(1)
«إزاي كنت بتعرف المسيحي من المسلم في خناقة إمبارح يا مصطفى؟»
يجلس مصطفى على أول درجة من السلم المؤدي لمدخل منزله على بعد خطوات من كنيسة مارمينا في إمبابة وهو يحك أثر جرح في ساقه: «إزاي بقى! من السحنة، دي حاجة معروفة. وكمان قلبك ودينك وإيمانك بيقول لك" يضيف صديقه سامح: «لازم تحس، دي عقيدة وأكيد بتفرق!". يقاطعه مصطفى وهو يتجه ببصره إلى أول الحارة المتفرعة من شارع المشروع حيث توجد الكنيسة: «بص مثلا اللي جاي ده. مش باين إنه مسيحي؟".
يخاطبه القادم وهو يشير إلى جرح ساقه: «إزيك يا مصطفى. سلامتك!» يرد:«دي حاجة بسيطة. إزيك إنت يا عم كرم؟ تمام؟» يقف عم كرم ويطمئن على مصطفى ويسأله عن باقي أسرته ويتبادلان الاطئمنان على الأهل والجيران. «ربنا يطمننا عليك يا عم كرم" يمضي كرم يودعه مصطفى الذي ينتظر قليلا ويتذكر السؤال ويكمل الإجابة: «شفت؟ باين عليه. وكمان إحنا هنا عارفين بعض ومين مسلم ومين مسيحي، وحبايب عادي .. لكن هم اللي بدأوا وعزة جلال الله!»
(2)
الطريق إلى شارع المشروع من شارع الأقصر مفروش بكسر الزجاج والحجارة، وبحكايات السكان عن مشاجرات واشتباكات بين مسلمين ومسيحيين أو «بيننا وبينهم»، على حد تعبير معظم الرواة. يحكون عن تجدد الاشتباكات طوال مساء السبت والساعات الأول من صباح الأحد قبل أن يفرض الجيش حظر التجول التام على معظم شارع الأقصر والكثير من حاراته.
المدرعات وسيارات الأمن المركزي وصفوف جنود الجيش والشرطة على مسافات متقاربة ولا تعرف غير كلمة «ممنوع حد يعدي». يتفاوض مع أحد الصفوف كهل نزل يشتري خبزا ويريد أن يعود إلى بيته، وامرأة تخبرهم أنها باتت عند أمها وتستعطف الضابط لكي تعود إلى بيت زوجها فيسمح لها.
أسماء الحارات تحمل على الأرجح أسماء قدامى سكانها: حارة علي محمد، حارة صليب غبريال. نسبة كبيرة من المسيحيين، معظمهم من عائلات صعيدية، يتركزون في شارع الأقصر وما حوله.
حارة وضعت بدلا من اسمها القديم لوحة بألوان علم مصر تقول: «حارة الشهيد لطفي عزام». يقول الأهالي أنه استشهد يوم 28 يناير في التحرير، في اللوحة صورة لشاب لم يتجاوز العشرين.
قريبا من تقاطع شارعي الأقصر والمشروع، على كرسيين بلاستيكيين يجلس اللواء حمدي بدين، قائد الشرطة العسكرية وبجانبه شيخ بجلباب أبيض ولحية بيضاء طويلة ينظران إلى الشارع المؤدي إلى الكنيسة الذي تسده صفوف الجنود.
يتطور المشهد مع بداية شارع المشروع، أكوام من الخشب المتفحم الغارق في المياه. تبدو قطع من الأثاث ونوافذ وأبواب أمام بناية محترقة عن آخرها، واجهات محلات تم تدميرها، أطلال مقهى.
