دخان كثيف يغطى الميدان كضباب صباح شتوى كئيب، ورصاصات حية أو خرطوش أو مطاطية تتطاير عشوائية فى كل الاتجاهات، وصيحات تعلو وسط الزحام تنادى بالصبر والتماسك والحرية، وصرخات لمصابين يضربهم رصاص الأمن وغازاته دون رحمة.
مشهد كابوسى لسيقان مصابة أو أجساد مجروحة، أو رؤوس تغطيها الدماء، لكن الأكثر إيلاماً هو إصابة فى العين.. لا أحد يعلم هل مصادفة أم قصد أن يكون معظم جرحى مظاهرات جمعة وسبت الغضب - بفاصل 9 أشهر - مصابين فى عيونهم، إما بتأثير الغاز، أو بتأثير تلك الطلقات المجنونة التى يتبرأ منها الكل الآن، وينسبونها إلى مجهولين.
ما يغطى على الألم شهادات الثائرين الذين أصيبوا فى عيونهم، إذ يقولون «نخسر عيوننا.. لكى ترى مصر الحرية».. إنه إبداع الألم والثورة والحرية.
«حرارة» فقد عينه اليمنى فى جمعة الغضب واليسرى فى «سبت الغضب»..«عبدالفتاح»: عينيا ماراحتش هدر.. و«مالك»: لما تيجى على «عين» تهون.. بس نشوف مصر حرة
يخفون عنه ما يحدث فى التحرير، الساعة تقترب من السادسة، الثوار يسيطرون على الميدان، والمطالب تعلو بإسقاط المشير، وتندد بتعامل الشرطة «الوحشى» ضد المدنيين عشية السبت 19 نوفمبر، لكل من فى الطابق الخامس من مستشفى العيون الدولى ذكرى مؤلمة ارتبطت بهذا اليوم، يوم اقتنصت رصاصات الغدر أعينهم اليمنى، اليمنى بالتحديد، لكن ثمة شاب ضاعت عينه اليسرى، فهى الوحيدة الباقية، أما اليمنى، فضحى بها فى يوم الغضب 28 يناير.
أحمد حرارة، طبيب شاب فى ربيعه الثالث، يقبل على ما بقى من حياته بابتسامة وعزيمة هى عنده الدنيا بكل ما فيها، تخطئ صديقة له وتخبره بأن الجيش فض الميدان بالقوة، وأن مصابين كثيرين سقطوا، تتجمد ملامحه فجأة، يتأهب كل من فى الغرفة، الجميع يرسم ابتسامة واهنة على الوجوه وكأنه يراهم، يلقون النكات، يطمئنونه بأن الأطباء أكدوا إمكانية استعادة عينه الباقية، حال توقف النزيف فى غضون أيام، يمازحه آخر مطريا على حسناوات جئن للاطمئنان عليه بعدما تواترت الأنباء عن إصابته فى عينه، يتجهم للحظات، قبل أن يأتى ثالث بالخبر الفصل «الثوار تقدموا والجيش انسحب وسيطرنا على الميدان»، تتهلل أساريره ويرسم بأصبعين علامة النصر فى الهواء «الناس حقها هايرجع لها.. وعينيا مارحتش هدر».
هو أيقونة الإصرار هنا «أنا مالحقتش أرمى ولو طوبة، جابونى إزاى ولاد اللذينه دول، بس شكلهم كانوا طمعانين فيها.. عموما مش مهم، أنا برضه ضحكت عليهم، اديتهم عينين اتنين بس وهاناخد حريتنا، حرية مصر.. إحنا الكسبانين»، تترقرق دمعات فى مقل كل من بالغرفة، تتظاهر إحداهم بالتحدث فى هاتفها، تخرج إلى السلم الخلفى، يرتفع بكاؤها تدريجياً، تتلقى اتصالاً حقيقياً وتعجز عن التماسك، يحاول الطرف الآخر تهدئتها دون جدوى «يا أمى إحنا كلنا بننهار، جينا عشان نقف معاه ونواسيه لاقيناه هو اللى بيواسينا وخايف علينا وبيدينا أمل.. إحنا قليلين أوى جمبه».
عينه اليمنى فقدها فى جمعة الغضب، فزينها فخرا بقلادة نحاسية نقش عليها التاريخ «28يناير»، وكأنما وسام الثورة على جبينه، تأخر نزوله قليلا يوم 19 نوفمبر، لكن قدره كان بالمرصاد، شظايا رصاص مطاطى اخترقت عينه اليسرى، لم تفارقه سخريته، أخرج هاتفه وحاول عبثا الاتصال بأحد أصدقائه، أجابت حنان عند الثالثة صباحا، وحملته إلى المستشفى، وكان فى انتظاره المصابان مالك مصطفى وأحمد عبدالفتاح.
لا تملك نفسك حين تدخل إلى مالك فى غرفته إلا أن تنحنى على رأسه وتقبلها، الابتسامة نفسها فى الصورة التى تناقلها نشطاء تويتر وفيس بوك -بعد أن أصابت الرصاصة عينه- لم تفارقه، يتمدد فى كامل لياقته وكأنه أسد فى قيلولته، ينتابه توتر متقطع كلما طرق عليه أحد باب الغرفة، زوجته تراقب الغرفة من الخارج فيما يدخن خفية سيجارة منع عنها منذ أدخل المستشفى، فجأة يدلف شاب جاء لتوه من الميدان، يتحامل على نفسه ليجلس قليلا فى حضرة مالك ويطمئن عليه، لحظات ويتكشف أن الشاب القادم تلقى هو الآخر رصاصة فى عينه، ورؤيته بعينه اليمنى شبه معدومة، ينتفض محاولا الاتصال بطبيبه، تهدئة زوجته ويحمل الشاب إلى غرفة الكشف، ومنها إلى العمليات، إنه السيناريو المتكرر، طلق خرطوش فى العين اليمنى، ونزيف يتبعه خياران لا ثالث لهما، إما الأمل فى العلاج الطويل، أو الظلام الطويل «بس هى تيجى على عين كانت تهون، نتعمى ياسيدى كلنا بس نشوفها حرة، أمال كنا بنحارب كل ده ليه؟!».
يأتى الطبيب ليكشف عليه، يباغته ممسكا يده، «أنا ناس كتير كشفت عليا، ممكن تشوف الشاب اللى لسه جاى يمكن تقدروا تلحقوه»، يبتسم مطمئناً إياه أنه وقع الكشف عليه وجار اتخاذ اللازم، يأتيه الخبر بأن «حرارة» خرج من غرفة العمليات، يستند إلى زوجته فاطمة ويذهبان إليه، فى طريقه يطمئن على أحمد عبدالفتاح، كلاهما مصاب فى عينه اليمنى، أمرٌ يرى مالك فيه بعض الريبة، ثلاثة ممن كانوا معه فى «قصر العينى» أصيبوا الإصابة ذاتها فى نفس العين، يجتمع ثلاثتهم مالك وأحمد وحرارة على سرير الأخير، يرفع يده ليشد على أيديهم، تتعلق لبرهة فى الهواء، يرتبك الاثنان، لا يعرفان من يقصد، يبادر أحمد ويلتقطها «يا سيدى هانت، كلها كام يوم وتعمل العملية التانية وترجع زى الفل»، يبتسم «حتى لو مارجعتش..برضه زى الفل».
يتوافد الزوار على الغرفة 506، أشخاص سمعوا وقرأوا، لا يعرفون أحدا ممن أصيبوا، فقط عرفوا أن إصاباتهم كانت فى العين، يأتى عشرات الصحفيين والمصورين للاطمئنان على أحمد، أحدهم راح يسر إلى والديه «ابنكم ما اتصابش وهو سايق عربيته وسكران أو وهو بيهزر أو بيلعب، ده كان بيشتغل وماسك كاميرته سلاحه وفى أنضف وأنقى ميادين المعارك فى التحرير.. ماتزعلوش»، يسترق أحمد السمع إليه ويربت على كتفه: «يا صديقى أنا مش محتاج حد يواسينى، أنا فخور بإنى اتصبت، ولا عمرى كنت أحلم إنى أنول الشرف ده».
ثمة صداقة ميدان تجمع ثلاثتهم، لكن رابطة أقوى بين مالك وأحمد، وصلا تقريبا فى نفس التوقيت، يتندر الطبيب بقصتيهما «وصل مالك أولا، وتم تجهيزه لإجراء العملية، وعندما شاهد أحمد طلب من الطبيب أن يجرى الجراحة لصديقه أولا، أخبره بأن طبيبا آخر فى الطريق وسيصل فى غضون دقائق، ألح عليه، ورفض دخول العملية إلا بعد أن وصل الطبيب الآخر وبدأ يجهز صديقه، فأذعن راضيا، وسط أجواء أثارت دهشة كل المتواجدين بالمستشفى لمريضين عطل كل منهما نفسه عن إجراء جراحته حبا فى رفيقه، علما بأن الوقت لم يكن أبدا فى صالحهما، وربما يقضى على بصيص الأمل الباقى.
أفاق مالك وسأل على شيئين، الاعاشة فى الميدان وأحمد، تشرح فاطمة: «مالك هو المسؤول الأول عن إعاشة الثوار فى الميدان، الماء والعصير والطعام والأدوية والبطاطين، كانت مهمته رصد احتياجات الناس فى الميدان ونشر قائمة بها على «تويتر» و«فيس بوك» ومدونته وكل الوسائل المتاحة، وكان الاتفاق أن تأتى مساعدات عينية بشرط عدم التبرع بالمال، وكان شغله الشاغل الناس فى الميدان، وبعد أن طمأنته أن زميلا لنا تولى المسؤولية، راح يطمئن على أحمد، وظل ينتظره خارج غرفة العمليات ويدعو له».
موقف واحد ظل جميع من هذا الطابق يترقبونه بخوف، لحظة وصول والدة أحمد حرارة، يواسيه عبدالفتاح «أنا هاقولك قلبى معاك فى العملية.. إنما فى موضوع والدتك، ربنا هو اللى معاك ومعاها» ينفجر الجميع ضاحكا، يتدخل مالك «دى بهدلته عشان عين واحدة، أمال لو اتنين هاتعمل فيك إيه»، يقاطعهما مفتخراً «إنتوا عيال سيس، آخركم تفدوها بعين، فكان لازم أسجل موقف.. إنما اللى خايف منه بجد، لما أمى تيجى، أنصحكم كلكم تطلعوا برا الأوضة، أو تقولوا إنكم قرايب أحمدعبدالفتاح، أصلها كانت دايماً تقولى: «إنت عينى اللى بشوف بيها...».
«حرارة»..قدم عينيه إلى الآخرين لعلّهم يبصرون
قال عنه صديقه أحمد بحار: «الناس تتكلم عن دكتور أسنان فقد عينيه على مرحلتين ومستقبله راح، لكن ده صاحبى أنا.. بتاعى أنا.. أتكلم عن حرارة الذى يعتبر نفسه (فرفور) من المعادى.. مين البطل.. أنا؟».
وأضاف بحار: «أمس والدته وأقرباؤه كلموه من المغرب وطالبوه بالعودة مثلما يحدث فى كل حدث يشارك فيه بعين واحدة، من العباسية إلى موقعة البالون، رد عليهم: الناس كتير، فقلت له: الناس كتير بس إحنا اللى بننضرب لوحدنا والباقى بيهتف، فقال خليها على الله، أهو خليناها على الله يا حرارة.. اللى ماتوا واتصابوا مننا إحنا.. انت مش هتشوف النور تانى.. مش هتشوف أمك تانى.. مش هاعرف أعملك تاج على فيس بوك لأنك مش هتعرف تحط كومنت، ليه ماجاتش فيا وكملنا عور إحنا الإتنين.. أقسم بالله ما كنت هزعل، آه وألف آه يا صاحبى».
بحار يتحدث عن صديقه أحمد حرارة، أو أحمد البلاسى، طبيب الأسنان المبتسم المؤمن الذى فقد إحدى عينيه فى جمعة الغضب يوم 28 يناير الماضى، وابتسم وآمن، وعاد إلى المظاهرات، ففقد الأخرى بجرح قطعى أحدث تهتكا للنسيج مما تسبب فى صعوبة الإصلاح، ويدل على اختراق جسم ساخن صلب بسرعة كبيرة (طلق نارى)، حسب التقرير الطبى.
أحمد الذى اعتبره الكثيرون بطلا بعد ثورة يناير، قدم عينه الأخرى وهو يقاتل قوات الأمن التى فضّت اعتصاما لمصابى الثورة بعنف بالغ، وكان آخر شىء وضعه على حائطه على موقع فيس بوك، هو أغنية «راجعين» لفريق إسكندريلا، التى تقول كلماتها «راجعين من الماضى.. رايحين على المستقبل.. بعزمنا الماضى.. الدنيا تصبح أجمل» أحمد الذى رفض الظهور الإعلامى طوال الوقت حتى «لا يدخل إلى قلبه الرياء» فقد عينيه الواحدة تلو الأخرى، ومازال يخاف الرياء، فلعل الآخرين يبصرون.
مالك مصطفى..«عينه فدت روحه»
«عينه فدت روحه»، هكذا قالت فاطمة عابد، زوجة مالك مصطفى، الناشط الحقوقى، «28 سنة»، ابن مدينة الإسكندرية، المسؤول الإعلامى عن مركز هشام مبارك للقانون، وتحمد زوجته الله لأن عينه فدت روحه. مالك أطلق منذ أيام دعوة عامة للإضراب عن الطعام احتجاجا على ممارسات المجلس العسكرى، تحت عنوان «يلا نصوم جماعيا ضد العسكر»، لكن لم يمهله مطاط الشرطة طويلا، وأخذ منه عينه اليسرى، وكان يقف يومها كعادته فى الصفوف الأولى يحمّس زملاءه، ويدعمهم، ويدافع عن الأرض. ويتذكر جميع المدونين صورة شهيرة لمالك مصطفى عندما كان يدافع عن الأرض عام 2006 بالتوازى مع معركة استقلال القضاء، وحيداً فى مسجد الأزهر ضد عدد كبير من قوات الأمن، فأطلق عليه منذ ذلك الوقت «كتائب الشهيد مالك».
وشارك «مالك» الذى وقف ثابتاً باسماً بعد إصابة عينه، فى معظم المظاهرات السياسية التى شهدتها مصر منذ تأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية»، كما سبق اعتقاله أثناء اعتصامه وآخرين أثناء تضامنهم مع القضاة، وشارك فى الثورة منذ بدايتها، سواء فى الشارع، أو بتدريب المتظاهرين على صنع أقنعة الغاز.
وهاجم «مالك» على مدونته من سماهم «العم توما» - كناية عن الذين ينافقون المجلس العسكرى- قائلاً: «يرفعون مشيراً فوق الأعناق، ويسجدون لقائد أركان، ويسبحون بحمد اللواءات 99 مرة بعد كل لقاء، ويختمونها مائة بعد اللقاء، يذكرونهم فى صحيهم ويستدعونهم فى أحلامهم، يبنون أحزابهم ويرفعون ذاتهم إلى السماء السادسة، وينتظرون موافقة السادة ليصعدوا إلى السابعة إلى سدرة المنتهى، حيث سيغشاهم نور السلطة، يتناسون أننا أبناء الحقول والشوارع، يتناسون أننا ما كنا نحمل لهم أبدا إلا البغضاء والكراهية المستمرة، يتناسون أن لا مقدس لدينا، وإن وجد فهو مقدس غير دنيوى، يتناسون أننا رأينا الدماء وتذوقنا طعمها وأعجبتنا وتعودنا على مذاقها».
أحمد عبدالفتاح.. المراسل ثائراً
«اخترت أن أسمى تلك التدوينات «يوميات مراسل ثائر» لعدة أسباب، أهمها أننى وكما أوضحت لم أكن مجرد ثائر من الثوار، بل كنت أؤدى عملى كصحفى يغطى الأحداث، إلا أننى وفى الوقت نفسه اكتشفت فى تلك الأحداث أننى لا أؤدى عملى كما ينبغى على أى صحفى أن يؤدى عمله، فأنا ببساطة لم أكن محايداً بالمرة أثناء عملى فى تغطية أحداث الثورة، وهو الأمر الذى اعترفت به لرؤسائى فى العمل مع أول أيام الثورة، وتفهموا ذلك، ولهذا اخترت أن يجمع العنوان بين أننى صحفى مراسل، وأننى ثائر»، كانت هذه هى المقدمة التى كتبها الزميل أحمد عبدالفتاح، المراسل الثائر، فى مدونته.
تخرج أحمد فى كلية العلوم، وأصبح ناشطا سياسيا لكنه عشق التصوير، واعتاد أن يحمل آلة التصوير فى كل تحركاته هاوياً فى البداية، ثم أصبح بعد فترة محترفاً فى جريدة «المصرى اليوم»، وفى يوم الأحداث حمل الكاميرا وتوجه إلى موقع الأحداث بقلب ملتهب وعقل بارد، ومن هناك أكمل روايته على مدونته بقوله: «عندما كنت أصور وسط المتظاهرين بجوار الجامعة الأمريكية فى شارع محمد محمود، فوجئت بشىء يدخل فى عينى اليمنى من أسفل النظارة، فشعرت بألم كبير فى عينى، ولم أستطع الرؤية، وتم نقلى إلى مستشفى قصر العينى، أحد الأطباء وقع على كشفاً مبدئياً، وقال إن هناك انفجاراً فى عينى اليمنى، ويجب عمل أشعة مقطعية ودخول العمليات، إلا أنه أخبرنى بأن ذلك سيأخذ وقتاً طويلا، بسبب وجود العديد من الإصابات». يتمنى أحمد أن يعود إلى الميدان ويقول: «أصبت وأنا أقوم بوظيفتى، ولكن قد لا أستطيع القيام بها بعد ذلك، أتمنى أن ينهى الدكتور عمله بسرعة لأعود مرة أخرى إلى ميدان التحرير، مازالت عندى العين اليسرى سأستطيع العمل بها، ومش هنبطل، دى شغلتنا وده اللى بنعرف نعمله، وهنفضل نعمله طول عمرنا».