كصورة نمطية اعتاد المصريون ذلك المشهد الذى يتعانق فيه الهلال مع الصليب للدلالة على قوة العلاقة بين عنصرى الأمة المسلمين والأقباط.. المشهد بدأ يداعب خيال المصريين منذ ثورة 1919 على يد الزعيم الراحل سعد زغلول، الذى رسخ لشعار يحيا الهلال مع الصليب، وأخذ يتكرر فى كثير من أفلام السينما، وأصبح شعاراً لكثير من الإفطارات الرمضانية تقام تحت اللافتة نفسها «الوحدة الوطنية».
ومع حلول رمضان من كل عام تبدأ الجمعيات الكنسية فى التحضير لإفطاراتها، ويظل إفطار البابا شنودة، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، هو الأهم ضمن إفطارات الوحدة الوطنية، حيث يحرص كبار رجال الدولة والأزهر ودار الإفتاء على حضوره، مرة للتأكيد على نبذ التعصب، ومرة للتأكيد على قوة شعار الوحدة، وثالثة للتأكيد أيضا على أن ما يحدث فى العلن من أزمات طائفية ما هو إلا مجرد زوبعة فى فنجان العلاقة الأثيرة بين الجانبين.
ولنشأة فكرة إفطارات الوحدة الوطنية أكثر من رواية، يقص كمال زاخر موسى، منسق التيار العلمانى إحداها قائلاً: «البداية كانت مهمة لأنها اتولدت فى جو كانت مصر كلها فى حالة استنفار طائفى بعد أحداث 5 سبتمبر 1981 فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات، الذى كان من بين قراراته عزل البابا شنودة والتحفظ عليه فى الدير، وقتها تشكلت لجنة خماسية من أساقفة الكنيسة من ضمنها مطران بنى سويف، الذى عرف بحسه الوطنى والاجتماعى، وهى المحافظة الوحيدة التى لم تتعرض لمشاكل طائفية إلى الآن لأنها قامت على التسامح الذى بثه فيهم، وقتها وجد البلد فى حالة غليان،
ودعا لاول مرة فى رمضان إلى ما عرف بإفطار الوحدة الوطنية، وجمع فيه القيادات المسيحية والإسلامية، وبالفعل كان له رد فعل غير عادى لأنه قدم صورة مختلفة فى ذروة لحظات الاستنفار، وأتى بنتائج إيجابية فتكرر وانتشرت الفكرة، وحرص عليه الجميع بداية من البابا شنودة بعد عودته فى يناير 1985 حيث أقام إفطاراً فى أول رمضان من هذا العام على فى الكاتدرائية».
فى الوقت الذى حققت فيه فكرة الإفطار نجاحاً ملموساً وقت أزمة طائفية شهدتها الثمانينيات، فان الاحتقان الآن أصبح أكثر وجوداً رغم انتشار أفكار الترابط، والتى منها دعوة أكثر من جهة إلى إفطار الوحدة الوطنية، وهو ما فسره زاخر بأن: البدايات كانت مهمة على المستوى الدينى والسياسى والاجتماعى، ولكن المشكلة حالياً أن الأمور فقدت مضمونها، وتحولت إلى احتفالية من أجل «الشو الإعلامى» أو التقليد،
بل إن بعض الناس استخدموها لتحقيق بعض المكاسب السياسية على مستوى رجال الأعمال وغيرهم، لذلك لابد من إعادة النظر تطوير تلك الفكرة التى تحولت عن مسارها لتعود إلى هدفها من جديد، كما أن الفكرة بحاجة إلى تطوير لأن الحل الأمنى لمشاكل الفتنة الطائفية غير كاف خاصة أن أغلب الأعمال تكون فى الأصل إجرامية وليست طائفية، ولكنها تتحول لهذا المسمى على خلفية رفض التعددية الدينية فى مصر.
وأضاف: «عندما يرى البعض أن ما يحدث مجرد تمثيلية تتكرر كل عام أمام الكاميرات فهم معذورون لأن الجميع يتمنى أن تخرج حلول من هذه الجلسات، ولكن الأمر الواقع أن تلك الصورة تحولت إلى حكايات أسطورية لصورة لم تعد موجودة، صحيح أن المسلم يجلس إلى جوار المسيحى ويطلقان ضحكاتهما متذكرين بعض المواقف المشتركة بينهما ولكن الواقع أن الأجيال القادمة لن تتعامل مع بعضها بهذا المنطق من الأساس، فهم منغلقون فى سنوات تعليمهم على أصدقائهم من الديانة نفسها وكذلك فى وظائفهم، حتى عندما يتعاملون مع بعضهم فإن منطقهم فى التعامل يكون الحذر والريبة،
وباتت تلك العادات من طبائع المصريين، خاصةالاحتقان من فكرة اعتناق أحد المسيحيين الإسلام أو تنصير مسلمين، ولكن عندما يتذكر البعض أيام الستينيات والسبعينيات يعرف جيداً أن الدين فى مصر لم يكن أبداً بهذا العنف والحساسية المفرطة فى التعامل، وبالطبع ليس مجرد جمع قيادات الديانتين على مائدة إفطار واحدة هو حل المشكلة، وأكبر دليل على ذلك أن السينما القديمة كانت تعرض لقطات فيها القس والشيخ وآخرون يضحكون معهم أو يستغلونهم وغيره، ولكن الآن إذا ظهر احدهم بمظهر كوميدى يرونه غير لائق وتتحول ساحة الحوار إلى الفتنة، ورغم تعدد أشكال التدين فإن أشكال الفساد أصبحت أكثر، خاصة فى ظل وجود فكرة النفاق الاجتماعى بين الطرفين».
لم ينكر أحد أن الحرص على إقامة موائد الإفطار التى تجمع قطبى مصر له أهميته فى كل الأحوال ولا غنى عنه ولكنه أيضا أصبح يشوبه العوار كما أكد الدكتور عمار على حسن، أستاذ الاجتماع السياسى، خاصة مع ارتفاع نسب التكلف والادعاء وقال: «الموضوع أخذ بُعداً أكبر مما يجب، فبعد أحداث الفتنة الطائفية فى السبعينيات، ظهرت فى مصر موجة جديدة من الاحتقان الطائفى، ونشأت فكرة إفطار الوحدة الوطنية ولكنه الآن له مأخذ سياسى مختلف،
فبالطبع كما ننظر له جميعاً على أنه إحدى ركائز التعبير القوى على أن المسلمين والمسيحيين لديهم علاقات طيبة ببعض، إلا أنه أصبح يتسم أحيانا بالادعاء والتكلف ونوعاً من الدعاية السياسية وكبت الذرائع والتغطية على بعض الاعتقالات الموجودة بالفعل، وهذا يحدث عندما تزداد فكرة الاحتقان وتقل مبادئ المواطنة وينظر كل منهم إلى الآخر، وتختفى القيمة الحقيقية التى نشأت عليها علاقتهم ببعض، وليس معنى ذلك أن نقوم بإلغائها فهى عمل جيد لا ننكر ذلك ولكن تواصل هذا العمل ليس حلاً للمشكلة، ولا يمكنه أن ينهى الاحتقانات بدليل أن الأحداث الوطنية تستمر.
خاصة وأن هذا العام يأتى فى ظل وجود حالة من الغضب بين الطائفتين نتيجة ما حدث لـ«كاميليا» زوجة القس المختفية الآن، والتى تظاهر من أجلها المسلمون أمام المساجد، كذلك استمرار الأزمة بكنيسة مغاغة بين الأسقف والمحافظ، ولا ننسى أن تحولت فكرة الإفطار إلى ساحة سياسية العام الماضى عندما تم إلغاء الإفطار لغياب البابا شنودة، الأمر الذى تمت ترجمته وقتها بأنه تصرف سياسى ووُصف بالاحتجاج فى وقت لم تكن علاقة الدولة فيه بالكنيسة على ما يرام».
وذكر «حسن» أنه كلما ارتفعت درجة الحقيقة والتفاعل مع الواقع كلما كانت تلك المهمات قائمة بشكل ناجح، ولكن بسبب عدم وجود مشروع سياسى يوحد الجميع فى مصر، عاد الناس للبحث فى الانتماءات الدينية التى كانوا عليها من قبل، وهنا لا نقول مطلوب من احد تغيير عقائد الآخر، ولكن الاتفاق على أن هناك قواسم مشتركة وعلى كل طرف أن يتنازل قليلا لتستمر الحياة».
من جانبه، يرى الدكتور على السمان، رئيس لجنة حوار الأديان بالأزهر الشريف، أن المجتمع بحاجة إلى رموز، وحينما يرى التقاء الرموز على مائدة واحدة تبعث فى نفسه الطمأنينة، فالبابا رمز للأقباط، والأمام الأكبر رمز للمسلمين، ولكن من المؤكد أن إفطار الوحدة الوطنية لا يكفى لأنه عمل مجتمع بأثره لابد أن يتكاتف لمنع سوء الفهم والصدام، ومع كل فإن العلاقة بين المسلمين والأقباط حينما تصل أحيانا إلى الصدام يكون السبب الأساسى فيها مثلما حدث فى نجع حمادى هو الجهل، لذلك لا يمكننا التقليل من أهمية تلك الاحتفاليات ونقول إنها مجرد رسميات وأداء واجب، ولكن لابد أن نشير أيضا إلى أنها أفعال غير كافية».