تسارعت دقات قلب «حمد حسب بريّك» عندما رأى أمواج البحر تحتل تيتانيك، اختل توازنه بعدما تمايل الجميع تجاه البحر خضوعا لانهزام السفينة فى حربها ضد الموت.
رأى «حمد» أصدقاءه العرب يرقدون فى إحدى زوايا السفينة يرثون أنفسهم قبل الموت، مغنين بصوت عال: «ابكى ونوحى يا حردين.. على الشباب الغرقانين.. غرق منك 11 شاب بسن الـ25.. منهم سبعة عزّابى.. والبقية مزوجين.. ما فيهم واحد شايب.. كلن بالـ25»، فهم كانوا على علم بأنه فور غرق السفينة، لن يعلم أسماءهم أحد، ولن يعلموا قصتهم ولن يرثهم أحد، وسيصبحون نسيا منسيا.
حاول «حمد» عدم التشتت بسماعه لكلمات الرثاء، فإذا تخللت هذه الكلمات إلى عقله، لن يفكر فى أى محاولة للإنقاذ، كما أبعد نظره عن لحظة بدء احتضان البحر للسفينة، فى قصة حب سوداوية لن تكتمل بين الموت والحياة، ثم قال لأصدقائه «ميرا» و«هنرى هاربر»: «أؤكد لكم، لن نموت اليوم».
هذه الأحداث ليست جزءا من الفيلم الأمريكى الشهير «تيتانيك»، إنما أحداث حقيقية تروى للمرة الأولى عن «حمد حسب بريّك»، الراكب المصرى الوحيد على متن الدرجة الأولى من تيتانيك، والذى استطاع النجاة من فاجعة غرقها، وروتها عائلة «حمد» من بين عشرات القصص التى وقعت قبل 106 أعوام من الآن.
لا يعلم أحفاد «حمد حسب» تاريخ مولده بالضبط، فلا توجد لديهم أوراق ثبوتية يحتفظون بها منذ القرن التاسع عشر، ولكنهم يتذكرون أنه كان يبلغ من العمر 27 عاما، عندما كان على متن تيتانيك.
يتذكر حفيده «محمد سراج الدين» شكل جده جيدا، فيقول: «جدى كان جميل، كانت عيناه زرقاء، ووشه أحمر أوى، شعره أسود، وكان طويلا وعريضا، لما كان يلبس اللبس الأجنبى ماكنش حد يفرقه عن الأجانب، ولما كان يلبس القفطان تحسيه عالم، ما هو عالم فعلا»، وهنا يشير «سراج الدين» إلى تخرّج جده فى مدرسة العالمية، التى كانت تعادل شهادة الأزهر وقتها.
«سليل الأشراف»، «شيخ العرب»، لقبا «حمد» من عائلته وأصدقائه، فقد كان يتباهى بأنه من نسل سيدنا الحسين، وكان معه شهادة بذلك، كما كان يمتلك 15 فدانا فى منطقة كفر الجبل، ولهذا أطلق عليه الناس فى المنطقة شيخ العرب، مع أنه كان لا يحب هذا اللقب لكرهه للتمييز.
لم يستطع «حمد» الذى علّم نفسه ثلاث لغات، الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، كان يتحدثها بطلاقة، أن يصبح شيخا، إذ شغفه السفر حبا، فعمل مترجما بمكتب «توماس كوك وابنه» للسياحة، بفندق شبرد بوسط البلد بالقاهرة، وخلال عمله تعرف «حمد» على أصدقاء من جميع أنحاء العالم، وكان يفتح باب منزله لهم، ويرد إليهم الزيارة فى بلادهم أيضا.
فتحت الحياة أبوابها على مصراعيها أمام الشاب الوسيم «حمد»، فبعد النجاح فى العمل، والسفر فى مختلف بلاد العالم، لم يتبق له إلا بحثه عن شريكة الحياة، واختار «حمد» الزواج من سليلة أشراف مثله، فتزوج من حفيدة عائلة «الخربوطلي» التى حصلت على أرض وقف بأمر من السلطان، «فاطمة حسين كامل كاتوخدة الخربوطلى».
لم يمر سوى شهرين على الزيجة السعيدة، وعلم «حمد» بأنه سيصبح أبا، ولكن هذه لم تكن الأنباء الوحيدة التى تلقاها فى هذا الوقت، فقد دعاه أصدقاؤه، الزوجان الأمريكيان «ميرا وهنرى هاربر»، للسفر معهما فى رحلة على السفينة التى يتحدث عنها العالم، ويقول المارة فى الشوارع بأن بها العجب العجاب، السفينة التى لا تغرق، «تيتانيك»، فوافق «حمد» على السفر، تاركا زوجته العروس وحدها فى القاهرة.
يقول «سراج الدين» عن تلبية جده لدعوة السفر بهذه السرعة بالرغم من حمل زوجته: «وافق جدى على السفر مع «هنرى هاربر» وزوجته «ميرا»، بسبب إغراء «هنرى» الشديد له بشدة جمال السفينة، كما أن لديه أصدقاء كثيرين فى أمريكا كان يحب زيارتهم، فوجدها فرصة لكى يرى العالم على متن سفينة جديدة مع أصدقائه، من سيرفض هذا؟ وليس صحيحا أن جدى قبل العرض لأنه كان مجانيا، أو لأنه ليس معه ما يكفى من المال لشراء تذكرة على متن الدرجة الأولى لتيتانيك، فزوجته وشقيقه «سيد» من الأعيان، كما أنه كان ثريا بسبب عمله، فقد كان لديه فيلا بكفر الجبل، ومنزل بشبرا، وآخر بمصر الجديدة، وكان سخيا، يقيم الحفلات لأصدقائه الأجانب دائما فى منزله، وقد دعا إليها «هنرى» و«ميرا»، فأرادا أن يردا له الدعوة بتذكرة السفر، ولا يوجد شاب فى العالم سيرفض عرضا كهذا، كما أن الرحلة كانت لعدة أيام فقط، فكان سيعود لزوجته سريعا».
لم تكن دعوة «هنرى هاربر»، الأمريكى الثرى الشهير، أحد أعضاء مجلس إدارة دار نشر «الإخوة هاربر للنشر»، لصديقه «حمد»، مجرد تذكرة للسفر على متن الدرجة الأولى بسفينة تيتانيك، والتى كان ثمنها ٤٫٣٥٠ دولار، بل شملت دعوة لقضاء عدة أيام فى باريس، على متن تيتانيك من ميناء شيربورغ.
«العربى الغامض»، هذا هو اللقب الذى أطلق على «حمد» من قبل الموقع الأمريكى الذى يوثق حياة ركاب سفينة تيتانيك، فعند جمع المعلومات، لم يجدوا أى شىء يدلهم على «حمد»، وكل ما قيل عنه من الناجين، إنهم لاحظوا أنه سافر معهم على الدرجة الأولى شخص عربى، علموا ذلك من ملامحه، لكنه كان لا يتحدث مع أحد.
«ميرا هاربر»، اسم ستجده ملاصقا لـ«حمد» فى جميع المعلومات الخاصة به على موقع السفينة Encyclopedia Titanica، فقد كان مكتوبا على تذكرته فى خانة الوظيفة، الخادم الخاص بالسيدة «ميرا هاربر»، وقد كان دائم الجلوس معها، وفى الصورة الوحيدة التى التقطت لقارب النجاة رقم 3، الذى ركبه «حمد» مع «ميرا» و«هنرى» خلال إنقاذهم من السفينة، كان هو من يجلس بجانبها، وليس زوجها، وهذا ما يجعل تساؤلا يلح فى الأذهان، ما طبيعة العلاقة بينهما؟
ابتسم حفيد «حمد» عند سؤالى ما إذا كانت «ميرا» أحبت «حمد»، فقال «سراج الدين»، «جدى كان صارما، جميلا، ومثقفا، وكان الأجانب يحبون ذلك، فقد كان جدى بمثابة مستشار لصديقه (هنرى) ولزوجته (ميرا) أيضا، وما كان يجمع (ميرا) بجدى هو علاقة صداقة وتقارب فكرى ليس أكثر».
لم تنجب «ميرا» خلال زواجها بـ«هنري»، وهذا ما جعلهما يسافران بلاد العالم أجمع، هاربين من ملل الحياة الزوجية دون أطفال، وربما شجعت «ميرا» فكرة السفر حول العالم، وتزوج زوجها «هنري» بعد وفاتها، وأنجب صبيا.