أمام المقهى المحل الوحيد المفتوح في الشارع: مخبز إفرنجي يجلس أمامه أصحابه وعماله وأمامهم صف من الجنود يقسم الشارع إلى نصفين بشكل غير مفهوم. يشرح عبد الناصر محمد، صاحب المخبز، أنه عند هذه النقطة تنتهي عمارات المسلمين وتبدأ عمارات المسيحيين التي تتوسطها الكنيسة. لا يبدو على الكنيسة أو أسوارها أي آثار حريق أو تكسير مثل المنازل المحيطة. فقط كسر الحجارة والزجاج منتشر أمامها.
(3)
خلف أبواب الكنيسة مباشرة، لا تزال أكوام من الحجارة كانت معدة لـ«صد الهجوم»، كما يقول الشهود المسيحيون. يقف بجابنها الشاب ريمون جرجس، ذراعه مربوطة وحول عنقه شال أحمر عليه صلبان ذهبية. يقول الشباب في الكنيسة أنه كان أبرز من تصدوا للمعتدين على الكنيسة. يقول ريمون: «لم يكن معنا إلا الحجارة وكان معهم رصاص حي ومولوتوف».
يدخل الكنيسة الشيخ الملتحي، الذي كان يجلس قبل دقائق بجانب اللواء بدين ويتحدث مع بعض القساوسة عن ضرورة تهدئة الناس من الطرفين. ينظر إليه ريمون شذرا ويقول: «أكيد داخل يشوف عددنا كام ويشوف معانا إيه. مش لوجه الله!».
رغم التشديد الأمني من الشرطة والجيش، يدخل إلى الكنيسة جيران مسلمون يتبادلون أحاديث ودية أو متوترة مع الآباء أو شباب الكنيسة.
مجموعة من شباب الكنيسة يحتدون وتعلو أصواتهم تجاه الشيخ: «أنتم اللي بدأتم! أنتم ال كنتم عاوزين تدخلوا الكنيسة!» يحاول الكبار والقساوسة تهدئة الشباب.
بين بعض الشباب والفتيات تدور الحوارات الغاضبة والمذعورة عن السلفيين، تحكى إحداهن عن قصة سمعتها أنهم يخطفون الفتيات المسيحيات ويخدرونهن فيستقيظن ليجدن توقيعن على إشهارالإسلام، ويحكي أحدهم عن نية السلفيين معاودة الهجوم مساء وعن ضرورة إدخال سلاح إلى الكنيسة لرد الهجوم. يتجمع بعض الشباب في ركن يتناقشون إذا كان يجب أن يقولوا للفضائيات أننا سنرد العنف بالعنف أم لا.
يحاول الأب ميساي الاشتراك في تهدئة الشباب ولكن يبدو عليه الغضب وهو يحكي الأب عن تأخر التدخل الأمني: «بعد تجمع سلفيون يطلبون تفتيش الكنيسة ويدعون أن هناك فتاة أسلمت تحتجزها الكنيسة، وهو أمر لا نعلم عنه شيئا، تجمهر سلفيون وشباب مسيحيين أمام الكنيسة وبدأ الطرفين في الهتاف. دخل الكنيسة لواء شرطه ومعه مجموعة جنود كنا نتناقش وأول ما بدأ إطلاق الرصاص خرجوا ولم يعودوا ثانية ولم يظهروا إلا بعد ساعات بعد سقوط قتلى وجرحى». يشير إلى بيريه يمسكه قس آخر: «اللواء خرج مسرعا ونسى البيريه الخاص به".
القس الآخر يمسك البيريه ويريه لكاميرا قناة فضائية تجري معه حوارا.
خدام الكنيسة مرتبكون بين الشباب الغاضب والأهالي الملتاعين وتلبية إلحاح الصحافة وكاميرات الفضائيات واستقبال بعض الرموز والمشاهير الذين بدأوا التوافد. الكنيسة التي يبدو عليها تواضع الحال من الداخل ولا يزال مدخلها وبعض قاعات الدور الأرضي فيها بدون دهان، تبدو من الخارج شامخة وعالية ومزدانة بالزخارف وسط العشوائيات والبيوت بالطوب الأحمر.
