بعبارات مؤثرة تحمل فى طياتها الأسى على من رحلوا والرضا بالقضاء والقدر، فى جانب، وأجواء وامتنان لعودة رفات الشهداء إلى أرض من جانب آخر، يتحدث أهالى شهداء مذبحة «داعش» ليبيا.
وترصد «المصرى اليوم» تلك الأجواء وسط الأهالى داخل قرية «العور» التى تقع بالقرب من الطريق الصحراوى الغربى بمركز سمالوط، قرية بسيطة تبعد نحو 50 كيلو مترا عن مدينة المنيا العاصمة، ويقطنها نحو 10 آلاف مواطن، وضعتها الظروف المأساوية فى بؤرة اهتمام الإعلام العالمى، نقص الموارد والفقر شكلا الظروف التى يعيشها أغلب السكان، وجعلت الكثيرين منهم يسافرون بحثا عن لقمة العيش وأجبرتهم على الرحيل عن أسرهم وأبنائهم، وبسبب قساوة الإرهاب امتد الرحيل للأبد.
وبدا واضحاً من حكايات أسر الشهداء أن مشاعر الشكر والسلام هى السائدة بينهم، ولم تخل كلماتهم من الشكر لله.
فى البداية كان اللقاء بـ«أم الشهداء» كما يلقبونها، وهى والدة الشهيدين «بيشوى وصموئيل اسطفانوس» وجدناها تجلس بجوار مقصورة كبيرة قامت بإنشائها لتحويل منزلها لمزار لابنيها.
وقامت بتحويل جزء من منزلها إلى مزار، فصنعت مقصورة تعلوها منارتان أعلاها الصليب، ووضعت داخلها ملابسهما وصورهما وكافة متعلقاتهما، وأمام المقصورة وضعت صورة كبيرة تحمل صور شهداء ليبيا وأسمائهم، وأسفل الصور وضعت أيقونه تحمل كلمات مديح للشهداء.
وتنام أم الشهداء أمام المقصورة الخشبية، وفى كل ليلة تبدأ التسبيح، ومعها ابنها الأكبر «بشير» الذى أصبح الابن الوحيد لها، كما يمسك حفيدها «جرجس بشير» 10 سنوات بدفوف ليلحن مع صوت التسبيح.
وتستقبل الأم الزائرين لتعزيتها والتبرك بمزار الشهيدين ليرتلوا معا مديح الشهداء.
وتقول والدة الشهيدين: «عندما علمت بالعثور على الجثامين، كانت فرحتى كبيرة لأننى سأحتضن جسدى ابنىّ، عند عودتهما، وكأنه حفل زفافهما إلى كنيستهما الجديدة التى تم الانتهاء من بنائها».
«غرفة مينا تحولت لمزار».. هكذا بدأت أم الشهيد مينا فايز حديثها قائلة: «كل ساعة أشوف صور الجثامين، وأبكى ولكن دلوقتى فرحانة، فالله قدم لنا هدية بعودة الجثامين، «مينا هايعيش معانا ونصبح ونمسى عليه يوميا».
وعن مشاعرها كأم قالت: «فرحانة إن مينا وباقى الشهداء ماضعفوش أمام الشر والإرهاب وكانوا هما الأقوى، استشهدوا لأجل المسيح وأنا فرحانة لأنهم هينوروا كنيستهما».
وفى حجرة الشهيد مينا وضعت الأم صوره ومتعلقاته، قائلة: »أنا بصبح وأمسى عليه. وتلقى الأم بتحية الصباح عليه» صباح الخير يا مينا وفى المساء قبل نومها كذلك «تصبح على خير يا مينا» تتحدث معه، عندما تشعر بالضيق وتخرج وهى تشعر بالراحة.