روى «حمد» لأحفاده قصة الليلة التى أنقذ فيها أصدقاءه من الغرق على متن تيتانيك، قائلا إنه كان يتجول فى أرجاء السفينة ليلا، عندما سمع صوت اتصال لاسلكى فى غرفة القيادة، حيث كان يدعو مراقب السفينة من خلاله، جميع السفن للمجىء لإنقاذهم، وقتها علم أن السفينة انشقت من المنتصف، وما هى إلا لحظات وسيبتلعهم البحر، فأسرع لإنقاذ أصدقاءه (هنرى) و(ميرا)، وروى لهما ما سمعه من غرفة القيادة، وأخذهما إلى موقع قوارب الإنقاذ، وحمل (ميرا) و(هنرى) وقذفهما فى القارب، ثم قطع الحبل الذى يربط القارب بالسفينة، لكى يرحلوا عنها بأقصى سرعة، بعد أن تكالب بقية الركاب على القارب، فقد كان كل همه فقط هو إنقاذ أصدقائه، وهو ما حدث بالفعل.
«غرق تيتانيك»، هذه كانت عناوين الصحف فى جميع أنحاء العالم فى اليوم التالى لغرق السفينة، وانتشر الخبر قبل حتى أن تعود قوارب الإنقاذ إلى الشاطئ، حيث أبلغت سفينة كارباثيا السلطات بالفاجعة، وهى السفينة التى أنقذت الناجين فى قوارب الإنقاذ، فتراص الناس على الشاطئ منتظرين أحباءهم، أو جثث أحبائهم، حيث كانت السفينة تنتشل الجثث التى تجدها غارقة فى البحر وهى فى طريقها إلى الميناء.
نشرت جريدة الأهرام خبرا على صفحاتها فى 17 إبريل لعام 1912، أكدت من خلاله أنها أجرت اتصالا مع الشركة المسؤولة عن سفينة تيتانيك White Star Line، وأكدت الشركة عدم وجود أى راكب مصرى أو عربى على متنها، وهذا بالطبع ما قالته الشركة حتى تتملص من فضيحة قتل بعض العرب بالرصاص، وأن أكثر من مات فى تلك الليلة هم العرب ساكنو الدرجة الثالثة.
فى هذا الوقت، لم يتقدم أحد من عائلة «حمد» لتكذيب هذه الأخبار، أو للإعلان حتى عن وجوده على متن تيتانيك، لتسلمهم تليجرافا من «حمد»، قام بإرساله إلى شقيقه «سيد»، فى الساعة 5:20 فجر الثامن عشر من إبريل بفندق مينا هاوس، واحتوى التليجراف على جملة واحدة: «جميعنا بخير»، ولا أحد يعلم لماذا كتب «حمد» التليجراف فى هذا الوقت الحرج بصيغة الجمع.
وبعد مراجعة الأحداث، ربما لم يكن «حمد» هو من أرسل هذا التليجراف من الأساس، فمن الممكن أنه كان فاقدا للوعى فى هذه الفترة، بحسب رواية عائلته، فهو لم يعد إلى مصر لمدة ثلاث سنوات بعد حادث غرق تيتانيك، دون أن يعلم أحد عنه شيئا.
ولدت «فاطمة الخربوطلى» ابنها «حسن» فى غياب والده «حمد»، ونشأ الصغير فى كنف عمه «سيد»، ولقّبه الجميع بـ«حسن الغريب» نظرا لغربة والده، فالبعض أعتقد بأنه غرق مع تيتانيك، والبعض قال بأنه هاجر دون رجعة، وبين هذا وذاك، انتظرت «فاطمة» مع ابنها.
بعد ثلاث سنوات، تحديدا فى عام 1915، دق باب «فاطمة»، ففتحته لتجد زوجها «حمد» قد عاد إليها مرة أخرى، أحضره بعض الأصدقاء الأجانب إلى المنزل، فأسكنته حضنها دون عتاب ومبررات، فالمهم أنه هزم التيتانيك وواجه البحار ليعود إليها ولابنهما، المهم أن «حسن» لم يعد غريبا بعد الآن.
