوقت، لأن الفلاح لا يتسامح فى هذه المسألة. تريدون أن تعرفوا كيف يشعر أبناء فلاحين فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى؟... أقول لكم إنها نفس الحالة التى جسدها الفنان يوسف وهبى فى فيلم ابن الفلاح، والذى يمثل انتصاراً للفلاح المصرى الذى كان حكام أسرة محمد على وقوات الاحتلال البريطانى تتعامل معهم وكأنهم عمال يومية رغم أن مصر بلدهم وهم ملاكها الأصليون.
كان محمد أفندى ابن الفلاح يلوم على شقيقته، مديحة يسرى، محاولتها التشبه بأولاد الذوات، لدرجة الخجل من أمها الفلاحة البسيطة التى «تخبز العيش» فى الفرن، لكنه بوضوح شديد وضع الحقيقة فى شكلها الصحيح، وهى أن الفلاح هو الأفضل، وأن الفلاحة أمر يدعو للفخر، لذا نافس الباشا الذى يملك أطياناً بالقرية فى انتخابات مجلس النواب فى تعبير واضح على أن الفلاح هو الأحق بحكم البلاد.
إذا أردت أن تعرف حقيقة السعادة الموجودة وسط الغيطان يمكنك مشاهدة فيلم «خرج ولم يعد»، بطولة الفنانين يحيى الفخرانى وفريد شوقى وليلى علوى، وإخراج محمد خان، وهو قطعة فنية تجعل الإحساس بالسعادة يتسرب إليك وهو يحكى عن عطية، الموظف البسيط بالقاهرة، والذى يريد بيع أرضه فى القرية التى كان ينتمى إليها ليتزوج من إحدى فتيات العاصمة المزدحمة والكريهة، والعشوائية، لكنه يجد سعادته فى البقاء فى الأرض والارتباط بإحدى بنات إقطاعى قديم.