x

«عبده ريشة» يعيش فى دار مسنين منذ 20 عاما ويقوم بزيارة أبنائه كل أسبوع

الأحد 14-02-2010 00:00 |

بابتسامة لم تفارق وجهه المجعد، ونظرة عابثة لكل من حوله أخذ يتحدث عن ذلك اليوم الذى قرر فيه أن يلتحق بدار لرعاية المسنين، لم ينس «عبده على» تفاصيل تلك الليلة المفجعة التى فارقت فيها زوجته الحياة، ليبدأ بعدها مسيرة البحث عن مكان بديل يجد فيه صحبة تنقذه من مرارة الوحدة.. ثمانون عاما كاملة من التفاصيل والحكايات التى لا تنسى قضى منها عشرين عاما بين جدران دار الأمان للمسنين.

يشتهر بين زملائه فى الدار بـ«عبده ريشة» ولشهرته هذه قصة يحكيها بفخر حتى إنه لم يعد يردد اسمه الحقيقى لأحد وأخذ يعرف نفسه لكل زوار المكان بـ«ريشة» وتعود التسمية، حسبما قال، إلى مهنته القديمة التى كان يعمل فيها منذ أكثر من عشرين عاما، حيث كان أشهر «فرارجى» بسوق الخضار فى العتبة.

يتذكر جيدا ما كان يقوم به فى سنواته الماضية من أعمال شاقة فى مهنته التى لم يعرف غيرها قط، ويرى أنها علامه الوحيد فى تلك الدنيا فعلى حد قوله « دى مهنة جدود جدودى.. ومتعلمتش غيرها»، فيفتخر بأنه كان يبيع لأشهر محلات منطقة وسط البلد ولبعض الفنادق.. لكن حلم التعليم الذى كان يرغبه منذ الصغر دفعه لكى يعلم أبناءه الخمسة «ولدان وثلاث بنات» فى المداس فحصلوا جميعهم على شهادات متوسطة إلا واحدا استكمل دراسته أثناء تأديته للخدمة العسكرية فأصبح بعدها ضابطا لإحدى الجهات السيادية، وهو ما يدفعه للتفاخر بين زملائه «ابنى ضابط.. وله هيبة كبيرة قوى فى الحكومة».

يعاود «ريشة» الحديث عن ذكرياته وعن الأسباب التى دفعته لدخول دار لرعاية المسنين فمنذ أن بلغ الستين من العمر أصبحت قواه غير قادرة على مواصلة العمل فى محل الفراخ قرر البقاء فى المنزل، إلا أن ما مر به بعدها كان قاصما للظهر، على حد وصفه، فقدانه لزوجته وبقاؤه فى المنزل دون رعاية من أحد كان أمرا قاسيا بالنسبة له، ولأن أولاده رفضوا البقاء معه والقيام برعايته، فاضطر للبحث عن البديل الذى كان من وجهة نظره هو التنازل عن «شقته» الكائنة فى شارع روض الفرج وبيع كل ما فيها من أدوات كهربائية والاحتفاظ بالمبلغ الذى حصل عليه لتكون دافعا له فى حياته البديلة التى اختارها، فكما قال: «500 جنيه بس.. كانو ثمن التنازل عن شقتى التى كنت أعيش فيها.. وده من 20 سنة.. كان ليهم قيمة برضه، وقتها ولاد الحلال دلونى عن دور المسنين».

يصف دهشته حين وجد المكان البديل قائلا: «مصدقتش نفسى إن فى مكان بيقبل يسكن ناس مسنين عنده ويرعاهم.. مكنتش أعرف إن فى حاجة كده».

يتذكر جيدا الحوار الذى دار بينه وبين المسؤولين بالدار للموافقة على دخوله فيقول: «وقتها سألونى عندك معاش: قلت لا.. مفيش دخل ليك من أى مكان: قلت لا.. فطلبوا منى بطاقتى وفيش وتشبيه حتى يقبلوا اقامتى بالدار مجانا، ومنذ ذلك التاريخ وأنا موجود بالدار».

بقاؤه فى الدار طوال تلك المدة لم يمنعه من الذهاب إلى أولاده والسؤال عنهم كل فترة والاطمئنان على أحفاده الصغار فكما يقول: «أولادى بيوحشونى قوى.. وبروح أشوفهم كل فترة على قد ما أقدر»، ورغم ذهابه المنتظم لأولاده إلا أنه يجد مرارة فى البقاء معهم فعلى حد قوله: «مبطقش أقعد عند حد فيهم يومين ورا بعض»، ويذكر «ريشة» أن هناك من بناته من تحمل له الطعام الذى يفضله كل أسبوع وتواظب على زيارته بشكل مستمر لكنه وكما يقول: «أولادى بيتكسفوا يزورونى فى الدار.. أى حد منهم بييجى بنزل أقابله برة».

يظل «ريشة» طوال يومه جالسا على سريره يستمع إلى الراديو وهى الوسيلة التى يفضلها ويجد معها متعة التسلية، بالإضافة إلى أنه يعرف منها كافة الاحداث التى تجرى، ويعرف معها الطقس ومدى حرارته او برودته، فإذا كان باردا التزم البقاء فى الدار ولا يستطيع الخروج إلى المقهى الذى يبعد عن الدار مسافة قصيرة تصل إلى بضعة مترات، ولأنه اعتاد الجلوس عليه بين الحين والآخر، منذ 20 عاما ماضية، إستطاع أن يكون مجموعة من الأصدقاء من خارج الدار هم المتنفس الوحيد من وجهة نظره، فكما يقول: «لى أصحاب أعرفهم منذ زمن.. وبنزل أقابلهم كل يوم فى القهوة ونشرب شيشة مع بعض وبرجع الدار على ميعاد النوم».

الأيام مهما كانت مرارتها وقسوتها يراها «ريشة» بنظرة مختلفة فأى مشكلة تواجهه ستكون أهون من مشكلات غيره، ومنطقه فى ذلك: «اللى يشوف بلاوى الناس.. تهون عليه بلوته»، ولو كانت المشكلة عسيرة، على حد وصفه، يقابلها بروح مرحة ولغة خاصة به تكمن فى: «أى حاجة صعبة بتقابلنى بحطها فى قلبى وبسكت».

الرحلات التى تقوم بها الدار لهؤلاء المسنين كانت سببا فى انفراجة يصفها «ريشة» بحب قائلا: «الواحد بيستنى الرحلات دى بفارغ الصبر.. بنغير جو.. ونروح أماكن جميلة ونركب مركب فى النيل.. جو جميل الواحد بيحبه»، ولا يعنى حبه للرحلات بأن أى رحلة تقوم بها الدار يسارع بالمشاركة فيها، فكما يقول: «هو أى مكان كده وخلاص.. الواحد لازم يروح مكان يكون بيحبه ويحس أنه هيبقى مبسوط فيه».

وكل الأحداث التى دارت لـ«ريشة» فى الدار كوم وحدث ذهابه لأداء العمرة كوم آخر، فيذكر أن ذلك حدث منذ أكثر من عشرة سنوات ماضية، حيث جاء الأمر بالمصادفة من خلال تبرع قام به برنامج شهير للإعلامى طارق علام للدار بعمرة مجانية لثلاثة أشخاص مقيمين بالدار ولحسن حظه كان أحد الفائزين بالترشيح فكما يقول: «كثيرون حذرونى من الذهاب فى العمرة بحجة أننى من الممكن أن أذهب ولا أعود مرة أخرى ولكنى تمسكت بالأمر، وقلت الرب واحد والموتة واحدة وقدمت ورقى وسافرت».

«ريشة» عاصر عهد رؤساء مصر الأربعة منذ أن تم إعلانها جمهورية، لكنه يرى الحياة فى ظل هؤلاء بمنظور آخر فكما يقول: «كل وقت وبيبقى فيه شدته.. لكن عهد السادات الله يرحمه هو الأفضل»، ويبرر ذلك بقوله: «كان انفتاح وكل الناس كان معاها فلوس إنما دلوقتى مفيش فلوس.. وكل يوم أزمة شكل، آخرها أزمة الأنابيب، الأيام بقت صعبة قوى عن زمان والحياة اختلفت فى كل حاجة»، وأهم اختلاف حسب رأيه «الأيام دى الضحك فيها بفلوس».

وضمن كل الأحداث التى حدثت لم يلفت انتباه «ريشة» حدث مثلما لفتت انتباهه جائحة أنفلونزا الطيور التى أصابت مصر مؤخرا فيصفها بالكارثة ويفسر ذلك قائلا: «الطيور.. عمرنا ما سمعنا عن أن الطيور تجيب أمراض لحد.. والمرض ده سبب أذى لناس كتيرة كانت شغالة فى المهنة»، ويتابع: «سمعت إن محلات كتيرة إتقفلت بسبب المرض ده، ربنا يصبر أصحابهم لان ده مقتل فى الرزق».

رسالته فى الحياة قضاها على أكمل وجه، هكذا يرى نفسه، فتزويجه لبناته الثلاث ولولديه كان أهم شىء فعله فى حياته، فكما ذكر: «اخترت لبناتى أزواج صالحين.. منهم ضابط ومهندس كهربائى، وصاحب محل كباب، وجميعهم يعيشون حياة مستقرة وهادئة ومستورون» وهذا أسمى ما قدمه فى حياته، على حد وصفه، ويضيف: «أنا بصمجى لا أعرف أقرا ولا أكتب..

 لكن علمت ولادى وكبرتهم وجوزتهم وعايشين أحلى عيشة»، يتذكر جيدا طلب أبنائه المتكرر بعودته لكى يعيش مع احدهم فى منزله لكنه دائما يرفض فالراحة النفسية التى يرغبها لا يجدها إلا فى تلك الدار التى اعتادها، وأصبحت جزءا من تكوينه، فالشروط التى يلتزم بها المقيمون بالدار، من مواعيد للحضور وتصريحات المبيت الخارجية حالة أن يذهب أحدهم للمبيت مع أسرته، أمر لا يشعره بالتذمر فهى من وجهة نظره وسائل للأمان لن تضر أحدا فى شىء.

اعتاد «ريشة» الذهاب لأبنائه كل أسبوع او كل أسبوعين حسبما تقتضى حالته الصحية خاصة أنه مصاب بمرض السكر وخشونة فى العظام، ولديه إعاقة فى عينه اليسرى فلم يعد يرى بها، بالإضافة إلى حساسية الصدر التى تشتد عليها كلما ضاعف من شرب للشيشة، لكن كل ذلك لا يمثل له عبئا ويتحدث عنه برضا تام يجسده فى قوله: «الحمد لله.. أنا قادر أمشى على رجلى غيرى مبيعرفش يتحرك من مكانه».. حين يشعر بآلام الأمراض المزمنة التى تلازمه يظل حبيس الفراش، وقتها فقط يتمنى لو أن أبناءه معه حينها لن يشعر بألم على حد قوله، لكن عزاءه الوحيد فى ذلك هم بعض المشرفين والقائمين على الدار الذين يقومون برعايته والوقوف بجواره الى أن يتعافى من المرض ويعود إلى طبيعته.

ومن بين متطلبات الحياة يرى ريشة أن أمرا واحدا فقط هو الذى يؤرقه ويشعره بالخجل من نفسه، وهى اللحظة التى يمد يده فيها لأحد أبنائه لكى يأخذ مبلغا من المال ليلبى له احتياجاته الخاصة، خاصة انه لا يملك دخلا ثابتا من أى جهة أو معاشا يعينه على تلك الحياة فيقول: «معرفش ازاى الواحد ياخد معاش.. ولا إيه الأوراق المطلوبة منى بس خلاص.. الواحد اتعود على الوضع ده»، ولأن احتياجه للمال لا ينقطع فليست كل الحياة طعاما ونوما فقط، فيقول: «أيام كتيرة تمر عليا وأنا مش معايا فلوس.. بسكت ومبطلبش حاجة من حد إلا ولادى ممكن أقول لحد فيهم إنى عايز فلوس، وأقولها مرة واحدة بس، لو نسيوا مبزعلش كل واحد ليه التزاماته، والحياة بقت صعبة قوى».

ويلخص الحزن من وجهة نظره فى شىء واحد وهو فقدان المرء لإنسان عزيز عليه، لكن أى شىء مهما بلغت قسوته فإنه يهون، وهو الشىء الذى دفعه لكى لا يرتبط بزوجة أخرى بعد وفاة زوجته فكما يقول: «زوجتى كانت امرأة فاضلة وتحب الخير لكل الناس وكانت بسيطة وكنت أحبها ولم أفكر يوما أن أتزوج امراة غيرها».

ينتهى اليوم فى دار المسنين بلحظات من السكون والصمت لا يقطعه إلا سعال «ريشة» المتواصل الذى يصيبه فى بعض الأوقات بنوبات ضيق فى التنفس لا تزول إلا مع استخدامه لـ«بخاخة» التنفس التى تلازمه طوال الوقت، ورغم كل ما يمر به «ريشة» إلا أنه يشعر بالرضا تجاه كل شىء يعيشه.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية