مجتمع بسيط مترابط يحكمه الحنين إلى «الأرض» و«المياه». عادات وتقاليد تسيطر على أفكار آلاف النوبيين سواء كانوا فى القاهرة أو مساكنهم البديلة جنوب مصر. يعتبرون الزواج نوعا من «الحفاظ على الهوية» وينظرون للتقاليد باعتبارها «سلسلة ممتدة» منذ أيام فراعنة الأسرة الخامسة والعشرين الذين أسسوا إمبراطورية «كوش» الكبرى كإحدى أقوى الإمبراطوريات المصرية.
بنات من النوبة يحافظن على «النقاء النوبى» ويرفضن الزواج من غير النوبيين، قد يفوتهن قطار الزواج، قد يتعرضن لمشاكل لكن التقاليد تظل الحاكم الفعلى لزواج النوبيات. فى هذا الملف تناقش «المصرى اليوم» فتيات وأمهات وآباء وشباباً من النوبة، فرّقتهم الظروف وجمعتهم العادات والتقاليد والحنين للماضى.
«امبراطورية كوش» تتحكم فى بنات النوبة
«سامية» تجاوزت الخمسين بعامين، ورغم أن قطار الزواج تأخر كثيرا عن الوصول إلى محطتها إلا أن التقاليد أصبحت بالنسبة لها مسألة حياة أو موت: «أسرتى كانت ترفض أى عريس غير نوبى، بعد التهجير كنا نحلم بالعودة مرة أخرى لأرضنا، ومرت السنوات وتوفى والدى ووالدتى وظل الرفض مستمرا.. الآن أنا نفسى أرفض الزواج من أى عريس غير نوبى ولدىّ أسبابى» أسباب سامية تدور كلها فى فلك «الرجل النوبى الذى بلا مثيل» فهو- حسب سامية- شجاع، حنون، كريم، قوى، يحافظ على زوجته ويحترمها ونادرا ما يتزوج عليها وإن فعل فالأولى لها حقوق ثابتة لا تتغير مهما تغيرت الظروف.
«اعذرونى لأننى أقول لكم إنه لا يوجد رجل نوبى خائن لزوجته مثلاً، فعندنا النوبى يحترم قدسية الزواج ويحترم القرابة التى تربطه بزوجته ونادراً ما يريد الرجل النوبى أن يتزوج بأخرى، لكن يلح على سؤال وهو: ماذا تفعل بنات النوبة إذا خرج رجال النوبة إلى الخارج وتزوجوا من غير النوبيات؟ ماذا نفعل نحن بنات النوبة؟ وأدعو شباب النوبة ألا يتزوجوا من غير النوبيات، وأرجو من الآباء والأمهات النوبيين ألا يخجلوا بأن يعلنوا عن أبنائهم وبناتهم غير المتزوجين حتى يتزوج النوبيون من بعضهم البعض، فهذا ليس تعصباً لكنه محاولة للحفاظ على الترابط النوبى».
مشكلة سامية أصبحت شبحا تخاف منه «كريمة» الأم النوبية: «عندى بنات ومش هاجوزهم لأى عريس مش نوبى مهما كان.. إحنا عندنا عادات وتقاليد مش ممكن نغيرها، وعاداتنا مش أى حد يرضى بيها، مثلا من عادات أهل النوبة إن الضيف ممكن ييجى يبات أسبوع، ولو الزوج غير نوبى مش هايفهم إن دى عاداتنا وأشياء مقدسة جدا بالنسبة لنا وما نقدرش نغيرها.. غير كده كلنا كنوبيين بنعرف بعض بشكل أو بآخر ومستحيل أجوز بناتى لحد ماعرفوش رغم إنى قلقانة جدا والبنات رافضة التقاليد دى بس معلش بكرة يكبروا ويفهموا إن التقاليد دايما صح».
