قد يبدو، للوهلة الأولى، أن عرائس الماريونت، على مسرح القاهرة للعرائس، قد استلهمت ثورة 25 يناير الملهمة، فقررت أن تثور على الإنسان الحاكم، لكن، حين نعلم أن مؤلف هذه المسرحية، الشاعر الكبير سمير عبدالباقى، قد كتبها قبل عشرين عامًا، ولم ترَ النور إلا الآن، بعد ثورة البشر، لأدركنا أنها كانت بمثابة النبوءة الثورية الشعبية المبكرة، ولصدقنا الحقيقة، التى تقول إن الفنّ دائمًا يسبقُ السياسة خطوةً، ولهذا فإن المبدعين هم صانعو التاريخ، وليس الساسة.
قررت العرائس (الماريونت والقفاز والموبيت والعصا وخيال الظل)، أن تُشعل ثورتها الخاصة، وتتمرد على الإنسان الذى يحركها من وراء الستار دون إرادة منها. أدركت العرائسُ أن جمهور الأطفال يأتى من أجل العرائس لا من أجل لاعبى العرائس البشر، فقررت التخلّص من أولئك الزائدين على الحاجة، واحتلال المسرح.
تحاول مدرّبة العرائس «حُدى بْدى اللى مفيش زيها زى»، (أدّت دورها بإتقان الفنانة: نشوى إسماعيل)، أن تقنع العرائس بأن يوقفوا الثورة ويستبقوها إلى جوارهم. هى التى سهرت الليالى ترسم تصميماتها على الورق، ثم تصنعها من الخشب والإسفنج والخرز والقماش، وسهرت مع خيالها تؤلف لها الحكايات الجميلة التى تُبهر الأطفال. لكن شعب العرائس يرفض بحسم، ويرفع شعارًا واحدًا لا يتغيّر: «ارحلى». «راح تستقيل/ ولا هايفضل عندنا/ إنسان دخيل/ هاتستقيل/ محدش يتحكم فينا/ حنكمل إحنا لوحدينا/ مين كان يا عرايس يتصور/ إن المسرح يصبح لينا/ لا مهندس يرسم ويهندس/ ولا لاعب أُزعة يتفلفس/ وإحنا اللى هانخرج وندرّس/ ولا مخرج راح يشخط فينا». تجرّب المدربة أن تخادع العرائس الثوار بعمل استفتاء على استقالتها. فتكتب على ورقتين: «لا تستقيل». وهنا إشارة لما يحدث من تزوير لإرادة الشعوب فى الانتخابات. وحين تطلب من العرائس أن يختاروا ورقةً من الورقتين، مطمئنةً إلى فوزها، تختار العروسة «الحمار» ورقة، وتبتلعها بغتةً، قائلة: «لا بأس، سنقرأ الورقة الأخرى، فنعرف المكتوب فى الورقة التى ابتلعتها!» هنا ينجح الشعبُ الذكى فى الانتصار على مكر السلطان. وحين تعترف بأنها حاولت تزوير الاستفتاء، تقدم للمحاكمة، بعدما يربطون أطرافها بالخيوط لتذوق ما يذوقون من أسر. يذهبون بها لـ«قاضى الحواديت العجيب، أبو ذقن زى الحليب»، الذى يسكن قصره البعيد فوق السُّحب الملونة. يشفق عليها القاضى الطيب ويعطيها فرصة للنجاة، بأن يدخلها فى مسابقة مع العرائس، وللمنتصر يكون القرار. تنهزم أمامهم فى مسابقة الرقص، والأكروبات. ويترفق القاضى «بآدميتها» قليلة الإمكانات، فيعقد مسابقةً فى أول مهنة مارسها الإنسان على الأرض: الزراعة. واطمأنت لانتصارها عليهم، لأنها إنسانٌ وهم عرائس. لكن المفاجأة أنهم زرعوا آلاف الزهور، بينما لم تنجح هى فى زراعة زهرة واحدة على مدى شهرين من الكد والتعب! وهنا فقط، تنتبه إلى الحقيقة الصادمة. العرائس تمتلك الخيال الذى يصنع كل ما لا يقدر الإنسانُ أن يفعله وهو مكبّل تحت سقف المنطق والواقع والممكن وغير الممكن والعلم والحسابات. «فى دنيا الحواديت/ ممكن بالقمحاية/ عدساية بزلايّة/ نزرع أكبر غيط./ فى دنيا الحواديت/ ممكن نعمل مدنة/ عالية وسط بلادنا/ من عود الكبريت./ فى دنيا الحواديت/ ممكن نقطة بسيطة/ تبقى بُحيرة غويطة/ وتبقى بحر محيط». تقرّ «حُدى بدى» بهزيمتها، وبأحقيتهم فى الحرية. لكن إحدى العرائس الذكية تخطب فى شعبها وتخبرهم بأنه لولا الإنسان ما كانوا، فهو الذى أعمل خياله ليبتكر العرائس، ومواهبه ليؤلف الحواديت والموسيقى والأغانى، وأعمل مهاراته ليحركها، وسط الأضواء والديكور والحيل المسرحية والألوان الجذابة التى كلها من صنع الإنسان وخياله الثرى. هنا تصفحُ العرائس عن المدربة التى تعلّمت الدرس جيدًا، ليفتح الجميعُ صفحة جديدة قوامها الحب، واحترام الآخر.
«ثورة العرائس» ألحان طارق مهران، وديكور وعرائس حسين العزبى والراحلة نجلاء رأفت، وإخراج هانى البنا.