كم باسم الدين تُرتكب من موبقات، والدين منها يسخر! تلك هى الحكمة التى سنخرج بها من هذه المسرحية الجميلة التى تُعرض الآن بقاعة «يوسف إدريس» على مسرح السلام بالقاهرة، من تأليف محمد محروس، وإخراج كريم مغاورى. تطرح المسرحيةُ تلك الإشكاليةَ الخطيرة التى مازالت منتعشةً فى المجتمعات العربية، فتعطّل تقدّمها، بينما نجحت الدول الغربية فى وأدها فصنعت حضارتها ونهضتها الصناعية والفكرية الكبرى، لتتسيد العالم.
تغييب الناس باسم الدين، والمتاجرة به لاستلاب عقولهم وولائهم التام بنسج الأوهام والأحابيل الساذجة، التى ينجرف البسطاءُ وراءها دون إعمال عقل أو تبصّر، ولعلّ أهم ما يميز هذا العرض المسرحىّ هو إتقان الممثلين أدوارهم على نحو أدهش الحضور وحصد إعجابهم.
تدور الأحداث أمام مقام «مولانا النفادى»، وهو رجل أصابته حالة إغماء فظّنه الناسُ قد فارق الحياة، وحين شرعوا فى تجهيزه للدفن، هبّ قائمًا من إغماءته فأشاع الناسُ أنه بُعِث من ميتته، فتحوّل من يومها إلى وليّ من أولياء الله الصالحين. وتتوالى الأزمنةُ وتظلُّ تُرتكَب فى صومعته كلُّ ألوان المفاسد والمتاجرة بعقول الناس، باسم الدين وأولياء الله. الحدوتة تدور حول جريمة قتل غامضة راح ضحيتها أحد مريدى المقام. القاتل مجهول، والقتيل قُتل بالخطأ، بينما كان يراد شخصٌ آخر.
والحبكة الدرامية جعلت لكل أبطال العرض دوافعَ تجعل من الجميع متهمين بالجريمة. لعب المخرج لعبته الدرامية عن طريق تهشيم الزمن، فجعل المحقق/ أحمد عثمان، الذى يفنّد خيوط الجريمة ويقوم باستجواب المتهمين، جعله يتداخل فى متن الأحداث على نحو أثيري؛ كأنما هو ضمير كل منهم اليقظ. يستنطق كل متهم فينطق بما يحاول إخفاءه عن الناس. هذه اللعبة حررت العرضَ من التراتب الزمنى التقليدى المضجر، وكسّرت خيط الزمن الأحادى. حفيد الشيخ النفادى، الشيخ على/ محمد مبروك، رجل أعمال أثرى باستغلال اسم جده الزائف وتجارة المخدرات.
يقوم باستغلال سكان حارة النفادى البسطاء مستغلا فقرهم وجهلهم من جانب، ومن الجانب الآخر مرتكنًا على اسم جده ذائع الصيت الذى يعتبره سكان الحى رمزًا من رموز الدين وأحد ظلال الله على الأرض! زوجة الشيخ على، نورهان/ سامية فوزى، حقوقيةٌ مثقفة وعضو بارز فى لجان حقوق الإنسان، عاقر تعانى من خيانات زوجها ومن جدبها كامرأة، فتحاول أن تحاصر نزواته. البائعة الجائلة الفقيرة أم أشرف/ سمر عبدالوهاب، تبسط فرشتها أمام مقام النفادى وتبيع للسابلة سندوتشات الفول والباذنجان. فقدت ابنها الوحيد فى حرب الخليج، وتربى ابنتيها: صفاء الطفلة الجميلة التى تبيع المناديل فى إشارات المرور ويبهرها ثراء الناس فى سياراتهم.
تحاول السيدة نورهان سرقتها لتتبناها فتنجو من العقم الذى يملأ روحها بالأسى، والابنة الأخرى أشجان/ مريم البحراوى، الصبية الحلوة التى يغازلها الشيخ على ويغرى فقرَها بالمال، لكنها تقاوم جبروته حبًّا فى خطيبها فتحى/ أحمد مجدى، الذى كان شابًّا واعدًا وذكيًّا قبل أن تستقطبه الجماعاتُ الدينية وترسله إلى أفغانستان، ومنها إلى سجن جوانتانمو فتُنتَهك آدميته وتُهدر ذكورته، ليعود إلى الحارة إنسانًا محطّمًا ذاهلاً عمن حوله يتلعثم فى الكلام ويخاف من ظله، فاقد الثقة فى الجميع، حتى فى خطيبته أشجان التى يعزف عنها، ويبيع شرائط الدروشة لرواد الحارة والمقام. ثم الطفل الجميل سيد/ فادى يسرى، الذى يعذبه أبوه ويوقظه من الفجر زجرًا ليلتقط رزقه بالتسول، فيلتقطه هنداوى/ محمد درويش، الشاب الشرس الجاهل واليد اليمنى للشيخ على، فى ترويج المخدرات مستخدمًا فى ذلك الطفلَ سيد، ثم يعتدى عليه جنسيًّا داخل المقام «الطاهر»! هذه الشبكة المعقدة من العلاقات الإنسانية المرتبكة المشوّهة جعلت من الجميع متورطًا فى جريمة القتل وترشّح كلاًّ منهم ليكون القاتل، فالجريمة قتلٌ بالخطأ راح ضحيتها رجل غير مقصود، بينما القاتل، الذى قد يكون أيًّا من أبطال العرض، كان يقصد أن يقتل غريمًا له من بين أبطال العرض. الرؤية الدرامية تخلُص فى الأخير إلى أن الجميع قتلة، والجميع ضحايا مقتولون فى ذات الوقت. وهو ما كرّسه المشهد الختامى الذى وضع سكينًا فى يد كل أبناء الحارة، المنكوبة بالفقر والجهل والتغييب المجتمعى. كلُّنا ضحايا، وكلُّنا قتلة، مادام يظللنا مجتمعٌ منغمسٌ فى الجهالة والفقر والمرض والعوز الإنسانى.