x

«المصري اليوم » تعيد نشر مقال الراحل محمود درويش: رسالة الشعب الفلسطينى فى ذكرى النكبة

الثلاثاء 15-05-2018 02:58 | كتب: اخبار |
ملف نكبة فلسطين - صورة أرشيفية ملف نكبة فلسطين - صورة أرشيفية تصوير : آخرون

اليوم هو يوم الذكرى الكبرى، لا نلتفت إلى أمس لاستحضار وقائع جريمة وقعت، فمازال حاضر النكبة ممتداً ومفتوحاً على جهات الزمن، ولسنا فى حاجة إلى ما يذكرنا بتراجيديتنا الإنسانية المستمرة منذ ثلاثة وخمسين عاماً، فمازلنا نعيشها هنا والآن، ومازلنا نقاوم تداعيات نتائجها، الآن وهنا، على أرض وطننا الذى لا وطن لنا سواه.

لن ننسى ما حدث لنا على هذه الأرض الثكلى وما يحدث، لا لأن الذاكرة الجمعية والفردية خصبة وقادرة على استعادة حكاياتنا الحزينة، بل لأن الحكاية- حكاية الأرض والشعب، حكاية المأساة والبطولة، مازالت تروى بالدم، فى الصراع المفتوح بين ما أريد لنا أن نكون، وبين ما نريد أن نكون.

وإذا كان صناع النكبة الإسرائيليون يعلنون فى هذه الذكرى أن حرب العام 48 لم تنته بعد، فإنهم لا يفضحون سوى سراب سلامهم الذى لاح خلال العقد الماضى، ملوحاً بإمكانية التوصل إلى وضع نهاية للصراع تقوم على اقتسام الأرض، ولا يفضحون سوى صعوبة وضع المشروع الصهيونى والسلاح فى سياق واحد، طالما أن هدفه فى القضاء على الشعب الفلسطينى مازال مدرجاً على جدول الأعمال.

إن المعنى الذى يفهمه الفلسطينيون لتلك الحرب يتمثل فى تعرضهم لعملية اقتلاع كبرى، وفى تحويلهم إلى لاجئين فى بلادهم وخارجها، وفى محاولة طردهم من الوجود والهواء والفضاء، بعد احتلال أرضهم وتاريخهم، ولتحويلهم من كينونة صريحة فى الزمان والمكان إلى فائض من أشباح منفى خارج الزمان والمكان.

لكن صناع النكبة لم يتمكنوا من كسر إرادة الشعب الفلسطينى وطمس هويته الوطنية، لا بالتشريد ولا بالمجازر ولا بتحويل الوهم إلى واقع ولا بتزوير التاريخ. لم يتمكنوا طوال خمسة عقود من دفعنا إلى الغياب والنسيان، ومن إقصاء الحقيقة الفلسطينية عن الوعى العالمى، ولا بالخرافة ولا بصناعة حصانة أخلاقية تمنح ضحية الأمس الحق فى إنتاج ضحيتها، فليس هنالك من جلاد مقدس.

واليوم، تأتى ذكرى النكبة فى غمرة دفاع الفلسطينيين عن الإنسانى فى كينونتهم، عن حقهم الطبيعى فى الحرية وتقرير المصير على جزء من أرض وطنهم التاريخى، بعدما قدموا أكثر مما تقتضيه الشرعية الدولية من استحقاقات لجعل السلام ممكنا. وعندما اقتربت لحظة الحقيقة أفصح مفهوم السلام الإسرائيلى عن جوهره الحقيقى: استمرار الاحتلال باسم آخر، بشروط أفضل، وتكلفة أقل.

إن الانتفاضة، أمس واليوم وغدا، وهى التعبير الطبيعى المشروع عن مقاومة العبودية المتمثلة فى احتلال يتسم بأبشع أشكال الفصل العنصرى، ويسعى تحت قناع عملية السلام المراوغة إلى تجريد الفلسطينيين من الأرض ومصادر الحياة، وإلى عزلهم فى تجمعات ديموغرافية معزولة ومحاصرة بالمستوطنات والطرق الالتفافية، على أن يؤذن لهم، بعد أن يوافقوا على (إنهاء المطالب والصراع) بإطلاق اسم الدولة على أقفاصهم الواسعة.

والانتفاضة هى حركة احتجاج شعبية ومدنية من حيث الجوهر، لا تشكل قطيعة مع فكرة السلام، لكنها تسعى لإنقاذها من ضلال العنصرية وإعادتها إلى أبوابها الشرعيين الوحيدين: العدل والحرية.

وذلك بمنع المشروع الكولونيالى الإسرائيلى فى الضفة الغربية وقطاع غزة من الاستمرار تحت غطاء عملية السلام التى أفرغها القادة الإسرائيليون من أى معنى ومضمون.

إن أيدينا الجريحة مازالت قادرة على حمل غصن الزيتون اليابس، من بين أنقاض الأشجار التى يغتالها الاحتلال، إذا بلغ الإسرائيليون سن الرشد واعترفوا بحقوقنا الوطنية المشروعة، كما عرفتها قرارات الشرعية الدولية، وفى مقدمتها: حق العودة، والانسحاب الكامل من الأراضى الفلسطينية المحتلة فى عام 1967، وحق تقرير المصير فى دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس، إذ لا سلام مع الاحتلال، ولا سلام بين سادة وعبيد.

وليس فى وسع المجتمع الدولى أن يواصل غض الطرف عما يحدث الآن على أرض فلسطين، كما فعل فى عام النكبة، فالعدوان الإسرائيلى مستمر فى تدمير المجتمع الفلسطينى ومحاصرته، وفى القتل والاغتيال، بكل ما يملك من فائض قوة تدميرية ضد شعب أعزل يدافع عما تبقى من وجوده المهدد، وعما تبقى من أشجاره المعرضة للمزيد من الاقتلاع.

إن الحرب المعلنة على الشعب الفلسطينى ليست معزولة عن مدى اهتمام العالم، فهى تعبر عن معركة بين قيم عالمية متناقضة: بين قوى تستهدف تمكين الصهيونية الكلاسيكية، ذات النزعة الكولونيالية، ونظام الفصل العنصرى، من مواصلة الحياة بتعابير وشعارات جديدة، وبين قوى تصر على أولوية العدل والحق فى هذا المكان من العالم.

لذلك، فإن انخراط دول العالم وشعوبه فى المجابهة الدائرة فى فلسطين اليوم، ووقوفها إلى جانب الشعب الفلسطينى، المحروم من شرط الحياة العادى والمألوف، لا يدل على التزامها بضرورة الاستقرار السياسى فى الشرق الأوسط، حماية لمصالحها فحسب، بل هى امتحان أيضاً لموقف أخلاقى يختبر ما لقيم الحرية والعدالة والمساواة من مصداقية وأولوية فى حياة تلك الشعوب وثقافتها.

إن تدخل المجتمع الدولى لحماية الفلسطينيين من وحشية العنف والإرهاب اللذين يمارسهما النظام الإسرائيلى، الذى نصب نفسه فوق القانون الدولى، أصبح ضرورة ملحة أكثر من أى وقت مضى، لا للتفكير عن خطيئة سابقة فقط، بل للحيلولة دون ارتكاب المزيد من الخطايا، والحيلولة دون إضافة فصل جديد إلى فصول النكبة، وبدلا من أن تعترف إسرائيل بمسؤوليتها عن النكبة وعن مأساة اللاجئين، كما تقتضى قواعد التسوية السياسية، فإنها تسعى إلى تطوير سفر النكبة، وإلى العودة بالصراع إلى ساحته الأولى، وتذكرنا بأن الحكاية لا تبدأ من النهاية.

لم ننس البداية، لا مفاتيح بيوتنا، ولا مصابيح الطريق التى أضاءها دمنا، لا الشهداء الذين أخصبوا وحدة الأرض والشعب والتاريخ، ولا الأحياء الذين ولدوا على قارعة الطريق، الذى لا يؤدى إلا إلى الوطن الروح، ما دامت روح الوطن حية فينا.

لن ننسى أمس، ولا الغد، والغد يبدأ الآن، من الإصرار على مواصلة السير على هذا الطريق.. طريق الحرية، طريق المقاومة حتى التقاء التوأمين الخالدين: الحرية والسلام.

* نشر بتاريخ 9 مايو 2001

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية