لعل مونديال روسيا 2018، أو العرس الكروي العالمي، الذي بدأ في 14 يونيو الجاري، يوميء وسط مبارياته لطبيعة الحروب الثقافية الجديدة التي تعيد للأذهان الصراعات المتعددة الجوانب في عصر الحرب الباردة.
والملاحظة الدالة بالفعل أن الصحافة الثقافية الغربية سلطت أضواء كاشفة على الأدب الروسي المعاصر بمناسبة العرس الكروي العالمي الحالي في روسيا أو «مونديال روسيا 2018» بل إنها دعت الحضور في هذا العرس الكروي لانتهاز هذه الفرصة والتعرف على أحدث إبداعات الدولة المضيفة في القصة والرواية، غير أن الكثير من الصحف ووسائل الإعلام الغربية انزلقت نحو انتهاز هذه الفرصة لمحاولة «تسييس كرة القدم والنيل من نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين».
وهكذا مثلا اقترحت الصحفية والكاتبة البريطانية فيبي تابلين، المتخصصة في الثقافة والأدب الروسي، على قراء جريدة الجارديان بعض الروايات الروسية الجديدة دون أن تغفل الصحيفة «نزعة التسييس للنيل من بوتين» فنشرت مع الموضوع ذاته صورة للكاتبة والقاصة لودميلا يوليتسكايا وهي تتحدث في مسيرة للمعارضة بالعاصمة الروسية موسكو.
ورغم أن الرياضة ينبغي أن تبقى بمنأى عن السياسة فالأمر ليس ببعيد عن الحديث الذي تجدد بقوة في الآونة الأخيرة عما يسمى «بالحروب الثقافية» بصورة تعيد للأذهان أجواء عصر الحرب الباردة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة ومنظومة حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق والذي دخل في ذمة التاريخ في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، فيما باتت هذه الحروب تستخدم ضمن ممارساتها لافتات حقوق الإنسان.
وفي سياق التغطية الحالية لوقائع مونديال 2018 في روسيا يمكن للمراقب أن يرصد بوضوح تجليات «الحروب الثقافية» واستغلال شخصيات معارضة لنظام الرئيس فلاديمير بوتين مثل الكاتبة والقاصة لودميلا يوليتسكايا التي يتوزع وقتها ما بين روسيا وإسرائيل، وهي ظاهرة تتعارض مع أبجديات الرياضة وكرة القدم التي توصف «باللعبة الجميلة والمبهجة» بينما يسعى البعض لتوجيه المشاعر العامة نحو قضايا سياسية ليس مكانها المستطيل المونديالي الأخضر ومفاجآت الساحرة المستديرة والروح الرياضية التي تتقبل الفوز والخسارة.
وها هي الكاتبة الصحفية فيبي تابلين تركز في «توصياتها للقراء الراغبين في التزود بجديد الأدب الروسي» على أعمال أدبية تنال من صورة نظام بوتين المستهدف من جانب دوائر متعددة في الغرب، فتتحدث عن «هؤلاء الكتاب الروس الذين يقومون بزيارات جديدة للتاريخ على أمل استشراف مستقبل أفضل من الحاضر العسير العلاج».
وفيبي تابلين التي عاشت نحو 5 نوات في روسيا تبدو متحمسة لأعمال أدباء روس مناهضين بشدة لنظام الرئيس فلاديمير بوتين مثل «نفوس حية» للشاعر والكاتب الساخر ديميتري بيوكوف حيث الشخصيات الهائمة بحثا عن المعنى وعما تصفه تابلين «بالحرية والحب والآمان»، وكذلك تشير إلى الكاتب المثير للجدل فلاديمير سوروكين والذي يقدم ما تصفه «بتفاصيل المشهد البائس في روسيا» فيما تشير لرؤى متشائمة للناقدة الروسية اولجا سلافينكوفا حيال المشهد العام في بلادها.
والسؤال النقدي الموضوعي في هذا السياق: «هل المشهد الروسي الراهن قاتم تماما كما تشير الكتب والكتابات التي رشحتها فيبي تابلين للقراء في الغرب أم أن الأمر يدخل ضمن الحروب الثقافية التي لا تتورع عن استغلال حدث رياضي عالمي كالمونديال وتعيد للأذهان عصر الحرب الباردة واستخدام الأدب والثقافة عموما ضمن أدوات الصراع بين الكتلتين الغربية والشرقية حينئذ».
وللكاتبة والباحثة البريطانية فرانسيس ستونر سوندرز كتاب بعنوان :«من دفع للزمار :الحرب الباردة الثقافية» ويتضمن معلومات مثيرة حول تلك المنطقة الرمادية التي تستخدم فيها أجهزة المخابرات مجال الثقافة في لعبة الأمم والحروب السرية وتشكيل العقول وتفجير الدول من الداخل.
وحسب هذا الكتاب فإن بعض أصحاب القامات الفكرية العالية في الغرب شاركوا في «حروب كسب العقول والقلوب» التي قادتها المخابرات الأمريكية وكانت تصب في نهاية المطاف في خدمة الهيمنة الثقافية الأمريكية والتلاعب والسيطرة على منابر الكتب والفن والسينما والموسيقى.
والمؤرخ الراحل البرت حوراني والذي تخصص في تاريخ العرب والشرق الأوسط قال، في مقابلة منشورة، إن منظمة كانت ناشطة في ستينيات القرن العشرين وتحمل اسم «مؤتمر الكونجرس للحرية الثقافية» قد ثبت فيما بعد أنها «منظمة تعمل كغطاء لأنشطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية».
ومع أن من الخطل والخطأ الإسراف في نظريات المؤامرة والتشكك المرضى في كل ما يأتى من الخارج وتحميل الأمور أكثر مما تحتمل والإفراط في الحديث عن «الغزو الثقافى» فإن المشهد الراهن يثير في السنوات الأخيرة قلق ومخاوف مثقفين عرب يرون أن منطقتهم باتت مستهدفة ثقافيا بقوة.
وعلى سبيل المثال ففى الدورة السابعة والعشرين لمهرجان جرش الأردنى للثقافة والفنون، تحدث الباحث والناقد الدكتور محمد عبيد الله عن «الحرب الثقافية الباردة» وتأثيرها على المشهد الثقافى سواء في العالم العربى أو على مستوى العالم قاطبة.
وذهب عبيد الله إلى أن المخابرات الأمريكية أسست منظمات كانت مهمتها إنتاج نوع محدد من الثقافة ودعمه والترويج له مثل «الشكلانية» وتهميش كل ما يتعارض مع السياسة الأمريكية في الحياة الثقافية.
وأضاف أن هذه المنظمات أسست 120 مجلة ثقافية كانت ممولة من المخابرات الأمريكية وتقود التشويه في العملية الثقافية، وأن «الحرب الثقافية الباردة تحول مسارات النقد إلى ما يخدم أهداف من يقف ورائها ويضع سدا فاصلا بين السياسى والثقافى».
وإذا كان كتاب «من دفع للزمار» يتناول باستفاضة دور المخابرات الأمريكية في صياغة الحياة الثقافية والفنية في الغرب إبان عصر الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتى السابق واستخدام الأساليب الثقافية والقوى الناعمة والجوائز بل تجنيد شخصيات من النخب الثقافية ذات الثقل العالمى لمناوأة الفكر الشيوعى، فإن الأمر بحاجة لاكتشاف ودراسة الصيغ المغايرة والجديدة للحروب الثقافية المتجددة والتي تستغل حتى الرياضة وأحداث مثل بطولة كأس العالم لكرة القدم التي تستضيفها روسيا حتى 15 يوليو المقبل.
وإن كان انهيار الاتحاد السوفييتى ودول المنظومة الشيوعية التي دارت في فلك موسكو قد أفضى لفتح ملفات الأرشيف السرى وكشف طرف من الحروب الثقافية التي دارت بين المنظومتين الغربية الرأسمالية والشيوعية وأسهمت بقوة في خلخلة الاتحاد السوفييتي السابق فإن هذه الحروب تتجدد الآن بصيغ متعددة يرصدها المحللون في حالات مثل استهداف الغرب لنظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فضلا عن التجربة الاقتصادية الصينية التي أسفرت عن إنجازات عملاقة بقدر ما تزعج قوى غربية نافذة بما تنطوي عليه من تهديد لمصالحها.
ومن الواضح لكل ذي عينين أن هذه الحروب الثقافية لم تكن بعيدة عن استخدام منظمات غربية ترفع لافتات حقوق الإنسان بينما يفضي التحليل الموضوعي لممارساتها عن كشف نزعة واضحة «لتسييس قضايا حقوق الإنسان بما يخدم مصالح الجهات والأطراف التي تقف وراء هذه المنظمات» وهو ما يحدث في الاستهداف الغربي للتجربة الصينية الرائدة كما يحدث مع التجربة الروسية في ظل قيادة الرئيس فلاديمير بوتين وهي تجربة وطنية مغايرة للتجربة السوفييتية ذات التوجه الأممي والتي باتت في ذمة التاريخ منذ بدايات العقد الأخير في القرن الماضي.
ومن هنا حق لمثقفين أن يتحدثوا عن «منظمات حقوقية غربية» تخلط بصورة ممنهجة ما بين الدعاوي الحقوقية والأغراض السياسية لصالح «أجندات تستهدف بعض الدول وترمي لاصطناع ذرائع للتدخل في شؤونها الداخلية وانتهاك سيادة الدولة الوطنية».
وكما لاحظ بعض هؤلاء المثقفين في طروحات وتعليقات عبر الصحف ووسائل الإعلام فإن هذه المنظمات الغربية التي ترفع لافتات حقوق الإنسان لا تحرك ساكنا أمام قضايا تدخل في صميم الدفاع عن حقوق الإنسان مثل الممارسات الإسرائيلية التي تشكل إنهاكا فجا وصارخا لحقوق الإنسان الفلسطيني ومن بينها حقوقه الثقافية وتراثه ومقدساته.
ومواجهة الحروب الثقافية والنزعة الواضحة لتسييس حقوق الإنسان والخلط بين الرياضة والسياسة لخدمة أجندات أطراف وقوى بعينها تدخل بلا جدال ضمن السعي من اجل السلام والحياة الكريمة على كوكب مستدام يبلغ عدد الجوعى فيه حسب تقرير جديد للأمم المتحدة 815 مليون شخص.
وفيما تبعث ظاهرة تجدد الحروب الثقافية على الآسف من منظور أنها تنال من صدقية المثقف على وجه العموم فإن الحروب الثقافية القديمة في عصر الحرب الباردة يبدو أنها تتجدد الآن بأشكال مغايرة كما يحدث في مونديال 2018.
ولئن ذهبت الكاتبة البريطانية فيبي تابلين إلى أن الأدب الروسي يستشرف أسئلة وطنية ووجودية منذ أن تساءل نيكولاي جوجول الذي قضى في الرابع من مارس عام 1852 في روايته «النفوس الميتة» عن رحلة المسير والمصير لبلاده، فإن روسيا عرفت أدباء ومبدعين كبار مثل تولستوي وجوركي ودوستويفسكي وبوشكين وجوجول وميخائيل شولوخوف.
وإذ يقول الكاتب الباكستاني الأصل طارق على الذي يعيش في بريطانيا ويوصف بأنه «من رموز اليسار الجديد في الغرب» إن الأدب شكل الثقافة السياسية للبيئة التي شب فيها أول قائد للاتحاد السوفييتي السابق أي فلاديمير لينين عن الطوق فان الكاتبة فيبي تابلين تذهب إلى ان الأدباء الروس المناوئين لنظام الرئيس فلاديمير بوتين يعانون من التضييق وملاحقة إصداراتهم فيما توميء للكاتب اندريه جيلاسيموف صاحب رواية «العام الكاذب» وكذلك ميخائيل شيشكين صاحب رواية «النور والعتمة».
وفي المقابل تبدو روسيا مدركة لطبيعة الحرب الثقافية الغربية التي تستهدفها في راهن المرحلة وبدا نظام الرئيس فلاديمير بوتين حريصا على الاستفادة من المونديال أو العرس الكروي العالمي الحالي لاطلاق رسائل إيجابية بشأن صورة هذا النظام في العالم.
وفي مواجهة الحملات الدعائية الغربية أكدت موسكو على ترحيبها بكل العالم «لمشاهدة روسيا الحقيقية والروس الحقيقيين» فيما اعرب الرئيس فلاديمير بوتين في كلمة بمناسبة انطلاق مونديال 2018 عن امله في «الا تقتصر اللحظات التي لاتنسى على المباريات فقط بل ان يكون هناك دور لثقافة روسيا وتاريخها وطبيعتها».
وفيما تفيد تقديرات معلنة أن روسيا أنفقت ما يزيد على 11 مليار دولار أمريكي كتكاليف لاستضافة العرس الكروي العالمي الحالي فان البعد الثقافي واضح ضمن«رسالة روسية متعددة الأبعاد للعالم» وتشمل جوانب اقتصادية وسياحية ناهيك عن البعد السياسي.
وعلى أي حال يبدو أن ما يحدث الآن من تداخل وتفاعل وتشابك مثير بين الثقافة والسياسة وكرة القدم يثبت أن الساحرة المستديرة أضحت من ثوابت عالم يبحث عن البهجة المفقودة ويتلمسها ولو في مباراة محدودة الزمن 90 دقيقة على مستطيل أخضر يكاد أن يلخص الآن قصة العالم وصراعاته التي لا تنتهي، فلمن تدق الأجراس؟