هكذا تعود، كلما ابتعد حلمه عن التحقيق، زاد تعلقه به، ليس عن عناد، أو طلباً للمستحيل، لكن عن قناعة بأن المستحيل هو أن نرضى بالظروف ولا نقهرها لتحقيق أحلامنا.. لذا لا يعتبر الصعوبة التى يواجهها فى الوصول لهدفه، تكمن فى صعوبة تحقيقه، بقدر ما تكمن فى أنه حلم جماعى: ما ينفعش أحققه لوحدى.
الرافد الوحيد الذى استقى منه «هفال قاسو» ثقافته كان حكايات الأب والأجداد عن دولتهم الأم «كردستان»، التى ضاعت حدودها وتفرق شعبها بين تركيا وسوريا والعراق وإيران، وأصبح الأكراد أقليات فى هذه الدول، وليس أصحاب أرض، من هنا بدأ حلمه بعودة الدولة الكردية، وبوصوله إلى سن 27 عاماً، تمكن حلمه منه، وأصبح مكوناً أساسياً فى شخصيته.
مر «هفال» بمراحل مختلفة من الصراع الداخلى بين قلبه الذى يجرفه الحنين للوطن الأم، ووعيه الذى استوعب علم وجود الوطن وإمكانية الانخراط مع الشعب السورى، ولطالما هزم قلبه هذا الوعى.
وفى مصر، حاول «هفال» أن يكون مصرياً، ليس بالجنسية لكن بالتصرفات، ولم يهتم كثيراً بانتقاد زملائه المصريين فى معهد السينما حيث درس الإخراج، لدرجة أنه شارك فى ثورة يناير، لكن بهدف يعتبره أسمى من مجرد إسقاط رئيس: «أنا إنسان هدفى أن الإنسان يعيش حر والموضوع مالوش علاقة بالجنسية، أقسم بالله لما تنحى مبارك حسيت إنى عايز أعيط من الفرحة.. يا جماعة مصر دى بلدى خصوصاً بعد الثورة».
ولأنه ضحية أنظمة القمع والظلم، سواء مما تعرض له فى سوريا أو ما تعرض له وطنه كردستان، ركز «هفال» فى أفلامه على قضايا الإنسان والحريات والقمع والظلم والاستبداد، ويروى ذكرياته عن مرحلة الدراسة فى سوريا: وإحنا تلامذة كنا بنلبس لبس عسكرى ولنا رتب، وأهم مادتين «مادة عسكرية» بيدرسها لنا ضابط فى الجيش وفيها بند للعقوبات إنك تمشى على ركبك فى المدرسة وأول بند فى المادة دى «نفذ ثم اعترض».. والمادة الثانية «القومية» بيدرسها لنا ضابط أمن دولة.. كانوا بيربونا على الخوف.
هذه التربية الأمنية، هى أكثر الدوافع لثورة السوريين على نظام الأسد، وحسب وصف هفال: «وصلنا لمرحلة أن الموت هين جداً على إللى إحنا بنشوفه.. شبعنا ذل ومهانات.. شبعنا خوف وظلم. الشعب انفجر.. كما أن هناك نموذجين ناجحين للثورة فى تونس ومصر».. «الأكراد فى الشمال أكثر من 300 ألف محرومين من الجنسية السورية والكردية وليس لهم حقوق المواطنة، وعندما قامت الثورة أعطوهم الجنسيات، لكن الأكراد قالوا مش هنشترى جنسيتنا بدماء إخوانا فى درعا وخرجوا فى مظاهرات تهتف: حتى لو أخذنا الجنسية هنطالب بالحرية».
حصوله على الجنسية السورية لم يغير شيئاً فى إحساسه الدائم بالغربة فى هذا الوطن، فمازال حلم «الدولة الكردية» يراوده، وبتحقيقه سينتهى إحساس الغربة الموحش الذى يسيطر عليه: نفسى المواطن الكردى يكون معروف فى العالم كأنك بتقول أنا مصرى.. خايف ييجى علينا اليوم اللى نبقى فيه زى المايا والانكا والهنود الحمر اللى انقرضوا بسبب ضياع أراضيهم.
«هفال» الذى أتم العام الماضى دراسته فى معهد السينما سيعود إلى سوريا، وسيبدأ عن طريق «السينما» بتسجيل وإثبات حضارة الأكراد وإيقاظ القضية الكردية بمنطق: لو قادرين نعمل دولة كردية، على الأقل يبقى عندنا سينما تعبر عنا، وتقول إنه كان فيه شعب اسمه كردستان.