x

محاكمة أمريكا بأثر رجعى فى «الساعة الأخيرة»

السبت 14-07-2018 05:03 | كتب: محمد الروبي |
مسرحية الساعة الأخيرة مسرحية الساعة الأخيرة تصوير : اخبار

«الساعة الأخيرة» عرض مسرحى جدير بالمشاهدة، أنتجه مسرح الغد التابع للبيت الفنى للمسرح ويعرض على قاعته بعد عودته من فترة استراحة قصيرة.

وقبل الدخول فى قراءة العرض، لا بد من توجيه تحيتين، الأولى إلى مدير مسرح الغد الفنان سامح مجاهد، الذى يثبت بهذا العرض - ومن قبله عروض أخرى - أنه من القليلين الذين يفهمون الفارق النوعى الذى يخص المسرح الذى يتولى إدارته، فالعرض كتبه شاب هو عيسى جمال الدين يخطو خطواته الأولى فى عالم التأليف المسرحى، وقد سبق أن فاز عن هذا النص بجائزة ساويرس العام الماضى. فإن تقدم شاب جديد وبنص مغامر (سنتعرض لتفاصيله بعد قليل) هو أمر يحسب للمنتج، خاصة أنها ليست المرة الأولى التى يقدم لنا فيها مسرح الغد كتابا ومخرجين جددا.

أما التحية الثانية فتخص المخرج الواعى ناصر عبد المنعم، الذى تحمس لنص صادفه أثناء اشتراكه فى لجنة تحكيم جائزة ساويرس، ومنحه مع بقية أعضاء اللجنة الجائزة الأولى. وهنا يكون ناصر عبدالمنعم قد قدم نموذجا لكيف يكون رجل المسرح الحق، إذ لم يكتفِ بمنح النص الجائزة ولكنه سعى إلى تقديمه فى مغامرة تليق بتاريخه.

«الساعة الأخيرة» لحظة درامية خاصة اقتنصها عيسى جمال الدين ليقدم عبرها محاكمة بأثر رجعى للولايات المتحدة الأمريكية التى نشأت وترعرعت على مبدأ اعتماد القوة الغاشمة فى إخضاع شعوب العالم لسيطرتها. لذلك سيعود جمال الدين إلى واحدة من اللحظات الكاشفة فى مسيرة هذا المبدأ. إنها لحظة إلقاء قنبلتين نوويتين على مدينتى «هيروشيما ونجازاكى».

اختار عيسى جمال الدين من بين تفاصيل هذه الجريمة خطا دراميا إنسانيا يخص الساعة الأخيرة فى حياة الطيار الذى ألقى القنبلة الأولى، والذى تحول مع مرور الزمن من بطل قومى تُفرد له الصفحات ويتشبه به الأطفال والمراهقون، إلى شخص منبوذ يحيا وحيدا فى منزله يجتر ذكرياته الأليمة مع تمثاله الذى كان يزين أكبر ميادين الولاية، . لكن جيران الضابط يجبرونه على نقل التمثال من الحديقة المطلة على الشارع إلى داخل منزله المفرغ من الحياة بعد أن هجرته الزوجة مصطحبة ابنه الوحيد عقابا له على جريمة رأتها مخلة بالشرف ومهدرة لكل القيم الإنسانية التى تؤمن بها.

وهكذا يحيا البطل (الذى كان) وحيدا مع تمثاله، يبثه يوميا حكايات تخص طفولته وأحلامه ونجاحاته، مبررا لذاته كيف وافق على القيام بهذه المهمة الخسيسة، بل ويحتفى معه بعيد ميلاده الأخير.

اجترار الذكريات هو المنهج الذى اتبعه المؤلف فى عرض تاريخ ذلك الطيار، وهو المنهج الأصعب فى الدراما، حيث سيطرة السرد والحكى على الفعل، الأمر الذى سيصعب من مهمة ناصر عبدالمنعم كمخرج. فكيف يمكن تحويل «الحكى» إلى «فعل» وكيف يمكن تجريد الأمكنة ومن ثم الأزمنة فى ذلك المكان الضيق الذى تتيحه مساحة القاعة. بل كيف ستتحول الشخصيات المستدعاة من ذاكرة عجوز مشوشة إلى شخصيات من لحم ودم نراها تتحرك أمامنا ويدخل المتذكر فى حوارات معها تدفع بالهدف إلى مبتغاه؟

لكن ناصر عبدالمنعم سيجد الحل، فها هو وبالاتفاق مع مصمم منظره المسرحى الفنان محمد هاشم، ينطلقان من فكرة أن ذلك العجوز صاحب ذاكرة مشوشة، فيلجآن إلى استخدام غلالة حريرية تدور من خلفها الأحداث المستدعاة ليراها المتفرج مغبشة غير كاملة الوضوح متسقة فى ذلك مع معنى (الالتباس) الذى يسيطر على عقل المتذكر بطل الساعة الأخيرة. فأغلب الأحداث نراها تدور خلف هذه الغلالة الحريرية، باستثناء بعض المشاهد التى تتمثل فى إما أنها تدور الآن أمامنا فهى واضحة بالضرورة، كالمشهد الأول الذى يزوره فيه جاره – مستر سام - المؤمن به إيمانا لا يشوبه شك، معتبرا أن ما فعله (رغم بشاعته المعترف بها) هو ما حقق لأمريكا السطوة والسيطرة ومن ثم يستحق عليه تكريما لا نبذا.. وربما لذلك اختار له المؤلف اسم (سام) ليصبح التعبير الحقيقى عن المواطن الأمريكى فى كل زمان ومكان.

وإما تلك المشاهد التى يحتفظ بها الرجل ناصعة براقة كنصل حاد ما زال مغروزا فى قلب عقله، مثل لقائه مع الفتاة اليابانية كفيفة البصر التى ظنته فى البداية ملاكا أرسله الرب ليعيد إليها بصرها. وحين تكتشف حقيقته عبر حوارها معه تسمعه من الكلمات والحقائق ما لا يمكن أن ينساه مهما تشوشت ذاكرته. أو مشهد مواجهته مع زوجته التى فوجئ بها تحمل حقيبة ملابسها لتغادر المنزل إلى حيث لا رجعة، وأيضا بعد أن واجهته بحقيقة فعلته التى جلبت لهما العار.

كذلك اختصر مصمم المنظر كافة الأماكن فى ثلاثة مستويات، أولها المستوى الآنى الحاضر الذى يمثل منزل الضابط. وهو المستوى الوحيد المرصع بتفاصيل حياتية (منضدة، كرسيان، شازلونج، كرسى هزاز وطبعا التمثال الذى هو انعكاس لذاته). ثم مستوى ثان يعبر عن تلك الأماكن المستدعاة من الذاكرة سواء كانت منزل الضابط طفلا، أو مدرسته، أو مكتب الاستخبارات الأمريكية التى ستكلفه بالمهمة. وقبلهما مستوى ثالث والذى يتخذ من أمام الشاشة الحريرية مكانا لعرض أحداث مستدعاة من الذاكرة ولكنها لا تزال واضحة وبراقة مثل مواجهته لزوجته، أو لقائه بالفتاة اليابانية.

يعتمد النص ومن بعده العرض، على منهج (خطوة للأمام، خطوتين للخلف)، فعبر تداع حر طليق تتيحه هلوسة الضابط العجوز ويدعمه احتساؤه الدائم للخمر، تتوالى الذكريات لنتعرف على كيف دبرت المخابرات الأمريكية هذه الجريمة، بل - وهو الأهم - من يدير حقا سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وبأى هدف؟ وسيأتى ذلك كله عبر شخصيات تمثل الجهاز الاستخباراتى والعالم الذى نجح فى تصنيع القنبلة، بل ووالد ووالدة الضابط ومدرسوه. فكلها تأتى فى إشارات صيغت ببراعة كاتب نظنه آتيا وبقوة فى مستقبل المشهد المسرحى المصرى القريب. وبراعة الكاتب التى نقصدها لا تتمثل فقط فى قدرته على صياغة مشاهد قصيرة ودالة وبحوار مكثف يزخر بالمعلومة الدافعة لتطور حدثه، لكنها تتمثل أكثر فى قدرته على السير بحذر على حبل شخصية كان يمكن أن ينجرف بها إلى حالة تعاطف كامل يفسد المعنى والهدف من اقتناصه لهذه اللحظة الخاصة. الأمر نفسه نجح فيه ناصر عبدالمنعم كمخرج حرص على أن يمنح المتلقى مساحة من الابتعاد تتيح له التأمل والتفكير فيما يراه دون أن يمنح بطله غفرانا كاملا، فالاعتراف بالجريمة لا يكفى وحده لنسيانها أو تجاهلها.

وعلى الرغم من أن «الساعة الأخيرة» من العروض التى يسهل تلخيص أحداثها فى سطور قليلة، فإننى حريص على ألا أقع فى هذا الفخ، لأترك لك عزيزى القارئ الفرصة كاملة للمشاهدة الحرة ومن ثم الاستمتاع بعرض أراه جديرا بالمشاهدة والاستمرار. فقط لا يمكننى إنهاء قراءتى لهذا العرض من دون أن أشيد ببراعة ممثليه وعلى رأسهم شريف صبحى (الضابط العجوز) الذى يعد هذا العرض بمثابة إعادة اكتشاف لممثل قادر وقدير. وكذلك الممثلة سامية عاطف (الأم ثم الفتاة اليابانية) التى منحها هذا العرض فرصة تقديم نفسها تقديما يليق بقدراتها. بل أكاد أجزم أن مشهدها مع شريف صبحى (الفتاة اليابانية والطيار) سيصبح مع الزمن من تلك المشاهد التى سيعتمدها الطلبة المتقدمون حديثا للمعهد ضمن مشاهد عالمية وعربية كثيرة لإظهار قدراتهم التمثيلية أمام ممتحنيهم.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية