فى عموده على الصفحة الأخيرة من «الأخبار»، روى الكاتب الكبير إبراهيم سعدة، قصة لا يجوز أن يفوتنا معناها البعيد.. ففى وقت من الأوقات، كان ذلك فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى، شن إبراهيم سعدة حملة صحفية شهيرة على صفحات «أخبار اليوم»، ضد رجل أعمال عربى، كان قد جاء يمارس أعماله فى القاهرة، واختلف حوله وقتها كثيرون!
الحملة كانت قاسية، ومتواصلة، ومؤثرة للغاية، لدرجة أن الرئيس السادات سأل كاتبنا الكبير عما إذا كان يملك أوراقاً تؤكد ما يقوله، فلما أجاب بأنه يملكها، بارك الرئيس الحملة، وقال له ما معناه أن يستمر فى حملته على رجل الأعمال، الذى كان «سعدة» قد أطلق عليه اسم «الحمال»!
وقتها كانت بعض الألفاظ المستخدمة فى الحملة عنيفة، وموجعة، وكانت تصف بعض تصرفات رجل الأعمال وحياته، بأنها مشينة، وفاضحة، وكانت الحملة فى إجمالها حديث المجتمع والناس، وكانت تتواصل أسبوعاً بعد أسبوع، وكان «سعدة» يقصف بكل ما عنده من أسلحة ثقيلة، وبينما كانت الحملة فى ذروتها جاءه تليفون من قارئ لم يكن الكاتب الكبير فى ذلك الوقت يعرفه!
وهنا، سوف أنقل عن الأستاذ إبراهيم ما جاء فى عموده بالحرف.. قال: وقتها تلقيت اتصالاً تليفونياً من قارئ عرفنى بنفسه قائلاً: «أنت لا تعرفنى.. واسمى المهندس صلاح دياب.. وكانت هذه هى أول مرة أتعرف فيها على رجل الأعمال المصرى صلاح دياب، الذى أكد لى أنه لا يعرف هذا «الحمال» ولا يريد أن يعرفه، لكنه طلبنى ليصارحنى بأن ما نسبته إلى هذا الشخص، من صفات مشينة، وأعمال فضائحية، كانت بالغة القسوة، خاصة أنها تمس حياته الشخصية التى يربأ بى عن التطرق إليها، ولولا حرصه على شخصى وكتاباتى، لما تدخل، ولما طلبنى تليفونياً، وقد رحبت بمكالمة المهندس صلاح دياب، بنفس ترحيبى بنصيحته لى بالابتعاد عن الأسلوب الذى استخدمته لأول مرة فى مقالاتى التى كان يتابعها، واعترفت لصلاح دياب بأننى أخطأت بالفعل، متعللاً بأن ما قرأته وسمعته وتأكدت من صحة معظمه، هو الذى شجعنى على التطرق إلى ما تطرقت إليه رغما عنى، ووعدته بعدم تكراره مرة أخرى مهما حدث.. بعدها توطدت علاقتى بصلاح دياب، وأصبحنا أصدقاء وأحباء حتى الآن».
ثم يختتم إبراهيم سعدة كلامه فيقول: وبالفعل.. واصلت الكتابة عن «الحمال» مركزاً فقط على أخطاء وخطايا أعماله المهنية، مع الابتعاد تماماً عن مثيلاتها من أموره الشخصية أو الأسرية.
وحين يأتى كاتب كبير، ويعترف الآن، بأن مكالمة عابرة من «قارئ» قد أثرت جذرياً فى أسلوبه فى الكتابة، إلى حد أنه تحول بعدها، من أسلوب إلى أسلوب آخر يتجنب ما كان قد ارتكبه من قبل، عن غير قصد، فإن هذا فى حد ذاته لابد أن يجعلنا نتوقف أمام كاتب من هذه النوعية، التى تكاد تنقرض من حياتنا الصحفية!
إن إبراهيم سعدة كان طول عمره نجماً فى سماء الصحافة، ولم تكن نجوميته لها علاقة برئاسة تحرير «أخبار اليوم» وإنما كانت متحققة قبلها، ولاتزال قائمة بعدها، وكان صاحب خبطات صحفية لا ينساها الرأى العام إلى اليوم، وكان يكفى أن يكتب مقالاً ليكون حديث البلد، أو يكتب مقالاً آخر، فيوقف مشروع قانون فى البرلمان، كما حدث يوماً مع مشروع قانون نقل وزراعة الأعضاء.. ومع ذلك كله، فإن مكالمة من «قارئ» كان مجهولاً لديه، حينذاك كانت كافية لأن تستوقفه، وتؤثر فيه، وتدفعه إلى التحول من طريق إلى طريق آخر، لا علاقة له بالأول!
إبراهيم سعدة يظل فى طليعة أصحاب المدارس الصحفية فى مصر، شأنه شأن الأساتذة الكبار مكرم محمد أحمد، ومحسن محمد، وصلاح منتصر، وغيرهم طبعاً!
وهؤلاء يجب أن يجرى تكريمهم، ليس على مجرد مقال هنا، أو حملة هناك، وإنما على «مجمل الأعمال» كما يحدث مع نجوم السينما فى هوليوود، الذين يتلقى الواحد منهم فى لحظة من اللحظات، أرفع الجوائز تكريماً على «مسيرة» كاملة، وليس على مشهد فى فيلم، أو لقطة فى مسرحية.. هؤلاء كبار فى زمن أغلبه من الصغار!