(4)
يصر سامح ومصطفى أن الكنيسة تتلقى معونة من أمريكا وأن الأقباط الذين تظاهروا في ماسبيرو قبل أسابيع كانوا يريدون حقوقا للمسيحي تساوي حقوق المسلم، وهذا يعني عندهما أنه يمكن لرئيس مسيحي أن يحكم مصر ويعيدها دولة مسيحية كما كانت.
يضيف سامح: «بس مهما كان. إمبارح والله شلت على كتفي واحد مش من المنطقة راسم على دراعه صورة العدرا. كان واخد طلقات في رجله وهايموت تحت رجلين الناس. وأنا شلته وخرجته برا مع الواد مينا». يضحك مصطفى: «شوف سبحان الله. الكنيسة هي ال بتضرب نار لكن جات في الواد المسيحي!».
يقول سامح: «لكن الكنيسة حبست واحد محامي هنا اسمه عمرو ييجي ساعة. ينفع كده؟».
ينادي سامح ومصطفى على عمرو، الذي ينزل بملابس البيت ويشعل سيجارة ويحكي أنه سمع بتجمهر سلفيين وبعض «مشايخ المنطقة» من أجل بنت محبوسة بالداخل فذهب لاستطلاع الأمر. يقول أنه محام في مجلس الدولة ومعروف في المنطقة وأراد التدخل والتهدئة ولكن وسط الزحام والتدافع والظلام، سقط الشيخ محمد علي أرضا وهتف الشباب المسلم أنهم ضربوا الشيخ. يقول:«دي كانت آخر حاجة سمعتها وغبت عن الوعي وصحيت لقيت نفسي مصاب في الكنيسة. لكن الحق جابوا لي جوه إسعافات أولية وعصير وعاملوني بآخر كرم!».
يدخن سامح ولا يبدو عليه أي تأثر من رواية عمرو الروبي، ويضيف: "لكن ضرب الرصاص بدأ من الكنيسة»، يؤكد عمرو معه الذي قال منذ ثوان أنه فقد الوعي عند بداية الاشتباكات:«صح، ضرب الرصاص بدأ من الكنيسة، جوا فيه سلاح كتير، ده موضوع معروف. أما موضوع السلفيين الأغراب فلازم تسمع من الشيخ حسام».
(5)
الطريق إلى منزل الشيخ حسام يمر عبر حارة صليب غبريال، هنا المنازل مختلطة لكنها مميزة. صلبان على مدخل منزل المسيحيين، و«لا إلى إلا الله" مكتوبة على جدران بيت الشيخ حسام سيد». لدى الشيخ ثلاثة أولاد كل منهم أصيب إصابة خفيفة في «معركة» مساء السبت أمام الكنيسة. يحكون جميعا عن سلفيين من خارج المنطقة تجمهروا أمام الكنيسة وتحدثوا عن الفتاة عبير التي أسلم، ذهب الشيخ حسام إليهم وحاول أن يفهم الأمر إلا أن الأمر تطور سريعا إلى حشدين من المسلمين والمسيحيين. يقول أن الشرطة دخلت الكنيسة وخرجت وقالت أنه لا توجد فتاة في الخارج، فصاح سلفيون أنهم لابد أخرجوها من باب خلفي.
يحكي الشيخ حسام أن الشباب المسيحي بدأ بالاستفزاز وهتاف: «ارفع إيدك فوق، الصليب أهو» و «ارفع راسك فوق إنت قبطي». يعتبر الشيخ حسام أن ذلك استفزازا كبيرا قابله الشباب المسلم بهتاف: «إسلامية إسلامية». ويصر على أن السلفيين والمسلمين كانوا عزل وأن الرصاص بدأ من فوق الكنيسة ومن فوق عمارات مسيحيين.
شهود مسلمون يشيرون إلى أن مسيحي يدعى أطلق الرصاص من سطح منزله فأحرق مسلمون كامل البناية وألقوا أثاث البيت إلى الشارع. يقول الشيخ حسام أن هناك شقيقين يمتلكان مقهي في شارع الأقصر وآخر في شارع المشروع تورطا في إطلاق الرصاص، ويضيف أنه أبلغ الجيش عنهما وأنهما كانا أيضا ضالعين في استفزاز المسلمين سنة 1991 حيث جرت اشتباكات كبيرة بين مسلمين ومسيحين وقتها في شارع الأقصر وما حوله.
أهالي المنطقة يتحدثون عن مشاجرات عادية تنسب بين الحين والآخر تطورت أكثر من مرة إلى مشاجرات بين مسلمين ومسيحيين. والنسبة الكبيرة للمسيحيين في المنطقة، وانتشار السلاح بين العائلات الصعيدية أدى مرات عديدة لسقوط مصابين إصابات بالغة وربما قتلى ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتطور الأمر إلى هذا الحد.
(6)
«أيوه أنا ضربت المسيحيين. اكتب إن محمد حامد شارك في ضرب المسيحيين».
يبتسم محمد وهو يضيف أنه يقضي وقته على ذلك المقهى الذي يقف أمامه ويتعاطى البانجو لكي لا يقولوا مثل كل مرة أنهم السلفيين، ويشير إلى صديقه محمود الشافعي، السلفي والمستاء من كلامه. يضرب محمود كفا بكف وهو يقول: «الطرفين غلطوا لكن الغلط ما يتصلحش بغلط، وكده فتنة ودي مش أخلاق الإسلام».
يعتبر محمود نفسه سلفيا رغم أنه يبدو أكثر متأثرا بالدعاة الشباب الجدد، ويبدو منتقدا أكثر للسلفيين من خارج المنطقة ومن داخلها الذين تجمهروا عند الكنيسة وأصروا على تفتيشها. يقول مدافعا: «فيه سلفيين كتير محترمين ومسالمين، هتفت معاهم : مسلم مسيحي إيد واحدة، لكن سلفيين تانيين شتموني وقالوا لي : عار عليك تقول كده وإنت ملتزم وبلحية!».
يقول محمود أنه أخذ بعضهم إلى شيخه الذي نصحهم بتجنب الفتنة بينما نصحوه هم بأن يهب لنصرة دينه وأخواته الأسيرات وأن المسيحيين كفار وأن كنائسهم حصون للحرب على الإسلام.
يصفهم محمود بـ«التكفيريين» و«المتطرفين» ويتحدث عن أن المسلم الحقيقي يشارك في وأد الفتنة والحفاظ على البلد وعلى الثورة التي أطاحت بالظلم، ويقول أنه يتعاون مع اللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة في إمبابة، وأنه عضو حركة «شبابنا» التي تضم شباب وفتيات من مختلف الاتجاهات لنشر التسامح والأخلاق الحميدة.
لا يبدو محمد حامد مكترثا بكل ذلك وهو يؤكد أن المسيحيين قتلوا بالأمس شيوخا وأنهم يحتفظون في كنيستهم بكم هائل من الأسلحة وأن المسلمين لم يكونوا مستعدين، وأنه هرع إلى المعركة أول ما سمع وشارك في إلقاء الحجارة: «ما ينفعش نسيبهم يعلّموا علينا. امبارح ما كناش عاملين حسابنا. لكن بالليل لما الناس ترجع من أشغالها هايبقى أحد الغضب إن شاء الله". يهز محمود رأسه آسفا من كلام صديقه ويصمت.
بعد ساعات وسع الجيش من نطاق حظر التجول ووجود الجنود في كامل شارع الأقصر وأمر بإغلاق المقهى الذي كان يقف أمامه محمد ومحمود. وبعد التشديدات الكثيفة وفرض حظر التجول مبكرا على كامل إمبابة، مرت تلك الليلة بسلام.