■ سألت الكاتب الكبير محمد سلماوى بعد حصول نجيب محفوظ على نوبل فى الأدب.. لماذا لا نجد فى المشهد الروائى والأدبى فى مصر من هو مؤهل للترشح لنوبل فى الأدب؟
- لم يصمت على سؤالى.. وقال دعنى أقل لك إن مصر فى مرحلة انتقالية فى تاريخها ككل وليس فى الأدب فقط، وبالتالى فمع رحيل الجيل القديم نجد أن الجديد لايزال فى مرحلة التشكل، ونوبل لا يحصل عليها أحد من الشباب، فهى تتويج لإنجاز الكاتب على مدى السنين، وغالبا ما تجد الحاصلين عليها من كبار السن ولم يظهر نجوم جدد فى مصر، لكننى متفائل بالمستقبل، فالمطابع المصرية فى العام الماضى وحده طبعت ما يقرب من 30 رواية تكاد لا تعرف أسماءهم، لو قلنا بينهم عشرة أو خمسة متميزين سيكبرون مع الوقت، فهذا يعنى أن هناك خمسة نجيب محفوظ قادمين فى الطريق.
خمسة قادمون.. فماذا عن سلماوى الذى بدأ طريقه فى عالم الصحافة والسياسة والمسرح والرواية، رغم عدم كثافة أعماله، لكنها أعمال متفردة.. ففى المسرح كتب سلماوى «الجنزير» التى حذرت من تفشى الإرهاب، و«رقصة سالومى الأخيرة» و«فوت علينا بكرة»، و«اللى بعده» و«القاتل خارج السجن» و«اثنين تحت الأرض».. وفى مجالى القصة والرواية له «الرجل الذى عادت إليه ذاكرته» و«الخرز الملون» و«باب التوفيق» و«وفاء إدريس» و«قصص فلسطينية أخرى» ورواية «أجنحة الفراشة» التى تنبأت باندلاع ثورة 25 يناير، ومما يذكر أن نجيب محفوظ قد اختار سلماوى ممثلاً شخصيًا له فى احتفالات نوبل فى استوكهولم عام 1988.
وقد حصل «سلماوى» على العديد من الأوسمة والجوائز، منها جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2012، ووسام التاج الملكى البلجيكى من الملك ألبير الثانى عام 2008، ووسام الاستحقاق من الرئيس الإيطالى كارلو تشامبى عام 2006، ووسام الفنون والآداب الفرنسى عام 1995، وكان سلماوى قبل أيام قد حل ضيف شرف على معرض الكتاب الذى يعقد سنويا فى مدينة إياشى فى رومانيا بمناسبة صدور الترجمة الرومانية لروايته «أجنحة الفراشة» التى تنبأت بثورة ٢٥ يناير عند صدورها عام ٢٠١٠ وتمت ترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والأردية وقد منحته وزارة الثقافة والتراث الوطنى شهادة «فارس الآداب» تقديرا لإنجازاته الثقافية المتميزة.
وقد قام بتأسيس مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى عام 1988، وكان أول أمين عام له، كما شغل موقع رئيس اتحاد كُتّاب مصر، وقبل أيام صدرت طبعة جديدة من مذكراته والتى تحمل عنوان «يوما أو بعض يوم» ولاقت رواجا كبيرا، وهى تمثل الجزء الأول من سيرته، والتى تنتهى عند عام 1981، وسيتبعها بجزء ثان.. وكان لنا معه هذا الحوار الذى تعرضنا فيه لمحطات مهمة فى حياته وشهادته على أمور حيوية معاصرة.
■ سألته مجدداً:
فى سياق الدعوة العامة الملحة لتجديد الخطاب الدينى.. هل ترى الأزهر كمؤسسة دينية وسطية تلعب دورا فاعلا فى هذا الاتجاه؟
- لا أعتقد أن الأزهر مؤهل للقيام بهذا الدور، فهذا الدور منوط به المثقفون والمفكرون، لأننا نتحدث عن عملية فكرية ثقافية، فتجديد الخطاب الدينى مسألة فكرية، كما أن بعض رجال الدين لا يبدو أنهم يعرفون من الإسلام إلا شعائره ولم يتعمقوا فى الجانب العقلانى للدين الإسلامى وجوهر العقيدة، لابد أن ننقل طريقة تفكير ونظرة مختلفة عن الدين للناس بدلا من الحديث إليهم عن ضرورة دخول الحمام بالقدم اليسرى وحف الشوارب والأكل باليد اليمنى، وهنا يجب أن نفرق بين الأزهر وقياداته، فرغم أن هذه القيادات على درجة كبيرة من الاستنارة، إلا أن الأزهر وشيوخه مازال هو المفرخة التى تمد الإخوان والسلفيين بأتباعهم، لذلك فقد مرت السنوات منذ أطلق الرئيس السيسى دعوته للأزهر لتجديد الخطاب الدينى دون أن يتمكن من المضى خطوة واحدة فى هذا الاتجاه.
■ ولكن المثقفين فى أغلبهم صاروا مثقفى صالونات وانقطع الجسر بينهم وبين الشارع، وتخلوا عن دورهم فيه، ونشهد اختفاء لافتا للمثقف العضوى؟
- المثقف هو الدواء، ولا تسأل لماذا الدواء بعيد عن يد المريض؟ فهناك دور الطبيب، وهو الذى يقيم جسرا للتواصل بينهما، ليس هناك مثقف ينزل للشارع ويجمع الناس حوله ليتحدث فيهم، وإنما هذا دور مؤسسات الدولة، مثل المؤسسة التعليمية والإعلامية والثقافية، هذه المؤسسات هى التى عليها أن تفسح الطريق وتتيح الفرصة للمثقف كى يصل إلى الناس عن طريق الندوات والكتاب والعرض المسرحى، لكن الدور الحيوى للدولة فى هذا الاتجاه غائب.
■ ما تقييمك لأداء المؤسسات الرسمية للدولة؟
- يتسم دورها بالقصور اللافت، وربما يكونون هم السبب الرئيسى فى حدوث هذه القطيعة وجمود الخطاب الدينى وتراجع خطاب الاستنارة، ولعبوا دورا سلبيا كان السبب لما نحن فيه ووصلنا إليه، فقد تراجع الإعلام فكريا، والتعليم المسؤول عن تربية النشء، وتراجعت المؤسسة الدينية، والمفروض أن تنهض هذه المؤسسات بدورها الحقيقى والجوهرى والذى يقتضى توحدها وتواصلها مع المفكرين والمثقفين وتكون همزة الوصل بينهم وبين الشارع، كما يتعين على الإعلام أن يفتح لهم المجال بدلا من فتح البرامج للشيوخ حتى صاروا نجوم الميديا.. لماذا مثلا الدكتور مراد وهبة ليس نجما إعلاميا؟ ولماذا لم يكن جمهور التليفزيون يعرف السيد يس؟ العيب أن الدولة بمؤسساتها هى السبب، وهى تقاوم الإرهاب والتطرف بالأمن فقط ولا تكرس مؤسساتها المعرفية والتعليمية والإعلامية لحماية عقول الناس من الأفكار المغلوطة أو المتطرفة التى هى أساس الإرهاب، لقد دأبت القنوات التليفزيونية طوال العقود الماضية على محاباة شيوخ التطرف طالما أنهم يبتعدون عن الحديث فى السياسة، وتم تحجيم دور المثقفين لأنهم يتحدثون فى السياسة ويتعرضون لموضوعات تراها الحكومة لا لزوم لها، مثل الديمقراطية وحرية التعبير والعدالة الاجتماعية.
■ أمازال الوضع الآن كما كان قبل الثورة؟
- بالطبع لا، فقد أيقظ أداء الإخوان بالاستحواذ حفيظة الدولة، فبدأت تعيد النظر فى سياستها فى الماضى، لكنى مازلت غير مرتاح لهذا التحالف غير المقدس مع السلفيين.
■ بمناسبة صدور طبعة جديدة لسيرتك الذاتية، لاحظنا أنك اعتمدت أسلوب السرد الروائى أسوة بالثلاثية الروائية للروائى كين فوليت «ثلاثية القرن»، هل جاء فى ذهنك ضرورة أن تكون السيرة جريئة وصريحة ومتوهجة مثل سيرة جان جاك روسو مثلا؟
- تنبهتُ حين بدأت كتابتها إلى أن أسلوبها سيكون هو المزج بين ما هو شخصى وما هو عام، حيث كنت شاهدا ومعايشا لأحداث كبرى مر بها الوطن، وتأثرت بأحداث كبرى فى تاريخ مصر بالسلب حين تعرضت للاعتقال فى عهد السادات، أو بالإيجاب مثل مشاركتى فى كتابة الدستور، كانت مساهمة مباشرة فى صنع حدث وطنى كبير، لكن كانت هناك أحداث كبرى أخرى أثرت فى حياتى سواء شاركت فيها أو لم أشارك، مثل حرب 67، وأعتبر نفسى من جيل شهد فترة من أكثر فترات التاريخ الحديث ثراء وزخما من حيث أحداثها الكبرى أو المفصلية، بدءا من نهايات العصر الملكى مرورا بمرحلة الثورة والمد القومى الناصرى ثم فترة التراجع الساداتى ثم الركود المباركى ثم الانفجار الثورى فى 25 يناير وانتهاء بثورة 30 يونيو، وصولا إلى كتابة الدستور الذى من المفترض أن يكون قد وضع مصر على أعتاب مرحلة جديدة فى تاريخها وتوجهها ومنطلقاتها الجديدة. أما التزامى بالصراحة فى كتابة المذكرات فلم أندم عليه، وسأواصل الالتزام به فى الجزء الثانى رغم تصيد البعض ذلك.
■ ملمح مغاير تميزت به سيرتك الذاتية، تقليد جديد، وهو أنها كانت مصحوبة ومدعومة بسرد بصرى.. لماذا حرصت على هذا؟ وهل هذا من قبيل التوثيق، أم لأننا نعيش زمن الصورة، أم التأكيد على صحة ما ورد فى السيرة؟
- للأسباب الثلاثة، أولا مسألة التوثيق حيث كانت الصراحة والتوثيق ملمحين حرصت عليهما فى كتابة السيرة، كما أن الصورة فى بعض الأحيان تلخيص لموضوع ما كقصاصة جريدة أو وثيقة، وبالفعل المذكرات تتضمن نحو 150 صورة، أضف إلى ذلك قدرة الصورة على الجذب والتأثير، فمهما حكى لك شخص أن هذا الشىء حدث ليس مثل أن ترى الشىء بعينيك، فالصورة تكفل للقارئ جانبا كبيرا من المعايشة.
■ كان السبب فى كتابة السيرة مقالك عن الطابق السادس فى الأهرام، والذى ورد فى سيرتك الذاتية، حيث متحف الخالدين أمثال توفيق الحكيم ويوسف إدريس والدكتور لويس عوض وبنت الشاطئ ونجيب محفوظ وحسين فوزى وزكى نجيب محمود ولطفى الخولى.. ألم تتملكك الهيبة من هذه الرموز حين اختلطت بها وأنت شاب صغير؟
- بلا شك، لكنه كان أقرب إلى الانبهار، وليس هيبة وخوفا كونى حظيت بصداقة كل هؤلاء، وأنا لم أعرفهم دفعة واحدة، فقد عرفتهم بالتدريج، كنت أعرف الدكتور لويس عوض حين كان الوحيد من بين هؤلاء الخالدين الذى يجالس المحررين فى كافيتريا الدور الرابع، ومن خلاله تعرفت على الآخرين بالتدريج، حيث كنت أصعد معه إلى مكتبه فى الدور السادس، وكان مكتبه يجاور مكتب توفيق الحكيم بل كان أولهم توفيق الحكيم، وكنت كاتبا مسرحيا فى مقتبل مسيرته الإبداعية فكنت قد كتبت مسرحية بالإنجليزية حين كنت معيدا فى كلية الآداب وعُرضت فى قاعة إيوارت وغيرت مجرى حياتى حين شاهدها ناقد أمريكى شهير وتنبأ لى بأننى سأصبح كاتبا مسرحيا متميزا، وشعرت أننى على الطريق الصحيح، وكان توفيق الحكيم كما تعلم أبوالمسرح العربى وأنا فى أول الطريق، لكننى مازلت مندهشا للعلاقة التى توطدت بيننا سريعا، وكان يطلبنى، وكنت أسعد بهذا، وذات مرة طلبنى قائلا: «عندى ناس من اليونسكو يتفاوضون معى لترجمة ونشر إحدى مسرحياتى وأنا ثقافتى فرنسية والعقد مكتوب بالإنجليزى وخايف ينصبوا على»، فضحكت من تعبيره هذا وتساءلت: لماذا سينصب عليه اليونسكو؟.. وجلست معهم وراجعت العقد وفوجئت أنه قرأ العقد وأحاط بما فيه من مواد وسأل الضيوف ماذا يريدون أن يشربوا، ولأنى أعرف أن الأجانب يحبون القهوة التركى فدعوتهم على القهوة، وقال لى شكرا أنت نفعتنى وقدمت خدمة كبرى لى فقد دعوتهم على حاجة ساقعة وأنت طلبت لهم قهوة فوفرت علىّ الكثير وليك عندى غدوة، لكن هذا لم يحدث.
■ ألا يؤكد الطابق السادس عبقرية هيكل، حيث حرص على جمع هذه الباقة من الرواد والرموز فى كل المجالات فى مؤسسة صحفية واحدة مما أعطاها ثقلا فكريا؟
- لا شك فى ذلك، فقد حرص على ضم هذه الأسماء الكبيرة وأكبر عقول فى مصر بهذه المؤسسة الصحفية الثقافية الفكرية، لأنه كان يعلم أن «الأهرام» تشكل وجدان ووعى المواطن المصرى، فكان أن جمع كل العقول الكبيرة فى كل المجالات، هناك الفنان التشكيلى صلاح طاهر، وبطرس بطرس غالى فى مجال السياسة، وفى الفكر الدينى بنت الشاطئ، وفى الأدب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، غير أن هذه المهمة على مستوى مؤسسات صنع الوعى قد تدهورت من الصحافة إلى الإعلام.
■ علاقتك بتوفيق الحكيم ورطتك فى التوقيع على بيان المثقفين؟
- نعم، وتسبب فى رفتى من الأهرام مع صحفيين آخرين فى بداية حكم السادات فى مارس 1973 ثم عفى عنا وأعادنا لوظائفنا قبل حرب أكتوبر، وأذكر أن الرئيس السادات قد وصف توفيق الحكيم وقتها بأنه «يعانى خرف الشيخوخة».
■ تعرضت للاعتقال فى عهد السادات؟
- نعم، تعرضت للاعتقال فى عام 1977 فى مظاهرات 18 و19 يناير، وفى نفس العام زار السادات القدس فى نوفمبر، وفى عام 1979 وقع الاتفاقية ثم فصلت مرة أخرى فى عام 1981 مع كثيرين، ثم فصلت بعد ذلك من الأهرام مع حكم الإخوان، ثم عدت بعد ثورة ٣٠ يونيو، وأشرف الآن أننى أجلس فى مكتب نجيب محفوظ فى الدور السادس.
■ لماذا تركت رئاسة اتحاد الكتاب؟
- إن قانون الاتحاد ينص على فترات ترشح مستمرة ومتجددة..
هل واجهت تيارات سلفية نفرتك من الاتحاد؟
- هذه التيارات موجودة فى الاتحاد منذ زمن لكنهم أفصحوا عن أنفسهم حين جاء مرسى للحكم، وكثيرا ما كنت أقول إن الاتحاد هو النقابة الوحيدة التى لا تضم إخوانا، فالمثقفون ذوو عقول متفتحة، ليس من المعقول أن يكونوا متعصبين ومتأسلمين أو سلفيين، فلما جاء مرسى طلعوا من الجحور وكشفوا عن وجوههم، وأحد الصحفيين الذى أصبح لاحقا رئيس تحرير لمجلة أدبية نشر ضمن التسريبات خطابا قد أرسله إلى الإخوان يقول فيه: «نعدكم بأننا سنعقد جمعية عمومية وسنطيح بمحمد سلماوى»، إنما حدث أن محمد سلماوى هو الذى عمل جمعية عمومية طارئة أثناء وجود مرسى فى الحكم يوم الجمعة 21 يونيو 2013 وتم فيه سحب الثقة من رئيس الجمهورية، وهذه سابقة لن تتكرر ولم تحدث من قبل، وأنا بطبيعتى مادامت دخلت معترك الانتخابات وأنا رئيس للاتحاد وكنت فى موقع قيادى، فلابد من مواجهة تلك التيارات لا الهروب منها.. وسأقول لك واقعة أخرى، بعد ثورة 25 يناير تصور بعض المناوئين أن هذه فرصة للتخلص من القيادات سعيا لتحقيق صعودهم، وكنا أول كيان يؤيد الثورة ويؤيد مطالبها بعد وقوعها بيومين، وقلت إن من حق الناس أن تطالب بالتغيير بعد تغير الظروف العامة، وأعلنت استقالتى وطالبت كل المجلس (30 عضوا) بالاستقالة ومنح الحرية للأعضاء فى ظل ما طرأ من تغيير وبداية مرحلة جديدة لعقد انتخابات جديدة، ودخلنا الانتخابات وحصلت على أعلى الأصوات باسم الثورة، بل باسم كل من كانوا يطالبون بالتغيير، ولقد استقلت بعد ذلك عام ٢٠١٥ بعد أن أتممت عشر سنوات رئيسا.
■ توقفت فى الجزء الأول من مذكراتك عند اغتيال السادات، ماذا ستقول فى الجزء الثانى؟
- أنا أعكف حاليا على كتابة الجزء الثانى، الذى سيتعرض لسنوات الرئيس مبارك بإيجابياتها وسلبياتها كما عشتها، ثم لسنوات الثورة ودورى ودور المثقفين فيها، ثم حكم الإخوان والثورة عليهم، وستنتهى المذكرات بكتابة الدستور الذى شرفت بأن أدخلت فيه لأول مرة بابا مستقلا يحمل عنوان «المقومات الثقافية»، والذى تنص المادة الأولى فيه على حق المواطن فى الثقافة والتزام الدولة بتوفير ذلك الحق، كما تنص مادة أخرى على حظر الأحكام السالبة للحريات فى قضايا الإبداع الفنى والنشر، وهو ما لم يطبق حتى الآن، ولو طبق لقضينا على التعصب الدينى والإرهاب.