x

مي عزام هو ده المنطق! مي عزام الأربعاء 27-12-2017 21:45


«1»

حين جلست لأكتب المقال، شرد ذهنى للحظات مع مشهد من مسرحية مدرسة المشاغبين للكاتب الراحل على سالم، المشهد يجمع بين مدرّسة الفلسفة عفت عبدالكريم (سهير البابلى) وأحد تلاميذها، وهو مرسى الزناتى (سعيد صالح)، وكانت تسأله: تعرف إيه عن المنطق؟ فتح فمه مندهشا من السؤال الذى لا يعرف له إجابة، ثم حاول أن يتملص منها بشتى الطرق، لكن المدرسة أصرت، فأجابها فى النهاية قائلا: «يعنى لما الواحد يضرب واحد على دماغه يقع وميحطش منطق». التلميذ «الخايب» كان له تأثير على المصريين أقوى من منطق أبلة عفت، ومنذ ذلك الحين لم يعد أحد يسأل عن المنطق، إجابة مرسى الزناتى ما زالت حاضرة.

«2»

فى صحف ومجلات كنا نقرأ عبارة: «الآراء المنشورة لا تعبرعن رأى الصحيفة (المجلة)، ولا تتحمل أى مسؤولية حيالها»، هذه العبارة كانت كفيلة برفع الحرج عن الصحيفة أو المجلة. الكاتب يعبر عن رأيه الشخصى، ولا يصبغ الجريدة بصبغته، ومسموح له بحرية التعبير ما لم يخرج عن حدود الآداب العامة، ولم يتهم شخصا دون بينة، ولم يستخدم ألفاظا تدخل تحت بند السب والقذف.

هذه الجملة أكل عليها الدهر وشرب كما يقولون، فهناك صحف تخشى أن تعاقب بالنيابة عن كتابها، وكان الحل زرع جهاز إنذار فى عقل الكتاب، تم برمجته على الخطوط الحمراء التى يجب عدم الاقتراب منها، ويعرف الكاتب أنه اخترق السلك الشائك، حين تنطلق صافرة الإنذار.

السطحية والإسفاف ليسا من بين المحظورات، يمكن أن تنشر مقالًا بعنوان: موت شادية يتسبب فى رفع سعر الدولار، ولا يتهمك أحد بالتدليس على القارئ، لكن جهاز الإنذار ينبهك لو كان عنوان المقال: حالات الاختفاء القسرى فى مصر من المسؤول عنها؟ هنا عليك أن تبحث عن المنطق على طريقة مرسى الزناتى.

«3»

فيلم «بليد رونر 2049»، إنتاج العام الحالى، من أفلام الخيال العلمى، معظم أفلام هذه النوعية يتنبأ بمستقبل يتحكم فيه الذكاء الاصطناعى على البشر، وهو ما حذر منه مرارا عالم الفيزياء البريطانى ستيفن هوكينج، استوقفنى فى الفيلم حديث حول الذاكرة، فى زمن الفيلم كان يتم زرع ذاكرة فى عقل البشر المصنوع والمعدل وراثيا، هؤلاء يطلق عليهم آليين، بطل الفيلم الضابط «كاى» واحد من هؤلاء ولديه ذكرى تراوده لا يعرف هل هى حقيقية أم مزروعة، وذهب لفتاة تصنع الذكريات ليتأكد، ويدور بينهما حوارٌ، هذا جزء منه:

«يقولون إنّكِ أفضل صانعة ذكريات. لماذا أنتِ بارعة؟ وما الذى يجعل ذكرياتكِ أصيلة للغاية؟

- تم وضعى فى هذه الغرفة منذ أن كنت فى عمر الثامنة، لذا إن كنت أريد رؤية العالم، فعلىّ تخيّله، وأصبحت جيدة جدًا فى التخيّل. والاس (صانع النسخة الجديدة من البشر الآليين) بحاجة لموهبتى للحفاظ على استقرار منتجه، لا أستطيع التحكّم فى مستقبلك، ولكن يمكننى أن أعطيك ذكريات جيدة، لتفكّر فيها، وتبتسم، وتشعر كأنّها أصيلة.

* كيف يمكنكِ معرفة الفرق بين الذكريات الحقيقية والتخيلية؟ أيمكنكِ معرفة إن كان شيئًا قد حدث حقًا؟

- جميعهم يعتقدون أن الأمر متعلّق بالتفاصيل الكثيرة للذكرى، ولكن الذكرى لا تعمل هكذا نحن نتذكّر بمشاعرنا».

الذكريات الإنسانية محملة بالمشاعر، حين نتذكرها نستعيد اللحظة، إن كانت جميلة نشعر بنفس السعادة التى شعرنا بها من قبل، وإن كانت حزينة نحس بنفس الألم، لذا أجد من الظلم البيّن أن يطالب البعض (فى المنطقة العربية والعالم) الفلسطينيين بأن يكونوا برجماتيين، ويتقبلوا أنّ وطنهم لم يعد سوى ماضٍ، ويتنازلوا عن ذكرياتهم عن وطنهم وأشجار الزيتون التى تم اقتلاعها لتوطين آخرين. قرار أمريكا الأخير بشأن القدس يحاول محو ذاكرة الفلسطينى التى هى جزء أصيل من هويته وإنسانيته، ليعيش كالآليين دون روح، لا يعرفون سوى السمع والطاعة كالروبوت.

هذا هو المنطق الأمريكى الذى طبقوه من قبل مع الهنود الحمر.

«4»

أدهشنى تصريح الدكتور خالد عبدالغفار، وزير التعليم العالى والبحث العلمى، أثناء مداخلة تليفونية له فى أحد البرامج التليفزيونية مؤخرا، والذى قال فيه إن مصر تأخرت 50 عاما فى دخول مجال الفضاء، رغم أن لديها خبرات متراكمة على مدى عقود فى علوم الفضاء، وإنها فى خلال سنوات قليلة يمكن أن تنافس فى هذا المجال وبقوة.

وقال الوزير إن الرئيس أصدر تعليماته بإنشاء مدينة لعلوم الفضاء. أمنيات السيسى وحماس الوزير مشروعة، ولكن هل من المنطق أن نتحدث عن مجال الفضاء، والوزير يعرف ترتيب الجامعات المصرية فى التصنيف الدولى لأفضل جامعات على مستوى العالم، ويعرف أن ميزانية البحث العلمى لا تكفى لسوى ظهور أمثال عبدالعاطى واختراع جهاز الكفتة، وأن التعليم الإلزامى الحكومى يخرج منه تلاميذ لا يعرفون القراءة والكتابة، وأن قيمة التعليم فى المجتمع بصفة عامة متراجعة أمام تحدى الفهلوة والمحسوبية والفساد.

هو ده المنطق.. يا متعلمين يا بتوع المدارس.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية