هنا شمال سيناء.. بوابة مصر التاريخية وحامية الأمن القومى والحدود، معبر جيوش مصر إلى التوسعات قديماً.. ومعبر جيوش الغزو فى العصور التالية.. هنا شمال سيناء.. أرض القمر والخوف والملفات الشائكة، والأساطير والاتهامات.. هنا المخاوف الكبرى التى ظهرت أثناء ثورة 25 يناير.
«المصرى اليوم» تفتح ملفات قبائل العزازمة «البدون» المحرومين من الجنسية المصرية، وتروى حكاياتهم وعلاقاتهم بإسرائيل وحكايات المطاريد فى الجبل والمطلوبين أمنياً فى عهد النظام السابق، بسبب صدور أحكام بالمؤبد ضدهم.
كما تكشف الأسرار الخفية على الحدود المصرية ـ الإسرائيلية، وملف تنمية سيناء، المهمل، ومشروع ترعة السلام بملياراته الضائعة، وحكايات أهالى سيناء عن الشرطة، ومدى إمكانية عودتها إلى الشارع مرة أخرى، وحكايات السلاح الذى لا يخلو منه بيت، واتجار البدو فى المخدرات، وتهمة التخوين التى يلقيها البعض عليهم وتلقيبهم بـ«يهود سيناء».. تساؤلات كثيرة يجيب عنها هذا الملف.
وصلت «المصرى اليوم» إلى قرية «المهدية» التى تقع على الحدود مباشرة ولا يفصلها عن فلسطين سوى 2 كيلومتر فقط، وتعتبر معقل قبيلة السواركة، إحدى أهم وأكبر قبائل شمال سيناء، واستمعت إلى عدد من أبنائها الذين قالوا إن القرية شهدت استبسالاً أثناء ثورة 25 يناير ضد رصاص ضباط جهاز مباحث أمن الدولة الذين لم يرحموا الصغير أو الكبير، لدرجة أنهم كانوا يطلقون النار على سيارات الإسعاف.
الحلقة الثالثة
قال «أبوأشرف»، أحد أبناء القرية: «لم نر كأهل سيناء ضباط أمن دولة صالحين، وكل من دخل سيناء دون استثناء كانوا بلطجية، ومارسوا كل فنون وأشكال المهانة والذل، وقد عشنا 15 سنة تحت الاحتلال الإسرائيلى، وبعد أن تحررنا منها وجدنا أنفسنا تحت احتلال آخر، وقد أجبرتنا معايشة الطرفين على المقارنة بينهما رغم أن الإسرائيليين أعداء، والمصريين إخواننا، هذه المقارنة تجعلنا نقول إن اليهود فهموا جغرافيتنا، وطبيعة عاداتنا وتقاليدنا واحترموها، وكان من المستحيل أن يدخلوا بيوتنا أو يكشفوا نساءنا، وعندما كانوا يريدون استدعاء أحدنا كانوا يرسلون لنا «عرب» مثلنا يطرقون على الأبواب بكل احترام ويقولون لأصحاب المنزل إن فلاناً يريدك، وهذا لم يكن يحدث من ضباط مباحث أمن الدولة وهم مصريون».
وأضاف أبوأشرف: «أتذكر جيداً أنه بعد وقوع تفجيرات طابا، وشرم، ونويبع، ألقوا القبض على النساء والبنات، وأقسم بالله العظيم أننى رأيت سيدة فى أمن الدولة جردوها من ملابسها وكانوا يصعقونها بالكهرباء فى أماكن حساسة حتى تدلهم على زوجها، فكيف يمكن بعد كل هذا أن ينسى الناس ويتغيروا، هذا مستحيل».
وقال ناصر أبوعكر: «نحن مع الأمن والاستقرار، لكن يجب على الداخلية أن تتغير، وتغير سياستها مع أهل سيناء، وأذكر الضابط فى إدارة مكافحة المخدرات فى سيناء، الذى توعدنا وقال بالحرف: «أنا هرجّع البدو يركبوا الجمال تانى»، ولفق 3 آلاف قضية لأبناء المنطقة، وتم عزله من الشرطة، ونحن لا نقول إننا ملائكة، لأن هناك من يزرع المخدرات، ويتاجر فيها، ومن يتاجر فى السلاح، لكن ليس كل أهل سيناء، نحن لسنا ملائكة، ولكن أيضاً لسنا كلنا شياطين».
وقال أبوطارق، من قبيلة «المنايعة» التابعة لقبيلة السواركة: «الضباط الذين يعملون هنا يعتقدون أنهم من المريخ، وأننا من القاع، ونحن نؤكد أننا أبناء سيناء ونمثل الأمن القومى لمصر، ويجب أن تتم معاملتنا على هذا الأساس، ويجب أن يعيدوا النظر إلينا، وإلى المنطقة بأكملها، وأؤكد أن كل ضباط مباحث أمن الدولة يحبون العمل فى سيناء، ليس حباً فى ترابها، لكن لأنها منطقة سهلة ويستطيعون أن يلفقوا فيها تهماً كثيرة لنا، فيحصلون على ترقيات، وأؤكد أيضاً أن الضباط كانوا يعرفون بأمر تجارة السلاح، ويحصلون على مبالغ من ورائها، ونحن كنا ندفع لهم، وأيضاً هم كانوا يطلبون، مقابل أن يسمحوا لنا بالعبور بالسلاح فوق كوبرى السلام».
وفسر ناصر أبوعكر أمر السلاح تحديداً بقوله: «نحن نعيش فى مناطق جبلية وعلى الحدود، وهناك كثيرون يعيشون فى الجبل لأنهم هاربون من أحكام تصل إلى 3 مؤبدات وكلها فى قضايا ملفقة، وبالتالى لابد أن يحملوا السلاح، وكنا نحضر هذا السلاح بمعرفتنا وبطريقتنا، لكن الضباط هم الذين يساعدوننا على العبور به».
وأضاف أبوعكر رداً على سؤال حول زراعة المخدرات: «شعب سيناء بطبيعته محب للزارعة التى تعتبر أحد الفنون التى يجيدها، لكن زراعة المحصول المعروفة كانت تستدعى دفع رشاوى للحصول على تصاريح وزارة الزراعة، والمياه الجوفية، ولأنه لا يوجد شىء يمكن للناس أن تعمل فيه، خاصة أنه لا توجد تنمية، فإنه لا يوجد طريق أمام الناس سوى السلاح والمخدرات، وأؤكد أن الضباط مثلما كانوا يعرفون بأمر تجارة السلاح ويستفيدون منه، كانوا أيضاً يتفقون مع الناس على زراعة البانجو، وكانوا يقتسمون المحصول مع أصحابها وكما نعرف إذا تم ضبط 2 كيلوجرام بودرة مثلاً، من هو الضابط الذى تولى القضية، ونعرف نصيبه منها».
وقال أبوأشرف: «حتى المسلسلات صورونا فيها على أننا تجار مخدرات، وكانت أحداث طابا الحد الفاصل بيننا وبين أمن الدولة، فبعدها تحول الإنسان السيناوى إلى مارد، وتوالت الاحتجاجات، وتبادل إطلاق النار، وتحول الأمر إلى أن هناك ثأر بيننا وبينهم، لذلك كانت ثورة 25 يناير فى سيناء أكثر عنفًا من كل أنحاء الجمهورية، ولذلك نطالب بإعادة فتح التحقيقات فى أحداث طابا، ودهب، وشرم الشيخ».
وقال ناصر أبوعكر: «سيناء ليست ميدانًا لإطلاق النار فقط، وأقسم أن المواطن السيناوى إذا وضع فى مكانه فإنه يعادل كتيبة كاملة، والناس هنا فاهمين ومقاتلين بجد، كفانا جنرالات، وكفانا إحساس بأننا مواطنون من الدرجة الثانية، وكفانا 30 سنة من الأخطاء، والآن نحن مستريحون جداً من وجه أمن الدولة العكر، ومنذ رحيلهم ونحن فى هدوء وراحة بال، ولا يوجد خلاف بين أى قبيلة، أما عن الحدود فنحن نتولى أمرها، وأقول بكل فخر وصوت عال إنها محمية منذ يوم 28 يناير، وهو يوم انسحاب الشرطة، كل أبناء القبائل التى تعيش على الحدود كانت تقف مثل الصقور وسط الجبال، وأمام الممرات الحدودية، وكانوا فى قمة الاستعداد عندما يشاهدون أى سيارة تتحرك خطوتين فى الجانب الإسرائيلى، وكانوا يبلغون الجيش، والمخابرات، وكل ما نريده الآن هو أن نشعر بآدميتنا، ولا يزايد أحد على وطنيتنا».
وقال أبوأشرف: «نحن موافقون على عودة الأمن إلى سيناء، لكن بشرط أن يعودوا وهم يحترمون القانون ويطبقونه بالعدل، لكن أقسم بالله العظيم، وحياة مصر، وسيناء اللى هى أغلى من أولادى، إذا ما غيرت الداخلية سياستها، وتخلى رجالها عن عنجهيتم، واستبدادهم، وطريقة تعاملهم معنا، فسوف نضرب بيد من حديد، لو ما احترموش كل أهالى سيناء من صغيرهم إلى كبيرهم هنشتغل معاهم، أو بلغتهم هنتعامل معاهم وما حدش فينا هيتخدش خدش واحد، نحن نريد دولة مدنية تحكمنا بالقانون، واحترام عاداتنا وتقاليدنا جيدًا، وليت وزير الداخلية الجديد يوضح لنا مفهوم الإرهاب، وقبل أن يتحدثوا عن الإرهاب وقوانينه عليهم أن يفرجوا عن أبناء سيناء فى سجنى العقرب، وبرج العرب، لأنهم معتقلون ظلماً وعدوانًا دون أحكام، والتهم الموجهة لهم كلها ملفقة على خلفية أحداث طابا وشرم الشيخ.
وتساءل أبوأشرف حول عدم تنمية سيناء خاصة الوسط حتى الأن بقوله: «لمصلحة من لم يتم إلى الآن تعمير منطقة الوسط التى تتداخل مع الحدود الإسرائيلية، لمصلحة من تظل هذه المساحات الشاسعة من الأراضى الخصبة الصالحة للزراعة جرداء، وأين المشروعات التى شقت من أجلها ترعة السلام، ومبررهم فى تركها خالية تحسباً لوقوع حرب فى المستقبل، عجيب ومضحك، لأن مفهوم الحرب نفسه تغير ولم يعد بالدبابات مثل زمان».
وأكمل ناصر أبوعكر الحديث قائلاً: «يجب أن نلتفت إلى تعمير سيناء، وما المانع أن تكون هناك وزارة خاصة بتعميرها على أن يشرف الجيش عليها، وأؤكد أن سيناء لكل المصريين، نحن لا نريدها لنا فقط، وكل ما نريده هو أن فرص حقيقية، ويكفى التعامل مع سيناء أمنياً فقط، ويجب النظر إلى باقى الملفات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، ويجب أن يعمل المسؤولون على توصيل تيار الكهرباء الضغط العالى، ويعطونا تراخيص حفر الآبار الجوفية حتى نستصلح الأرض على نفقتنا ولا نريد منهم شيئاً، أو على الأقل توفير فرص عمل لـ10 آلاف من أبناء سيناء، وإعطاء الفرصة للباقى ليستصلح الأرض».
وأضاف أبوعكر: «اشتريت أرضاً فى منطقة جلبانة شرق القناة بسعر 27 ألف جنيه للفدان، وجرفتها وأستصلحتها، ثم فوجئت بأن أمين أباظة، وزير الزراعة السابق، كلف مجموعة من الشركات بتدمير البيوت وإتلاف المحاصيل بحجة أنها أراضى جمعيات، واستدعوا لنا الشرطة لكننى دافعت عن أرضى بالسلاح، ولو كانوا أخذوا الأرض لوقعت مجزرة، وكل الزراعات القائمة فى القرية حالياً هى بجهودنا الذاتية، ونشترى مياه الشرب، والكهرباء أدخلناها على نفقاتنا، وهذا هو الحال فى معظم قرى شمال سيناء».
عم سليمان: عايز الدراهم بتاعتى اللى «أخدها» حسنى مبارك
حملتنا سيارة 4×4 من وسط قرية «المدينة» لتشق بنا الطرق الجبلية، وسط نباتات الصبار التى لا تنم سوى عن تغلغلنا داخل الصحراء، وكانت السيارة الخاصة التى أتينا بها من القاهرة غير مؤهلة لنقلنا إلى الحدود المصرية الإسرائيلية، لذا كلف أبوأشرف وناصر أبوعكر سائقهما الخاص لاصطحابنا فى هذه الجولة.
وصلنا الحدود بعد ما يقرب من 2 كيلومتر، واعتلينا قمة جبل نستطيع من خلاله أن نرى عن قرب أراضينا المغتصبة، تقف شامخة صامدة أمام همجية وقوة الصهاينة. لا شىء يعكر الصفو حقاً سوى العلم الإسرائيلى وهو يرفرف عالياً على أرضنا العربية. ما يثير استفزازك ويجعل الدم يغلى فى عروقك، وهو الإحساس نفسه الذى ينتابك ما إن تطل برأسك عالياً فوق كوبرى الجامعة لتجد العلم الإسرائيلى يرفرف فوق ضفاف نهرنا العظيم.
نظرة سريعة على الحدود المصرية الإسرائيلية، ستعرف مدى الذل والمهانة، بل الظلم الذى عشناه، إنه مشهد لا تملك أمامه سوى أن تقول «حرام»، فالاخضرار والتوهج والمساحات المزروعة التى تصطدم بها عيناك، ما إن تنظر إلى الأرض المغتصبة، لا آخر لها.
على النقيض تماماً جاءت الحدود المصرية «حاجة تغم وتكسف»، إنه شىء يدعوك لليأس والإحباط والغيظ والاستفزاز، فاللون الأصفر يطغى على كل شىء، اللهم إلا بعض أشجار الصبار التى نقول عنها «بتطلع شيطانى»، وعندها ستجد نفسك تتحدث معها وتتساءل: «بقى مليارات النظام السابق بدءاً من مبارك وأولاده وأعوانه وحاشيته ليست كافية لأن تغرق، ليس صحراء سيناء فقط، بل كل صحراء مصر فى اللون الأخضر؟ أعتقد أنه قد آن الأوان إلى أن نفيق ونلتفت إلى مقدراتنا ومستقبلنا، آن الأوان لأن يكون للشرف كلمة وللقوات المسلحة مواقف.
غادرت المكان بعد أن استطعت أن أغتسل من همومى بنسمة هواء عليلة، سمعتها جيداً وهى تقول لى: «إننى آتية من القدس.. من الضفة.. من غزة.. من ريحة الحبايب».
فى طريق عودتنا لمنزل الحاج أبوأشرف، لمحنا كوخاً من الشعر فى قلب الصحراء، وسألنا سائقنا عنه، فأجاب إنه «عم سليمان»، العجوز الذى تجاوز الثمانين من العمر، والذى اختار الصحراء ليستقر فيها منذ طفولته، إذ لم يخرج إلا لسوق قرية الحمدية، ونزل العريش مرة واحدة منذ شهر، وعندما مرض أخذوه إلى المستشفى، ورفض أن يبيت ليلته هناك، وقال: «لو سبت بيتى وفرشتى أموت».
ولأن عم سليمان يتكلم بلهجته البدوية، وقف السائق يوضح لنا كلماته، استقبلنا الرجل بحفاوة، وأمر السائق بأن يعد لنا أكواب الشاى الساخن، أما هو فلم يترك ما يفعله، فقد كان يعجن دقيقا يكفى رغيفا واحدا من الخبز فى إناء صغير، وأمسك بكوب صغير متوجهاً إلى بالحديث قائلاً: هادى عمرها 38 سنة، بحبها، وحاسس إنها لو انكسرت هموت، فى حاجة بينى وبينها.
■سألته.. يا عم سليمان.. جراكن المياه دى مكتوب عليها بالعبرى إنت جايبها من إسرائيل؟
- أيوه سرقتها من الجند الإسرائيليين اللى كانوا هنا. وفلت واحد منهم. شوبدى بيهم، أنا ما بحبهم، نحنا مصريين، وممنوع حد يقرب من أراضينا.
■رحت فلسطين قبل كده؟
- خابرها كويس لغاية السبع وقلقيلية واشتغلت فيها.
■اتجوزت ؟
- لسة بحوش فى الدراهم.. بدى أتجوز بدوية.
■تعرف يا عم سليمان مين رئيس مصر؟
- طبعاً خابر، هو حسنى مبارك اللى بيلعب فى الدراهم، والله يستاهل كل اللى جرى له. الرادل «الراجل» ده كان بياخد الدراهم اللى بتيجى لمصر من بره، ويقول ما أخدتش. بس لازم يردع «يرجع» الدراهم بتاعتنا.
■نفسك فى إيه ؟
- العمر جرى يا بنتى، مش عاوز حادة «حاجة» لنفسى، بس أقولك نفسى تزرعوا سينا، والله سينا دى منجم دهب، ماحدش يعرف قيمتها غيرنا. والله فيها ماس وثروة بس إنتم سايبنها. عمروا يا أولاد.
وقبل أن أغادر نادى على عم سليمان قائلاً: ماتنسيش تجيبى لى الدراهم بتاعتى اللى سرقها حسنى مبارك.