فى حدود الساعة التاسعة من صباح كل يوم يعقد فريق العمل فى مهرجان (الجونة) اجتماعا صباحيا لبحث ما تم فى اليوم السابق، ويشددون فيما بينهم على أوجه القصور، أنهم متفقون على المصارحة، بالتأكيد لا تعلن إدارة المهرجان الأخطاء، إلا أننى أراها بادرة طيبة جدا لتخطى الأزمات التى لا يخلو منها أى عمل جماعى، خاصة عندما نُصبح بصدد النسخة الأولى.
كان عرض الفيلم اللبنانى (القضية 23)، أمس الأول، واحدا من اختيارات المهرجان الإيجابية، لاقتناص الفيلم المثير، والحاصل قبل أسبوعين على جائزة أفضل ممثل لـ(كامل الباشا) من مهرجان (فينسيا)، لا تنسى أن رصيدنا محدود جدا كعرب فى الجوائز العالمية، كما أن المخرج زياد دويرى كان هو هدف (الميديا) فى الأيام الأخيرة، ولايزال منذ أن تم التحقيق معه بمجرد عودته إلى بيروت، التحقيق بأثر رجعى عن فيلم (الصدمة) الذى أخرجه قبل 5 سنوات، والتهمة التى حصل بعدها على البراءة هى التطبيع مع الكيان الصهيونى بتصوير الفيلم هناك والاستعانة بعدد من الفنيين الإسرائيليين، الحكاية متشعبة ولا مجال هذه المرة للخوض فى تفاصيلها.
من الواضح أن تكريم زياد فى (الجونة) قبل عرض الفيلم يحمل بشكل أو بآخر قدرا من المؤازرة.
(القضية 23) والذى تحول هو أيضا إلى قضية، عندما يضع الفيلم فى المقدمة خطاب الرئيس اللبنانى الأسبق الراحل بشير الجميل، الذى أشعل لبنان بتصريحه (أن على الفلسطينيين المقيمين فى لبنان الرحيل فورا)، ومن بعدها تأججت نيران الغضب فى الشارع، أراد المخرج زياد الدويرى أن يحيل الصراع من الفضاء السياسى ليجسدها كقضية اجتماعية، ليصبح كمعادل موضوعى نتابعه فى جولات ساخنة، بين عادل كرم الميكانيكى اللبنانى المسيحى الديانة، وعلى الجانب الآخر المهندس الفلسطينى (كامل الباشا) الذى يعيش داخل المخيم فى لبنان، النقطة التى تفجر الحدث تبدأ مع انهمار الماء المتعمد من المزراب على المهندس المسؤول عن الحى، وعندما ينبهه ويتأكد اللبنانى من لهجته الفلسطينية يزداد اللبنانى شراسة، فى مواجهته حتى إنه يحطم الماسورة التى تحول دون نزول الماء إلى الشارع.
بالطبع القضية الفلسطينية معقدة ومتشعبة وحقوق الإنسان الفلسطينى المشرد فى إصقاع الأرض تستحق، والمعاناة، والتى نتابعها فى (الميديا)، لا يمكن غض الطرف عنها أو اختزالها فى فيلم، البعض رآها بقدر كبير من الحساسية وكأن الشريط السينمائى هو بالضبط الصراع وليس رؤية محدودة وبزاوية خاصة جدا له، الفيلم لا يمكن أن يحاكم سياسيا من منظور مباشر.
الضربات المتبادلة بين الطرفين اللبنانى والفلسطينى تنتقل من الكلمة البذيئة إلى اللكمات من الفلسطينى للبنانى والعكس، على الجانب الآخر نلمح معادلا آخر لصراع بين أب وابنته، المحامى الكبير الذى يدافع عن اللبنانى، والابنة التى تتولى الدفاع عن الفلسطينى، وكأنه يؤكد على انقسام العائلة الواحدة، وهى قطعا صدفة غير مبررة دراميا.
المخرج زياد الدويرى عرفناه كسينمائى متألق على الساحة العربية قبل نحو 20 عاما مع أول أفلامه (بيروت الغربية)، الذى كان يتناول الحرب الأهلية بين شطرى بيروت بتلك الرؤية الساخرة والممتعة، وقتها أيضا احتج عليه طرفا الصراع الواقعى، لاتزال السخرية هى منهجه، فى فيلمه (القضية 23)، المكان الرئيس للحدث هو قاعة المحكمة، وهنا تأتى براعة المخرج فى تقديم تتابع اللقطات بإيحاء درامى مقصود، حيث يصبح شهود المحكمة من الجمهور داخل القاعة هم أنفسهم جمهور الفيلم داخل قاعة السينما، أنت لا تدين فى النهاية من تجاوز بلفظ جارح أو بكلمة بقدر ما تستوقفك الحالة برمتها، حتى اللبنانى الذى يقول (ياريت شارون محاكن عن بكرة أبيكن) تستطيع أن تتفهم دوافعه الدرامية قبل السياسية.
الرسالة المضمرة أن القضاء اللبنانى وحتى أعلى سلطة رئيس الجمهورية متعاطف مع حق الفلسطينيين، وأنهم يملكون حرية موازية فى الشارع، وغيرها من التفاصيل التى تتجاوز منطق الواقع، إلا أنها تدخل فى إطار تحليل الواقع المجازى حتى تصل فى النهاية الرسالة إلى أن الجميع لاجئون، فلسطينى لاجئ ولبنانى لاجئ!!.