يقول سراج الدين: «لا نعلم ما حدث لجدى خلال الثلاث سنوات، فهو لم يتحدث عن هذه الفترة، وكان قويّ الشخصية، لا أحد يستطيع التحدث معه فى موضوع لا يريد التحدث عنه، ولهذا وضعنا بعض الأسباب التى قد تكون منعته من المجيء إلى مصر لزوجته وابنه بعد غرق السفينة، فبالتأكيد تعرض لصدمة عصبية، شىء رآه هناك أفقده الذاكرة، وعندما استعادها عاد إلى منزله على الفور، أو ربما تم احتجازه هناك خلال التحقيقات التى أجريت فى أمريكا بعد غرق السفينة، وعاد عندما تم الإفراج عنه، لا نعلم السبب تحديدا، ولكن ما نعلمه، هو أن جدى لن يترك عائلته بإرادته».
ظل «حمد» معتكفا فى منزله لمدة 10 سنوات، لم يسافر خلالها إلى أى مكان، خوفا من أن يحدث معه ما حدث من قبل فى تيتانيك، والسؤال هنا، ما الذى رآه «حمد» على متن السفينة، أو فى ليلة غرقها، جعله يغيب لمدة ثلاث سنوات عن بلده وعائلته؟، ثم يتوقف عن الحديث عنها بعد عودته، ويخشى السفر إلى أى مكان طوال عشر سنوات؟، لابد أن تيتانيك فى هذه الليلة لم تغرق فقط أرواح من ماتوا، بل أغرقت أيضا قلوب وأحلام من تم إنقاذهم منها، أن يجلس بجانبك الموت لليلة كاملة ينتظرك لتغرق، وتكاد أن تراه بعينيك فى كل روح تحاول أن تنجو من المياه، مسألة ليست سهلة.
اختفى «حمد» عن أنظار الإعلام بعد العودة، فلم يذهب إلى أى شخص للتحدث عن نفسه بأنه ناج من تيتانيك، حتى إنه لم يذكر لعائلته مدى جمال السفينة، فصمتوا هم أيضا، وعن هذا قال حفيده «سراج الدين»: «أعتقد أن جدى لم يتحدث إلى الإعلام عن تيتانيك، لأنه عاد إلى مصر بعد فترة طويلة من غرقها، فكان الموضوع أصبح فى طى النسيان، كما أنه لا يحب الإزعاج، ولا يحب تسليط الضوء عليه، فربما أراد أن يعيش بهدوء وسط عائلته، حتى لا يفقدهم مرة ثانية».
قطع «حمد» صلته بكل ما يجمعه بتيتانيك، فلم ير «هنرى» و«ميرا هاربر» مرة أخرى، وتخلى عن عمله، وأصبح يعمل فى نزلة السمان مع الأجانب، حيث يؤجر لهم الأحصنة فى الإسطبل الخاص به، ويجهز لهم برنامجا لرحلة فى القاهرة، ليشاهدوا الآثار التى كان يعشقها «حمد» كثيرا.
أنجب «حمد» 6 أبناء، «حسن»، «عز الدين» الذى عمل بعد ذلك كمهندس فى السد العالى، «عطيات»، «إحسان»، «عايدة»، «ودلال»، ورزق بـ16 حفيدا، كانوا يزورونه فى الفيلا الخاصة به بكفر الجبل، ويستمعون إلى حديثه وقصص شهامته التى لا تنتهى.
يقول سراج الدين: «لم يمرض جدى أبدا سوى هذا اليوم فقط، حيث شعر بإعياء شديد فى الصباح، وكان قد قارب على أن يبلغ من العمر 100 عام، فاستدعينا له الطبيب، وقال لنا بأنه سيموت، فتجمعنا حوله حتى فارق الحياة».
لا يوجد لدى عائلة «حمد» ورقة بشهادة وفاته، ولذلك قدر حفيده «سراج الدين» بأنه توفى فى عام 1964، أو 1965، توفى «حمد» فى هدوء وسلام، على سريره، وسط عائلته المحبة، دون صراع مع الأمواج، دون سماع أغنيات للرثاء، بعيدا عن شبح «تيتانيك».