x

رحيل أحمد خالد توفيق.. «الغريب الذي أحبَّ الخريف»

الثلاثاء 03-04-2018 13:23 | كتب: نورهان مصطفى |
أحمد خالد توفيق أحمد خالد توفيق تصوير : اخبار

السبت، 2 إبريل 2011، عاد دكتور أحمد خالد توفيق من عمله بالمستشفى القريب، كان مساءً دافئًا، تدور في الخلفية كلمات المُطرب الأمريكي كيني روجرز، «إنها تؤمن بي.. لن أعرف أبدًا ما الذي تراه فيّ». نعم هي أغنيته المُفضلة، جلس بعدها يتذكّر مشاهد من فيلم المُخرج الإيطالي، فيلليني، «أماركود»، الذي تقول الترجمات المُعلبة إنه يقول «أنا أتذكّر».

لم يتذكّر دكتور أحمد خالد توفيق ما حدث بعدها، فجأة وجد نفسه داخل سيارة يقودها غرباء تنهب شوارع طنطا في الظلام، لا شىء سوى قلب يُصارع الموت، قناع أكسجين، قسطرة، وتشنجات لا تهدأ، كما يقول في مقاله المعنّون بـ«أماركود.. أنا أتذكّر»، نُشر في مجلة «الشباب»، قائلاً: «فهمت ببطء أن قلبي توقف عن العمل تمامًا».

«عندما رقدت في الضوء الخافت بعد ذلك كُنت أفكر في أحداث اليوم. كان من الوارد جدًا أن يكون موعد دفني (الأحد 3 إبريل بعد صلاة الظهر)»، كتب ذلك في مقاله المذكور سابقًا، وكأن تلك الليلة كانت «بروفة» موت مؤقت، فبعد مرور 7 سنوات رحل، على أن يُدفن 3 إبريل بعد صلاة الظهر، ولكن بتاريخ 2018.

لم يمُت أحمد خالد توفيق، بلّ أغمض عينيه ليسترح قليلاً، ربمّا جلس في مكان آخر ليتأمل كتابات «تشيكوف» كاتبهُ المفضل في هدوء، مات أمس، عن 55 عامًا، إثر أزمة صحية. نعم رحل في القاهرة الخرسانيّة، التي لم يحبها يومًا، كما قال «قروي سحرتهُ أضواء المدينة».

(1)

على امتداد رِحاب مسجد أحمد البدوي، ولد أحمد خالد توفيق في مدينة طنطا، جاء مختلفًا لا يشبه تكرارهم، يقرأ لجلال أمين، ويُسافر إلى روسيا بمخيلته ليتذوّق كتابات «تشيخوف»، وفي الوقت نفسه، طالب مُلتزم في دراسته، تخرّج في كلية الطب جامعة طنطا 1985، وحصل أيضًا على درجة الدكتوراة، أتمّ كل ذلك مع استمرار شغفه الذي لم ينقطع بالأدب.

تعثّر أحمد خالد توفيق في بداياته الأدبية، فعندما تقدّم إلى المؤسسة العربية الحديثة بسلسلة «ما وراء الطبيعة» لم تلق قبولاً، إذ كتبت اللجنة في تقريرها شديد اللهجة: «أسلوب رديء، مُفكك، تنقصه الحبكة، وبه الكثير من الغموض».

[image:2]

أصرّ مدير النشر، حمدي مصطفى، على تشكيل لجنة ثانية تُقيّم أعمال الكاتب الشاب، وجاء تعليق اللجنة الثانية بالقبول، قائلين إن الأسلوب ممتاز، القصة بها إثارة وتشويق، كما أن الحبكة الروائية مترابطة، فعاد الأمل مرة أخرى لعيون الأديب الشاب أحمد خالد توفيق.

وكأنّه أسطورة الغرباء، استطاع أحمد خالد توفيق أن يترك ميراثًا ثمينًا في نفوس مُحبيه، خاصة من أجيال الثمانينيات والتسعينيات، فهو من الكتاب العرب القلائل الذين برعوا في كتابة روايات الخيال العلمي وقصص الرعب مثل «ما وراء الطبيعة»، «فانتازيا»، و«سافاري».

كمّا أصدر العديد من الروايات في حقول مختلفة، مثل «السنجة»، «يوتوبيا»، «مثل إيكاروس» و«في ممر الفئران». بجانب عدد من القصص القصيرة، منها «قوس قزح»، «عقل بلا جسد»، «حظك اليوم»، «الآن نفتح الصندوق»، و«لست وحدك».

(2)

«هُناك عبارة يقولها ر.ل.شتاين، أريد أن أكتب على قبري (جعل الأطفال يقرأون). أما أنا فأريد يُكتب على قبري (جعل الشباب يقرأون)».. إحدى مقولات دكتور أحمد خالد توفيق.

«عندما أقرأ كتاباتك، أشعُر بأنني لست وحدي في ليالي الشتاء الباردة».. جملةٌ كتبتها واحدة ممنّ نشأوا على أعمال دكتور أحمد خالد توفيق، فيرُد عليها آخر «مات الرجُل الذي أخبرنا لأول مرة أن العالم أوسع ممّا كنا نعتقد»، ليعلم الدكتور الآن أنه ترك ميراثًا كبيرًا في عقول أجيال كاملة، كما كان يؤمن بهم «الشباب بتاعنا ده قماشة هايلة».

«لقبك العرَّاب؟»، يُداعبه الكاتب عمر طاهر، خلال لقائه الأخير في برنامج «وصفولي الصبر»، فيُجيب ساخرًا «أنا بقول كلام فارغ، اللقب ده مستحقوش، الروب ده واسع عليا جدًا».

ظهر خلال اللقاء المذكور سابقًا، رجلاً عاديًا، بدا وكأنه رب أسرة عاد لتوه من وظيفته الحكومية. يرتدي «جاكيت أسود»، قميصا يُبرز لونه الأخضر على استحياء، ملابس بسيطة ظهر بها في لقاء سابق، ولكن تلك الأمور لم تشغلهُ أبدًا، إذ جلس متكئًا على ثقافة واسعة، قلبّ هش متواضع.

«هل تشعُر بالظلم؟»، سؤال وجهه لهُ بلال فضل، خلال إحدى الحلقات المُسجلة من برنامج «عصير الكتب»، لم يشعُر أحمد خالد توفيق بالغضب حينها، أجاب بنبرة لم تخلو من الرضا «أنا مكتفي بالشباب.. شعوري فعلاً بالأمل إني كان نفسي أدخل مجال السينما لكن فشلت».

(3)

اختار أحمد خالد توفيق أنّ يقف هُناك في الظل، يسيطر بكُل خيوط الأمل بين أنامله، بقى صديق المقهى الحكّاء البسيط الذي لا تتوقف حكايته، من مكانه هُناك، بالقُرب من بيئته الريفيّة الهادئة في طنطا، كما قال: «أنا كهل متوحّد، يميل للوحدة، لا أستخدم السوشيال ميديا، أخجل من أي لقاء وأكره الزحام».

كقروي لم يألف أبدًا أضواء المدينة، ظل أحمد خالد توفيق في طنطا، لا يحب الخروج من منزله من العمل للمنزل والعكس، لدرجة أن حُبه لطنطا جعل إنتاج فيلم له يتأخر فترة طويلة، لأنه لا يقدر على المتابعة من هناك، فعندما كان يُعاتبه أحد، يُجيب ساخرًا: «كيف لكتَّاب القاهرة أن يكتبوا في وسط كل هذه السيارات والمقاهي».

كمدينته الهادئة، كان يُعبر أحمد خالد توفيق عن آرائه السياسية بحنكة أب يخشى مستقبل أولاده، يُردد «إسرائيل عدو»، فيما يتساءل متشحًا بثوب المنطق قائلاً: «كيف لا ينغرس الرمح في صدر الحكام في مسابقات رمي الرمح؟»، ولكنه كان منحازًا للإنسانية دائمًا «الدم ... كلمني أنا عن حكايات الدم.. لكن قل لي بربك كيف كيف لا يصير من رأى هذا كله أديبًا؟».

(4)

«لقد عاش حياته في سكينة وسلام

دون أن يعرف للحزن أو للبهجة معنى

وفجأة، ودون سابق إنذار،

جاءه الألم ليعشش بين تلافيف قلبُه»

مقطعٌ من قصة الكاتب الروسي، أنطون تشيخوف، أحد كُتاب دكتور أحمد خالد توفيق المُفضلين، لم يحتمل عرَّاب الشباب مرضه منذ 2011، قال في حوار صحفي مع «مصراوي»: «لقد تجاوزتُ مرحلة الأحلام منذ مرضت، أشعر أن المسرحية انتهت، القطار وصل سيدي، لا يوجد وقت قبل محطة مصر سوى لإغلاق الحقيبة وطي الجريدة والاستعداد، لا أستطيع الخلاص من نفسية المسافر هذه».

وكأنهُ «مسافر»، عاش أحمد خالد توفيق سنواته الأخيرة، الرجُل الذي أحب الخريف وكان يداعبه مازحًا «لو أنصف فريد الأطرش لغنى (وآدي الخريف عاد من تاني)». حزَم حقائب الأمل، وتركنا نتساءل «أكانَ لابد أن تطفئ النور يا دكتور؟».

رحل دكتور أحمد خالد توفيق، الأب الروحي، بعد أن عاش «بروفة» الموت الأولى في 2011، وسجّلها:

«جميل جدًا ألا تعرف أنك تموت ولا تتوقع ذلك.. فجأة أنت هناك مع السر الأزلي، وتدخل عالم القبر والكفن وانتفاخ البطن وسقوط الأنف.. ويخافك الأحياء.. لكنه بلا شك أفضل من معاناة صعوبة التنفس أيامًا وأنت موصول بجهاز تنفس، أو الشلل عدة أشهر وتلويث الملاءات، أو السقوط تحت عجلات قطار أو ميكروباص مجنون.. كانت ميتة جيدة نظيفة برغم كل شيء».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية