لم يكن لـ«الطابور» قبل 25 يناير سوى معنى واحد لمن يلتزم به، أنه مهمش بلا دور لا يملك واسطة، بل إن التزامه به قد يعنى أن مصلحته لن تقضى، لكن بعد 25 يناير لم تعد للكلمة سوى معنى واحد، أن من يلتزم به مصرى إيجابى يحترم مبادئ الثورة ويعمل بها. أمس مصر كلها كانت على موعد مع أطول طابور، امتد عبر مراكز الاقتراع التى فتحت أبوابها منذ الصباح لأول استفتاء مصرى حقيقى، يشرف عليه القضاء وتحميه الشرطة والجيش، وقبلهما المواطنون أنفسهم الذين تصدوا لكل المحاولات التى من شأنها زعزعة استقرار الاستفتاء، وأهم هذه المحاولات هو عدم الالتزام بـ«الطابور».
شرعية الطابور فى مصر، هى نفسها شرعيته فى غيرها من الدول المتقدمة، لكنها للأسف شرعية دون تطبيق سليم، وهو ما حدا بعدد من منظمات المجتمع المدنى إلى إنشاء جروب على «فيس بوك» تحت شعار «عايزين يبقى عندنا ثقافة طابور» بهدف تدريب المصريين على احترام الطابور والعمل به، لكن بمعناه الصحيح وليس المغلوط الذى طبق لسنوات، وقال أعضاء الجروب: «لما جروب على الفيس بوك يكون سبباً فى ثورة شعب ليه لأ جروب على الفيس بوك يغير ثقافتهم للأفضل». وأضافوا: «ثقافة الطابور موجودة ومعروفة عند كل مجتمع واع ومتقدم، قد لا يكون كل أفراد هذا المجتمع ملائكة ويؤمنون بكل هذه القيم لكنهم يعيشون فى مجتمع يفرض عليهم هذه التقاليد الإنسانية الراقية، مجتمع يعيش بالنظام وكل من يحاول الخروج عن هذه القواعد يكون تصرفه منبوذاً ومنكراً». ودعا الجروب المصريين أن يضربوا مثلاً فى احترام القواعد، والطابور، وأن يطبقوا هذا عملياً فى استفتاء التعديلات الدستورية، فكل المواطنين أمام الطابور سواسية.
ولم يمنع زحام المواطنين الشديد حول اللجان للإدلاء بأصواتهم من التزامهم بالطابور، فلاول مرة تشهد مصر طابوراً منظما دون ضحايا، وهو ما دفع كثيراً من الشباب إلى التفرغ لمساعدة المواطنين على تنظيم أنفسهم، فبعد انتهائهم من الإدلاء بأصواتهم، تراصى عدد كبير من الشباب فى كل لجنة ينظمون الحضور، بعبارات «التزموا الطابور» أو «توفير كراسى لكبار السن»، وتوجيه الشباب إلى الطابق الأعلى فى كل لجنة للتقليل من الزحام. فى إحدى لجان السيدة زينب، اخترقت سيدة مسنة حالة الصمت، ودخلت تستند إلى حفيدتها وهى تقول فين الطابور يا ولاد؟.. وعندما دلها أحد الشباب إلى مقعد لتستريح عليه قاطعته: بقالى 30 سنة قاعدة مستنية اليوم ده، لحد ما عجزت وركبنى الهم، مستكتر عليا أقف شوية النهارده.. ثم هتفت «تحيا مصر».
كلمات السيدة العجوز ألهبت حماس عدد آخر من المواطنين الذين اصطحبوا أطفالهم معهم وهم يدلون بأصواتهم، فاندفع أحدهم يدعى «مهدى» قائلا: «أول مرة أقف فى طابور وأنا فرحان، أصل اللى جرب طابور العيش عشان يشترى منه بجنيه، واللى جرب طابور جراكن المياه، واللى جرب طابور أنابيب البوتاجاز، ولا طابور صرف المعاشات، يعرف قيمة طابور الحرية اللى إحنا واقفين فيه».. مهدى رفض أن يفصح عن رأيه مبرراً: «مش مهم قلت إيه، المهم إنى خرجت أشارك وأنا مقتنع بأن صوتى هيغير، وسواء النتيجة نعم أو لا أنا فرحان وحاسس إن مصر بتتغير بينا إحنا مش بالحزب الوطنى».
لم تهتم ثريا بالاستفتاء قدر اهتمامها بالطابور، فأخذت تحكى عنه منبهرة: «أول مرة أقف فى طابور من غير ما اتشتم ولا واحدة تزقنى ولا واحد يتمحك فيا، أول مرة إحس أنى رايحة أتفسح، ياريت طوابير العيش والبوتاجاز والمعاش بتاع أمى تبقى كده، تفتكروا ده ممكن يحصل، أنا معنديش مشكلة أقف فى طابور لمدة ساعة، بس أقف باحترامى وآخد حاجتى من غير ما أترجى حد».
هنا قاطعتها أمانى، وتدخلت فى الحوار رغم أنها لا تعرف ثريا، أمانى قالت: «نقدر يا حاجة نعمل أكتر من كده، لأن مصر قبل 25 يناير غير مصر بعد 25 يناير». أمام إحدى لجان الدقى، وقف مسعد نور حاملاً عوده، إلى جوار طابور طويل، لم يتحدث مسعد طويلاً، فبعد أن فرغ من الإدلاء بصوته، أخذ يغنى لمصر، ويحمس المواطنين حتى لا يملوا من الطابور، وهو ما برره مسعد: «قررت أشارك وخلى الوقوف فى الطابور نعمة، وأعلم الناس إن اللى يصبر ينول وإن مصر صبرت وفى الآخر نالت شعبها».. ثم غنى: «بلادى بلادى».. وشاركه الطابور الغناء.