ولفت شنودة نجاتى أنيس، شقيق الشهيد لوقا، من قرية الجبالى بمركز سمالوط، إلى أن شقيقه الشهيد عمره 27 عاماً، وحضر إلى القرية قبل عام واحد لإتمام زواجه، ورزقه الله بطفلة تدعى مريم عمرها الآن 3 سنوات، ولم يشاهد طفلته، ولكنها تعلم وتقول «بابا بيحب ربنا قوى عشان كده اختار يروح عنده».
ويقف عدد من شباب قرية العور كنيسة الشهداء أول كنيسة فى مصر تحمل اسم «الإيمان والوطن» على مساحة 1200 متر مربع مكونة من طابقين، ويتلوا الشباب مديح الشهداء بترنيمة كتبت خصيصاً فى مدح الشهداء وتحكى حكاية استشهادهم باختصار، ويعزف أحدهم على آلة الدف أو الناقوس، تلك الآلة الموسيقية البسيطة التى تستخدم فى الكنائس الأرثوذكسية مكان جثامين الشهداء تنفيذا لوصية الكتاب المقدس.
وقرر الأنبا بفنوتيوس، مطران سمالوط للأقباط الأرثوذكس، تخصيص الدور الأرضى الذى كان يستخدم ككنيسة إلى وتحويلها لمزار، ويشرف المطران الآن على تجهيز وبناء مزار كبير من الرخام لوضع جميع الجثامين ويغطى المزار بلوح زجاجى كبير يقع داخل الهيكل الذى كان يستخدم كمذبح ثم صحن الكنيسة لتنظيم دخول وخروج الزائرين.
وأوضح القمص داوود ناشد، وكيل مطرانية سمالوط، أن موضع الجثامين هو الوضع الطقسى المفترض أن يكون عليه، طبقا لما ورد بالكتاب المقدس فى سفر الرؤيا فأجساد القديسين والشهداء توضع أسفل المذبح، الذى يصلى عليه القداسات، أو توضع فى مبنى يعلوه مذبح، اتساقا مع ما جاء بالإصحاح السادس من سفر الرؤيا: «ولما فتح الختم الخامس، رأيت تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشهادة التى كانت عندهم».
أما القس مقار عيسى، راعى كنيسة السيدة العذراء بقرية العور، فأكد أن أسر الشهداء جميعهم تغلفهم تعزية سماوية رفعت الأحزان عنهم، فهم فخورون بأبنائهم، ولم يبتعدوا عن الكنيسة كما توقع البعض، بل على العكس تقربوا منها ومن الله بشكل أكبر.
وكرس أهالى الشهداء أوقاتهم بالتناوب لإنهاء الأعمال التطوعية واللمسات الأخيرة فى الكنيسة، معتبرين أن هذا المكان أعد تكريما لهم وهو بمثابة رمز لمكانتهم فى السماء.
وتعجب بشير زكى، عم أحد الشهداء، من الصدفة، بل هو ترتيب إلهى الذى جعل وقت الإعلان عن أماكن جثامين الشهداء فى نفس التوقيت التى تجرى فيه التشطيبات النهائية الأخيرة لكنيستهم، وكأن أجسادهم أبت أن تظهر قبل أن يعد لها المكان.
وأكد زكى أن جهاز الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة بدأ العمل بها فى إبريل 2015، أى بعد الواقعة الأليمة بشهرين فقط.
وبعيون باكية استقبلنا مكين زكى حنا، 55 سنة، والد الشهيد ميلاد مكين، والذى يحرص على زيارة الكنيسة بشكل دورى، قائلاً: أشعر وأنا هنا فى كنيسة الشهداء أن روح ابنى تهفهف حول المكان وأرتاح بوجودى داخلها
وتابع قائلا: «الحمد لله، مات بطلا، ولم يستعطف أحدا حتى يبقى على حياته، ولم يحد عن إيمانه بدينه ووطنه هو وأخوته الشهداء.
ووجه عماد سليمان، شقيق الشهيد ماجد سليمان، الشكر للقوات المسلحة، لأنها وفت على مدى العامين الماضيين بإنشاء الكنيسة كما وعد الرئيس.