x

د. ياسر عبد العزيز مفكرون للإيجار د. ياسر عبد العزيز الأحد 06-05-2018 02:35


روى لى أحد كبار منتجى البرامج فى محطة فضائية خليجية أن مقدم البرنامج الأكثر شهرة فى تلك المحطة دخل فى مشادة حادة مع مُعد برنامجه، بعدما جلس دقائق إلى ضيفى الحلقة محل الإعداد، ليكتشف أن أحدهما يدين بالولاء للآخر، ويعتبره «أستاذه»، ويصدّق على معظم ما يطرح من أفكار ورؤى.

كانت حجة مقدم البرنامج أن فكرة برنامجه، التى تقوم على التناظر الحاد بين الأفكار، لا يمكن أن تثمر إلا فى حال تباينت أفكار المتناظرين، بل وتصادمت تصادماً بيناً. وقبل أن يرد مُعد البرنامج، والمسؤول عن اختيار الضيوف، مبرراً اختياراته، كان الضيف الكبير، مقاماً وسناً، يقول للمقدم بثقة وهدوء يعكسان احترافاً لهذه الصنعة: «لا تقلق، سنشعلها لك ناراً».

وبالفعل، وفى الميدان، التزم «المفكر» الكبير، مقاماً وسناً، بوعده، فقد أشعلها ناراً، وعلى عكس الاتفاق البادى قبل التسجيل مع «تلميذه»، فقد أظهر الضيفان تصادماً وتعاركاً وخلافاً حتى العظم فى كل ما تم طرحه من تساؤلات أو أفكار أو حتى وقائع.

فمع وجود أكثر من 1000 قناة فضائية عربية، تبث على مدى ما يزيد عن عشرين ألف ساعة يومياً، نشأت الحاجة لمصادر من مفكرين وباحثين وعلماء وسياسيين ومعلقين ومحللين، يمكنهم التعليق على الأحداث ذات الأهمية، وتقديم تلخيصات أو تحليلات وافية، أو إلقاء الضوء على جوانب فنية لا يدركها الجمهور العادى، أو الاشتراك فى برامج المناظرات كخصوم مفترضين.

وللأسف الشديد، وكما يحدث فى معظم أنشطتنا، فمعايير الجودة فى الأداء تغيب، وتصب الاختيارات فى الاتجاه غير الصحيح عادة، أو يستسهل المعدون والمنتجون اللجوء إلى الأسماء المعروفة، والوجوه المألوفة، للحصول على مداخلة تليفونية سريعة، أو زيارة للمحطة الفضائية، أو مشاركة فى أحد البرامج.

وإذ تفيد قواعد علم الاقتصاد أن ظهور الطلب يخلق بالضرورة عرضاً للوفاء به، فقد ظهر العرض من تلك البضاعة وافراً ومتنوعاً إلى أقصى درجة ممكنة، حتى بات يخيل للمرء أن معاهد تدريب أنشئت لتخريج معلقين ومحللين جاهزين للانطلاق فوراً إلى ساحات الفضائيات وميادينها، وبأعلى درجة ممكنة من الجاهزية الشكلية، التى لا ترقى، فى الغالب، إلى جاهزية فى المضمون.

وعلى غرار الـ Fast Food، أو الأطعمة السريعة والمعلبة ذات السعرات الحرارية الثقيلة والأضرار الصحية البالغة، يمكن تسمية الموجة التى لبت هذا الطلب بالعرض الوافر بالـ Fast Culture، أو موردى الطلبات الثقافية السريعة، أو المفكرين تحت الطلب Fast Thinkers، والذين يمكن الوصول إليهم فى ظرف دقائق معدودات، والطلب إليهم الحديث فوراً عن موضوع محدد، سواء عبر الهاتف أو القمر الاصطناعى أو أمام الكاميرا. وبات المعدون والمنتجون فى المحطات يضعون أسماء فى أدلة عملهم، ويضيفون إلى كل اسم من تلك الأسماء عدداً من المجالات التى يمكن له أن يتحدث فيها، وفى بعض الأحيان يضيفون إلى هذا الاسم أو ذاك وصفاً مختصراً للحال التى يؤدى بها «دوره»، وهل يتمتع بالقدرة على «التسخين والإشعال»، وهو ما يعنى قابليته للمشاركة فى برامج «المصارعة» أو المناظرات.

المفكرون تحت الطلب اليوم يمثلون طبقة واسعة، وهم فى ازدياد مطرد، يتكسبون من الظهور على الشاشات، وينظّرون ويعلقون ويحللون ويناظرون ويشرحون أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأمنية والرياضية، وربما يشكلون جزءاً من الوعى الجمعى للأمة، وهو أمر يثير مخاطر كبيرة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية