«ملك ملوك أفريقيا» .. «عميد الحكام العرب» .. «زعيم وقائد ثورة الجماهيرية الليبية الاشتراكية العظمى»، وغيرها من العبارات الرنانة لن يسمعها ملايين المواطنين العرب مباشرة من «القذافي»، الذي لقي حتفه على أيدي الثوار في مسقط رأسه بمدينة سرت الليبية، بعد 8 أشهر من اندلاع ثورة مسلحة ضده، ساندها الجميع تقريبًا باستثناء الصين وروسيا، وفينزويلا.
ولد معمر محمد عبد السلام أبو منيار قذاف الدم (القذافي) في مدينة سرت عام 1942، والتحق بالقوات البريطانية لفترة، ثم القوات المسلحة الليبية، ليقود انقلاباً عسكرياً في 1969. غير وجه ليبيا طيلة 42 عاماً حكم فيها، غريب الأطوار، الدولة ومن عليها بالحديد والنار، قبل أن يلقى القبض عليه بعد اشتباكات في أنبوب أسمنتي، (ماسورة) بمسقط رأسه.
من القومية إلى أفريقيا
ظهر «القذافي» على الساحة الدولية، مشفوعًا بتيار القومية العربية الجارف، في الستينيات والسبعينيات، ومدعوماً بشكل رئيسي بقوة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان ينظر إلى «القذافي» وانقلابه العسكري باعتباره «تأمين لظهر مصر»، خاصة بعد النكسة، وتفكيك قاعدة هوليس الأمريكية، التي كانت موجودة في ليبيا خلال عهد السنوسي.
خرج العقيد الليبي إلى دنيا السياسة حاملاً تصورات وأفكار غريبة، فرغم كون دولته صحراوية تمامًا، تعتمد على الرعي والبترول بشكل رئيسي، فقد حول علمها إلى اللون الأخضر، واتخذ من اللون نفسه شعاراً طبقه في «مغامراته»، التي حبست أنفاس المنطقة عدة مرات.
قاد «القذافي» ليبيا إلى الاشتراكية في السبعينيات، وزار موسكو مراراً مؤكداً على نموذج «الشعب المسلح الذي يواجه رعاة البقر»، كما قال في إحدى خطبه الشهيرة، موجهًا حديثه للولايات المتحدة الأمريكية، ومتوعداً واشنطن بـ«مصير أسود» كان في النهاية من نصيبه.
تبنى «القذافي» مشروعاً وحدوياً لا يعترف بالحدود الدولية، فحاول الاتحاد مع مصر وسوريا، ثم مع تونس، وحتى مع دول أفريقية، إلا أن اتحاده مع مصر فشل، ومع تونس ظل «حلماً» ولم يتحقق للعقيد، بينما فشل في أقرب الدول الأفريقية إلى ليبيا (تشاد)، التي خاض فيها حرباً ضروساً انتهت فجأة ودون نتائج كما بدأت فجأة ودون أهداف واضحة.
«مغامرات» حاكم ليبيا
في 1986 فجر مسلحون يمولهم «القذافي» ملهى ليلياً في «برلين» كان يرتاده الجنود الأمريكان، وهو التصرف الذي علق عليه الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان، وكان وقتها في البيت الأبيض، بقوله إن «القذافي كلب مسعور»، وجاء الرد الأمريكي بالطائرات تدك منزل «القذافي» في «باب العزيزية» بالعاصمة الليبية طرابلس، وقتها خرج «القذافي» من القصف ليعلن أنه «سيرد الصاع صاعين»، ومثلما قادته مغامرة التفجير للقصف، قادته مغامرة تفجير طائرة مدنية فوق مدينة لوكيربي 1988 بحصار اقتصادي وعسكري أدمى الدولة، ودفع المواطن الليبي البسيط ثمنه من قوت يومه، فيما كان العقيد وأسرته يعيشون في ثراء فاحش.
تضاربت التقارير حول عدد أبناء «القذافي» (من 8 إلى 10 أشخاص)، لكن المعروف منهم، بعضه قدم نفسه كـ«زعيم رياضي»، مثل هانيبعل، وآخرين قدموا أنفسهم كـ«ورثة» للحكم مثل «سيف الإسلام»، فيما انفردت ابنته عائشة بصورة «المناضلة النسائية» قبل أن يراها الجميع تهدد الليبيين بـ«القتل والدمار والخراب» إذا «تجرأ أي منهم» على منازعة والدها في حكمه، الذي بدا بلا نهاية.
قبل عام من انطلاق الثورة الليبية، بنحو عام، أثارت «آخر صيحات القذافي»، استياءً واسعاً، حيث زار إيطاليا وطلب عقد اجتماع له مع مئات الفتيات الإيطاليات، على ألا تزيد أعمارهن عن 25 عامًا، وطولهن لا يقل عن 170 سنتيمترًا، وهو الاجتماع الذي قال العقيد إنه بهدف «دعوتهن إلى الإسلام».
مفارقات «القذافي» تكاد لا تنتهي، فهو الرجل الذي طالب بدولة «إسراطين» بدلاً من الدولة الفلسطينية وإسرائيل، واتهم الغرب بسرقة «كوكا كولا» من الأفارقة، وهدد أوروبا بـ«جيوش المهاجرين غير الشرعيين تغرق أرضكم كالنمل والجراد».
عاش «القذافي» حياته، يطارد أشباحاً صنعها بنفسه، ويتفنن في «لفت الانتباه»، إن لم يكن بتصريح سياسي يتندر عليه الجميع فبملابس تمزج الزي الليبي بالأفريقي بالعربي، وحتى بلوحات المعارض الفوتوغرافية، حيث ظهر أكثر من مرة ببدلة نصف عسكرية، وعلى صدره صوره مع زعماء أفارقة وعرب، باعتبار ذلك «CVملك ملوك أفريقيا، وعميد الحكام العرب».
نساء «القذافي»
علاقة العقيد المقتول بالنساء كانت فريدة للغاية، فحرسه جميعًا من «الأمازونيات الجميلات»، كما وصفتهن الصحف البريطانية، بعد لقائه مع توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق، حيث كان «القذافي» يختار حارساته بـ«مزاج خاص»، حيث لهن كامل الحق في تنظيم أمور حياته، من الأمن إلى تحديد خطواته في عالم كان العقيد يراه «بحاجة لرجل مصلح وثوري مثله».
بين «نساء العقيد»، كشفت وثيقة أمريكية سربها موقع «ويكيليكس»، عن أسرار الممرضة «الأوكرانية المثيرة» جالينا كولونيستكا (38 عامًا)، التي لفتت الوثيقة إلى «علاقة رومانسية» بينها وبين العقيد الليبي المولود في مطلع الأربعينيات.
نظريات العقيد
يعد «الكتاب الأخضر»، هو أشهر ما كتبه «القذافي». فالكتاب يضم ما قال العقيد القتيل عنه إنه «النظرية الثالثة»، وهي طريق بين الرأسمالية والشيوعية، قرر فجأة في 1975 أنها «صالحة لتغيير العالم». ويتضمن كتابه 3 فصول، خصص الأول للسياسة، والثاني للاقتصاد، والثالث للمجتمع وشؤون الأسرة.
لم تكن نظرية «الكتاب الأخضر»، هي الوحيدة التي طرحها «القذافي»، فالرجل ظهر فجأة باعتباره «أديبًا ومثقفًا عالميًا»، كما أصدرت وزارة الثقافة في عصره مجموعة قصصية، قالت إنه كاتبها تحت عنوان «القرية القرية .. الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء»، لينضم إلى صديقه وحليفه الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين الذي أشاع أنه صاحب رواية «اخرج منها يا ملعون»، ليصبح فجأة «زعيمًا وأديبًا ومثقفاً»، وبالتأكيد رئيس دولة نفطية مهمة.
«القذافي» يصالح الغرب
منذ 1992، فرضت دول العالم حصارًا اقتصاديًا وعسكرياً شديداً على ليبيا تحت حكم «القذافي»، في البداية استهتر حاكم طرابلس بالحصار ووصفه بـ«محاولة مجنونة لمنع ليبيا من قيادة التقدم وحرمان الحضارة الإنسانية من إسهامات الجماهيرية»، لكنه وبعد 11 عاماً من «الخطب الرنانة»، ذهب فجأة بعيداً عن كل ما نادى به في هجومه على الغرب، وأعلن طواعية تخليه عن برنامج إنتاج أسلحة دمار شامل، وسلم مكونات البرنامج للغرب والوكالة الدولية للطاقة الذرية، فيما وقف العالم مندهشاً من «الرجل الأخضر»، الذي يتحول كل دقيقة من موقف إلى نقيضه.
بعد رفع العقوبات، عادت ليبيا لتحاول ترميم العلاقات مع الغرب، خاصة أوروبا عبر إيطاليا، والولايات المتحدة عبر تفاهمات مع روسيا والصين. وصل «القذافي» لقصر الإليزية في باريس، بخيمة ضخمة، كانت مثار استغراب الفرنسيين، ثم طار بالخيمة نفسها إلى نيويورك ليقدم فصلاً أخيراً من «مسرحية العقيد»، أمام الأمم المتحدة، التي مزق ميثاقها، وخطب في قادتها بلهجته المحلية لأكثر من ساعتين، وسط ذهول العالم.
الثورة تنتصر
لم يمهل الغرب نظام «القذافي» كثيراً، ففي 17 فبراير الماضي، وصلت رياح التغيير إلى بنغازي في شرق ليبيا، ليقود «القذافي» حملة استهدفت ضرب المدنيين بالطائرات تارة، وبالمدفعية الثقيلة والدبابات تارة أخرى، وقتها نجحت مساع (فرنسية- بريطانية)، في استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، بفرض حظر جوي على ليبيا، وتحرك حلف شمال الأطلنطي (الناتو) ليقود العمليات، التي عارضتها بشدة روسيا والصين وسوريا وفنزويلا، فيما واصل الثوار تحركاتهم العسكرية، نحو طرابلس العاصمة، التي سقطت فجأة في سبتمبر الماضي، ليفر العقيد، ويقاتل مع أولاده وما تبقى من قواته، وفي أثره قوات المجلس الوطني الانتقالي، التي تعقبته «زنجة زنجة ..دار دار»، حتى عثرت عليه مختبئاً في مسقط رأسه بمدينة سرت، في أنبوب أسمنتي (ماسورة)، ليلقى حتفه بعد أسره بقليل، فيما يواصل الثوار البحث عن نجله، سيف الإسلام، الذي كان العقيد يعده ليخلفه في حكم ليبيا، التي تحررت بعد 42 سنة من حكمه.