مرة أخرى تعود للأضواء قضية دواء الإنترفيرون المصرى طويل المدى الذى يستخدم كعلاج لمرضى الالتهاب الكبدى الوبائى، وتصنعه إحدى شركات الدواء فى مصر عبر حدثين: الأول: دعوى قانونية أقامها خمسة مرضى من الدقهلية ضد التأمين الصحى فى مصر ووزير الصحة السابق حاتم الجبلى، بتهمة السماح باستخدام هذا العقار فى مستشفيات التأمين التابعة لوزارة الصحة بسعره الذى يبلغ 220 جنيهاً، رغم عدم ضعف نتائجه فى العلاج فى مقابل نظيره الأجنبى، 250 جنيهاً - على حد قول هؤلاء المرضى - والثانى: قرار وزير الصحة الحالى الذى صدر منذ عدة أيام بالتعامل مع الدواءين المصرى والمستورد فى التأمين الصحى، وعدم فرض المصرى فقط على المرضى مع قيام المريض بدفع فارق السعر إن أراد شراء الدواء المستورد.
وعودة طرح القضية تعيد طرح التساؤلات حول الإنترفيرون المصرى وحقيقته وما تم إجراؤه من أبحاث عليه ونتائجها مقابل نتائج ما حققته مصنعات شركات الأدوية العالمية، وقبل كل هذا موقف الأطباء المصريين منه، وعلى أى أساس تم اتخاذ هذا الموقف، وأيضاً علاقة ذلك كله بمافيا الدواء العالمية التى قد تفعل أى شىء فى سبيل الحصول على مكاسبها ومنع وجود منافسة.
نعود لبدايات القصة التى تبدأ بقرار شركة دواء «مينا فارم» المصرية فى عام 2002، بأن تنتج دواء الإنترفيرون الخاص بعلاج الالتهاب الكبدى الوبائى «C» فى مصانعها بدلاً من إنتاجه عن طريق أخذ تصريح من الشركات العالمية، وتم الاتفاق مع شركة «راين بيوتك» الألمانية على نقل تكنولوجيا تصنيع المادة الخام للدواء عبر الهندسة الوراثية للشركة المصرية، وليس كما قيل استيراد المادة الخام، لتصنع الشركة الدواء فى مصر بمساعدة أبحاث مجموعة من الأطباء والأساتذة المصريين المشهود لهم بالكفاءة، لإنتاج الإنترفيرون بشكل يتناسب مع السلالة الرابعة من الفيروس التى تنتشر بمصر. وبعد نحو عامين ونصف، تم تصنيع الدواء وعرضه على وزارة الصحة المصرية التى كونت عدة لجان لاختبار الدواء والتأكد من صلاحيته وإمكانية تصنيعه فى مصر وطرحه فى الأسواق. وحاز الدواء، الذى طرح باسم «رايفيرون ريتارد»، قبول تلك اللجان، ليصدر دكتور أسامة الخولى، رئيس الإدارة المركزية للشؤون الصيدلية بوزارة الصحة، إخطار التسجيل النهائى بتاريخ 28 ديسمبر من عام 2004.. هكذا حدثنا دكتور أنور ميخائيل، مدير المكتب العلمى لشركة مينا فارم، مدعما حديثه بما معه من مستندات.
ولكن تلك الخطوة يعترض عليها عدد من الأطباء المصريين الذين يطرحون التساؤل عن كيفية إصدار تسجيل دواء لم تتم تجربته على عدد كبير من المرضى قبل الموافقة عليه، مؤكدين أن أى دواء فى العالم إما أن يكون مصنعاً بتصريح من الشركة الأم، وهنا يجب أن يكون مطابقا للدواء الأصلى فى كل شىء، أو أن يكون دواءً جديداً تماماً، ويجب مروره بمراحل كثيرة من الاختبارات تتم فى سنوات على عدد كبير من المرضى قبل تسجيله. وهو ما ترد عليه الشركة المنتجة بقولها إن الـ«رايفيرون» ليس بجديد ولكن الإنترفيرون معروف منذ أكثر من 50 عاماً، كما أن الجزىء المضاف له ويعرف علميا باسم «peg» جزىء خامل، ليست له آثار جانبية، ومهمته نقل المادة الفعالة للجزء المصاب فى المريض.
ويعلق دكتور أنور ميخائيل على موضوع الأبحاث على الدواء قائلا: «عقب الحصول على تصريح تداول العقار بدأت الشركة بإجراء أبحاث على تأثيره على المرضى من خلال فريق بحثى طبى برئاسة دكتور جمال عصمت، أستاذ أمراض الكبد بجامعة القاهرة، لتبلغ نسبة الشفاء نتيجة استعمال الدواء المصرى على 65 مريضاً - كما يشير البحث - 56%، ثم تكرر البحث بمشاركة الأستاذ دكتور شريف عبدالفتاح، بالأكاديمية العسكرية، على 100 مريض، وبلغت نسبة الشفاء 55%، ثم تكرر البحث مع الأستاذ دكتور علاء عوض بمعهد تيودور بلهارس على 107 مرضى، وكانت نسبة الشفاء 60.7%، وتكررت الأبحاث على الدواء فى أكثر من منطقة بمصر لتبلغ 9 أبحاث لم تقل فيها نسبة الشفاء عن 50%.
ونُشرت تلك الأبحاث فى عدد من المجلات العالمية وكذلك فى مؤتمرات دولية منها مؤتمر أكسفورد عام 2007 وحاز قبول الأطباء المشاركين. وُطرح الدواء فى السوق المصرية فى عام 2006 بسعر 370 جنيهاً للعبوة، مقابل 1500 جنيه لنظيره المستورد، وهو ما دفع بالشركتين السويسرية والأمريكية المنتجتين للإنترفيرون المستورد على تخفيض سعره ليصل إلى 470 جنيهاً. وهو ما يثير التساؤلات بحق تلك الشركات التى كانت تبيع العبوة بسعر 1500 جنيه وارتضت بتخفيضها إلى 480 جنيهاً لتقترب من سعر المنتج المصرى. ولكن التساؤل الأهم هو: هل يعود فارق السعر المضاعف 3 مرات إلى أفضلية نسب الشفاء الناتجة عن استخدام الدواء المستورد؟
الإجابة يطرحها بحث على السلالة الرابعة من فيروس «سى»، والمتوطنة فى مصر، أجرته طبيبة إيطالية تدعى «ماريا جرازيا» على 3070 مريضاً ونشر فى مجلة «Journal Hepatology»، ولم تتجاوز نسب الشفاء حاجز الـ38%.
لم ينته الأمر إلى هذا الحد، فالخلاف بين وجهتى النظر المؤيدة للدواء والمعارضة له مازال مستمراً، عاكساً حالة من الغياب لوزارة صحة المفترض أن تكون حكما صالحا حاسما ونزيها فى تلك المواقف.. فإما أن يكون المنتج المصرى مميزاً ويمكن تداوله أو يكون دون المستوى فتُصِدر قرارا بوقفه، ولكن وزارة الصحة المصرية غابت عن هذا الدور ولم تعلن رأيها بعد تسجيل الدواء عام 2004 تاركة الطرفين كلٌ كما يرى.
وتطور الجدل وتحول لحرب شرسة حينما نجحت شركة «مينا فارم» فى الفوز بمناقصة أجرتها وزارة الصحة المصرية لتوريد 30 ألف عبوة دواء لمستشفى ماهر التعليمى فى شهر مايو من عام 2009، وتقدمت فيها شركة مينا فارم بسعر 220 جنيهاً للعبوة مقابل 250 جنيهاً للعبوة المستوردة بعد تخفيض الشركتين السعر مرة أخرى. تبع ذلك تعاقد هيئة التأمين الصحى، التابعة لوزارة الصحة هى الأخرى، مع الشركة لصرفه للمرضى المتعاملين مع الهيئة، وهو ما دفع بعدد من الأطباء المصريين لمهاجمة الدواء المصرى، معلنين تفضيلهم الدواء المستورد بسبب ضعف نسب الشفاء فى الدواء المصرى وعدم إجراء الأبحاث عليه قبل تسجيله. هنا لجأت الشركة للدكتور جمال شيحة، أستاذ الكبد بجامعة المنصورة، لإجراء بحث على الدواء من خلال مرضاه الذين يتعامل معهم. وهو ما يقول عنه دكتور جمال شيحة: «استخدمت الدواء على 104 مرضى، 38 منهم كانوا من جمعية رعاية مرضى الكبد، وقبلت الشركة المنتجة للدواء المصرى تقديم الحقن مجانا لهم طيلة فترة البحث، أما بقية المرضى فكان جزء منهم عاملين فى مؤسسة السكر والجزء الآخر فى شبكة الكهرباء، وكانت أماكن عملهم هى من تشترى لهم الدواء المصرى على نفقتها لأنه الأرخص. وبما أن الشركة منحتنا الدواء مجانا لعدد 38 مريضاً فكان من حقها معرفة نتائج هذا العدد، وكانت نسبة الشفاء باستخدام الـ«رايفيرون» - وهو الدواء المصرى - 50% ودون آثار جانبية تذكر. ولكن تلك النسبة لا يمكن اجتزاؤها وتعميمها على كل المرضى لأن النتيجة الكلية لعدد 104 مرضى كانت 25%. ولو عدنا لآداب المهنة فليس مقبولا لى كطبيب أن أجرب فى المرضى دواء لم يتم اختباره قبل طرحه فى السوق».
ما يطرحه دكتور جمال شيحة من كلام يمنحنا علامة استفهام أخرى، مفادها: كيف يجرب طبيب دواء على 38 مريضاً دون تأكده منه، ولماذا لم يرفضه؟ وهو ما يبرره دكتور جمال شيحة بالقول: «كنت كمن يمنح شهادة لطفل لقيط. لأن وزارة الصحة سجلته قبل اختباره وتلك علامة استفهام كبيرة».
ولكن دكتور أنور ميخائيل يؤكد أن دراسة قام بها التأمين الصحى على 1000 مريض أكدت ارتفاع نسب الشفاء بين المرضى الذين تم علاجهم بالـ«رايفيرون».
فى عدد من أعداد جريدة «أخبار اليوم» الصادرة فى عام 2009 ومعنا نسخة منها، سأل الصحفى دكتور جمال شيحة عن العقار المصرى فأجاب كما هو منشور قائلاً: «لقد تم تسجيل هذا الدواء بواسطة وزارة الصحة، وتم السماح بتداوله بعد أن قامت الوزارة بالإجراءات البحثية التى تؤكد فاعليته، ثم تم استخدامه بنجاح فى المستشفيات الجامعية مثل: قصر العينى وجامعة المنصورة والزقازيق، وقام العديد من الزملاء بإجراء أبحاث عليه نشرت فى مجلات عالمية، ومن المنتظر استخدامه فى الحملة القومية بعد الانتهاء من بعض الإجراءات التنظيمية التى تقوم بها لجنة خاصة تابعة للحملة».
وهو ما سألنا دكتور جمال شيحة عنه، فأجاب بأن الصحفى لم يفهم كلامه بشكل صحيح، مشيرا إلى أن ما تم إجراؤه من أبحاث على الدواء من قبل الشركة غير دقيق، منها بحث دكتور علاء عوض، بمعهد تيودور بلهارس، وهو ما نفاه دكتور هشام الخياط، رئيس قسم الكبد فى المعهد، مؤكداً أن دكتور علاء لم يقم بالبحث فى المعهد وأنهم غير مسؤولين عن النتائج، كذلك حدث هذا فى بحث نسبته الشركة لجامعة عين شمس، وأكد دكتور يسرى طاهر، رئيس قسم الكبد بالجامعة، أن البحث لم يتم فى الجامعة ولكن فى العيادة الخاصة للطبيبة التى أجرته على مرضاها وهى نتائج لا يمكن اعتمادها. وأضاف: «فى مطلع 2010 اجتمع عدد كبير من الأطباء المتخصصين فى علاج الكبد المصريين فى العين السخنة، وأوصوا فى نهاية مؤتمرهم بضرورة تكثيف الدراسات الطبية على دواء الـ«رايفيرون» لأن ما تم إجراؤه غير كاف، وطالبنا وزارة الصحة بعدم تعميم الدواء فى التأمين الصحى قبل التأكد من نتائجه».
موقف وزارة الصحة تجاه القضية دفع 25 طبيباً متخصصاً فى علاج أمراض الكبد إلى إرسال مذكرة وقعوا عليها إلى الدكتور أشرف حاتم، وزير الصحة، يطالبونه فيها بالمحافظة على الإنجاز الخاص بالعقار المصرى، والاستمرار فى علاج مرضى التأمين الصحى به - حسب قولهم - وأضافوا أن المنتج المصرى يحقق نتائج تؤكد أن كفاءته لا تقل عن الـ«إنترفيرون» الأجنبى، مشيرين فى المذكرة إلى أنه بالمتابعة خلال 19 شهراً لاحظوا استجابة ممتازة للعلاج بهذا الدواء، والتزاماً من المرضى بالاستمرار فى العلاج نتيجة قناعتهم بفائدة العلاج وقلة الآثار الجانبية.
يذكر هنا أن وزير الصحة أصدر قرارا منذ عدة أيام بتعيين دكتور جمال شيحة ودكتور يحيى الشاذلى ودكتور كمال شاكر أعضاء فى اللجنة القومية لعلاج الكبد.
لا يتبقى لنا إلا أن نقول إنه فى ظل تلك الحالة المستمرة من الجدل حول دواء الـ«رايفيرون» بين فريق يرفضه مؤكداً عدم جدواه والتسرع فى تسجيله، وفريق يدعمه ويؤكد أن رفضه نابع من شركات مافيا الدواء العالمية التى لا تريد لمصر إنتاجه، فليس أمامنا سوى وزارة الصحة التى ينبغى عليها تشكيل لجنة مستقلة ليس بها أحد من كلا الفريقين لمعرفة ودراسة حقيقة ذلك الدواء، وعلى أساس النتائج يكون القرار.. فهل تستجيب وزارة الصحة لحسم الخلاف؟!