رأى هناء ابنة كريمة يبدو مختلفا وأكثر انفتاحا: «عارفة إن ماما خايفة عليا ومقتنعة إن النوبى برضه أفضل لأن له نفس عاداتى لكن إذا ما جاش النوبى أفضل بقى لحد إمتى أرفض كل واحد يتقدم لى؟ هافضل كده لحد ما قطر الجواز يفوتنى مثلا؟ هل ده معقول.. وأنا لى صديقات إتجوزوا من شباب غير نوبيين وماحصلش حاجة وكلهم بيقولوا الجواز واحد سواء مع نوبى ولا غير نوبى فى النهاية فيه زوج وزوجة وأسرة بتتكون بالاتفاق بين الاثنين.. وكمان فيه احتمال إن يتقدم لى واحد نوبى ويطلع إنسان مش كويس لأن مش كل النوبيين ملايكة يعنى، وساعتها هاتجوزه عشان نوبى وحياتى تبوظ؟ أنا عارفة إن ماما قلقانة بس أنا كمان قلقانة أكتر والعمر بيجرى ومش بيستنى حد نوبى ولا مش نوبى».
أما عبدالرحمن حسين (59سنة) وهو رب أسرة نوبية فيقول: «كل مجتمع له ثقافته ونحن كنوبيين لنا ثقافتنا الخاصة وعندما يأتى إلينا عريس نسأل فى بادئ الأمر عن أهله فنعرفهم بسهولة لأننا نعرف بعضنا البعض فإذا عرفنا الأهل عرفنا من هو الابن، ولكن لو جاءنا شاب من خارج النوبة ماذا نفعل؟ كيف نعرف أهله.؟ كيف نثق أنه سوف يوافقنا فى الطباع؟
أعرف أن هناك من يندهش من سلوك أهل النوبة ويعتبره عنصرية، لكنى أقول إن هذه عاداتنا مثلنا مثل البدو الذين لا يزوجون بناتهم من خارج العرق وأحيانا من خارج القبيلة نفسها، فلماذا لا نتهمهم بالعنصرية؟ هذه تقاليد مستمرة منذ أيام إمبراطورية كوش الكبرى منذ أكثر من 3000 سنة وحتى الآن وسوف نحافظ عليها لأنها الوسيلة الأخيرة للحفاظ على هويتنا كأهل النوبة وقاعدة مصر الحقيقية».
أما هبة «25 سنة» فتقول: «الزمان غير الزمان.. فى الأول كان فيه أسطورة اسمها شاب نوبى متزن لكن دلوقتى مع التعليم والمجتمع المفتوح كله بقى زى بعضه وكلنا مصريين فى النهاية وبنفكر فى نفس الحاجات زى الموضة والروشنة عشان كده مفيش مشكلة من زواج النوبية من غير النوبى والعكس بالعكس».
فايزة محجوب (40 عاما) أيدت وجهة نظر عبدالرحمن أو الحاج عبدالرحمن- كما يحب أن يناديه الجميع فى «رابطة أبناء تنقاله والدر»- تقول فايزة «إذا تزوج الشباب النوبى من الخارج فهذا يعنى أن تراثنا وتقاليدنا وهويتنا فى طريقها للاندثار، والفتاة غير النوبية لا تعرف أى شىء عنا وعن رعاية الرجل النوبى، والزوج النوبى من الصعب جدا أن يجد فتاة تتكيف مع هذه التقاليد لذلك على الشاب النوبى أن يبعد عن نفسه فكرة الزواج بالمخالفة لعاداتنا وتقاليدنا كى يحافظ على ما تبقى لنا من حضارة وفكر وثقافة وهوية».
أما سارة «19 سنة»- ابنة فايزة- والطالبة الجامعية، فكانت تمثل وجهة نظر أخرى «بصراحة إلى وقت قريب كنت أشعر بالضيق من تعصب بابا وماما بسبب رفضهما لأى عريس غير نوبى وكنت أعلم جيداً أنه عندما أتزوج سوف يكون نوبياً لأن أهلى يريدون ذلك مهما حاولت أن أفعل العكس، لكن بصراحة بعد فترة غيرت رأيى لأنى اكتشفت فعلا أن الموضوع له منطق سليم فالشاب النوبى من دمى والدم يحن، وأى شخص مش نوبى سوف يبعدنى عن مجتمعى وأهلى وعاداتى التى تربيت عليها وأريد أن أنقلها لأولادى».
ويرفض حمدى عزت «40 سنة» هذا المنطق رغم أنه نوبى ومتزوج من نوبية ويقول: «كل مجتمع فيه عيوبه ومميزاته وقضية التزاوج مرتبطة بالاتفاق والشروط والكفاءة للشخصين وأنا أؤيد الزواج من خارج النوبة إذا كان الشاب يحب الفتاة وظروف الزواج ناجحة فى النهاية المهم أن يعيش النوبى أو النوبية حياة مستقرة وسعيدة».
إيمان (39 عاما) سيدة نوبية متزوجة حسب تقاليد إمبراطورية كوش، ترى أن الأسرة الوحيدة التى تريدها هى «البيت النوبى» وأن العادات هى «الضمان الوحيد للبيت.. العادات دى خبرات طويلة أوى ومن زمان وهى اللى بتحافظ على البيت وتمنع المشاكل بين الزوجين، ولما يكون الأب والأم لهم نفس العادات والتقاليد الأولاد بيطلعوا زيهم». إيمان تبدو متحيزة لنوبيتها: «لو لم أكن نوبية لوددت أن أكون نوبية.. ولو عملتوا استفتاء هتلاقوا الأغلبية كلها ضد زواج النوبى أو النوبية من خارج النوبة».
يروى فخرالدين حسن «47 سنة» تجارب أقاربه الذين قرروا كسر التقاليد: «رأيت حالتين لزواج من خارج النوبة، الأولى انتهت بأولاد وأم مطلقة لأن الزوج غير نوبى، والثانية كان الزوج فيها نوبياً والعروس من الخارج وحاول أن يندمج لكن دون نجاح.. وأنا شخصيا مش هاجوز بناتى إلا لعريس نوبى حتى لو فاتها القطر زى ما بيقولوا» وأضافت سهير محمود (50 عاما): «موضوع الجواز من خارج النوبة ده مرفوض تماما لأن هناك فرقاً كبيراً بين عاداتنا وعاداتهم».
أما منى منير (40 عاما) فكان لها رأى مختلف: «موضوع التعصب فى الزواج ده مرفوض جدا وزواج النوبى من النوبية مش قاعدة.. أحنا علاقتنا كويسة جدا بالناس وكلهم من خارج النوبة وفيه حالات جواز كتير ناجحة من خارج أهل النوبة.. بلاش تعصب يا جماعة كلنا مصريون».
عبدالجواد وسامى وفاطمة: «الدنيا اتغيرت.. وكلنا مصريين»
فى الناحية الأخرى بدت تجارب عديدة لزواج النوبيين من خارج النوبة ناجحة، حكايات جمعت «العشق» مع «الحنين» وكونت أسراً متماسكة تعتز بنفسها وترى أن الزمن والتعليم والمجتمع المفتوح تجاوزت التقاليد القديمة.
سامى الكاشف (36 سنة) قرر الزواج بفتاة من خارج النوبة، يروى حكايته مع المجتمع والتقاليد والتابوه: «الجواز قسمة ونصيب، أنا حبيت مراتى وقررت أتجوزها، وعمرى ما حسيت إن فيه فرق بين مراتى وبين أى زوجة نوبية.. فى النهاية الجواز واحد، ومراتى دلوقتى بتحافظ على الطابع النوبى لبيتى وبترعانى بنفس الطريقة اللى أمى كانت بترعى بيها أبويا.. يعنى موضوع التقاليد ده خلاص انتهى.. دلوقتى إحنا بنعيش فى مجتمع واحد وبلاش موضوع التعصب ده».
ويضيف الكاشف «سبب الانفتاح ده هو التعليم الجامعى، والمجتمع النوبى هادئ بطبعه ومافيهوش مشاكل بالنسبة للولد، لكن البنت لو قررت تتجوز من بره النوبة بتبقى فيه مشكلة كبيرة لأن النوبيين بيخافوا على البنت جدا لكن البنات دلوقتى اتفتحوا ومبقاش فيه حاجة زى زمان».
حالة سامى لم تكن الوحيدة فهناك عبدالجواد (31 سنة)، الشاب النوبى الذى تزوج من فتاة غير نوبية، فهو يرى أن «موضوع الجواز مالوش دعوة بمكان الولادة يعنى مش مهم مراتك صعيدية ولا بحراوية، نوبية ولا بدوية مش مهم، المهم بس إنكم تكونوا متفاهمين وبتحبوا بعض ده الضمان الوحيد للاستقرار واستمرار الحياة الزوجية»، ورغم تفتحه فعبدالجواد لا يريد عريساً من خارج النوبة لابنته.
أما زوجته حنان فتقول: «الجواز ده رزق من عند ربنا ماحدش يعرف مين هايتجوز مين، وكل مجتمع فيه الحلو والوحش، والمهم إن العريس يكون صاحب أخلاق ومتدين ويراعى ربنا فى البنت اللى هايرتبط بيها.. أنا بدور على إنسان بغض النظر عن بلده».
وحالة أخرى للزواج من خارج التابوه يمثلها الدكتور محمد الشوربجى (26 عاما) ويقول: «تزوجت زميلتى الطبيبة بنفس المستشفى بعد قصة حب منذ أيام الدراسة وعقدت قرانى عليها وتم الزفاف، وزواجى منها ناجح بكل المقاييس ومافيش اختلاف كبير بينى وبينها، وأى خلافات الحب بيداويها».
أما صالح الشوربجى (55 سنة) المتزوج حسب التقاليد فيقول: «تقاليدنا تحتم على النوبى ألا يرتبط إلا بفتاة من الدرجة الأولى فقط، أى ابنة العم أو ابنة الخال ولا يجب عليه أن يفكر فى أن يرتبط من أى قرية أخرى ثم بعد ذلك تطور الأمر حتى سُمح لنا بأن نتزوج من بعض القرى المجاورة بشرط أن يكونوا نوبيين ولكن الآن حدثت اختلافات كثيرة فى الزواج فالشاب الآن يستطيع أن يختار شريك حياته وله رأى خاص به، فكثير من الشباب النوبى اليوم اندمج فى الحياة الجامعية والعملية بالمجتمع غير النوبى وفعلاً يوجد شباب خرج من عنق الزجاجة ولكن السؤال هو: إذا خرج رجالنا وتزوجوا من خارج النوبة فماذا تفعل الفتيات النوبيات؟ فيجب علينا أن نترك هذه المعتقدات ونحن لن ننعزل عن المجتمع أبداً وسوف نحافظ على الهوية النوبية، عندما يتزوج الولد من الخارج يجب أن نتواصل معه ولا نتركه حتى لا يبتعد عن عاداته وتقاليده».
وقال خالد حسين (37 سنة): «أنا متزوج من نوبية، والزواج سُنة ثابتة أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم ووضع شروطا لاختيار شريك الحياة وأهمها التدين لكنه أكد أن العرق دساس، أما بالنسبة لنا كأهل النوبة فيجوز أن يتزوج الرجل من خارج بلاد النوبة إذا رأى أن الفتاة التى سوف تشاركه هى الصالحة وكذلك المرأة النوبية يجوز لها أن تتزوج من خارج بلاد النوبة لأن هذا شرع الله».
ويقول محمد علام «74 سنة»: الهدف من التهجير هو ذوبان المجتمع النوبى فى المجتمع غير النوبى ومع انتشار التعليم والاختلاط بدأ النوبيون يتزوجون من غير النوبيين، وهناك أمور تفرض هذا الزواج بسبب الماديات والظروف الاقتصادية وأيضا من الناحية الجغرافية بسبب قرب القرى من بعض، وسبب تأخر سن الزواج موجود فى كل المجتمعات وليس النوبة فقط.
وقال محمد ماهر «45 سنة»: المهم الأخلاق والدين، وحسب الأحاديث النبوية إذا جاء لابنتى ذو دين وأخلاق وهو غير نوبى فسوف أوافق فوراً.وشاركته فى الرأى سامية جمال «45 سنة» نوبية متزوجة من نوبى: «أنا أؤيد الزواج من خارج النوبة وأهم شىء فى الموضوع هو رأى ابنتى وموافقتها سواء على النوبى أو غيره».
أما فاطمة محمد ( 28 سنة) فتقول: «إحنا جزء من المجتمع المصرى.. آه لينا خصوصية بس برضه دى حاجة والجواز حاجة تانية خالص.. واللى يتجوز من بره النوبة هو حر». وتشرح شاهيناز زكريا (25 سنة) الأمر قائلة: «الإنسان عندما يختار شريك حياته فإنه يختار الأقرب فى الطباع والعادات، فأنا أفضل زواج النوبيين بسبب تقارب الطباع لكنى لا أعترض على الزواج من خارج النوبة مادام هناك توافق».