فى طريقه اليومى إلى الفدان الذى يستأجره من صاحبه بـ 12 ألف جنيه فى العام، كانت أفكار كثيرة تتقافز فى ذهن «عيد عبدالمحسن»، تلك الأفكار التى كانت تراوده يوميًا طوال مارس الماضى بينما ينثر بذور القطن، زواج ابنته الكبرى وكسوة الأبناء، مصاريف عام كامل قادم، تنتظر جميعها بيع المحصول فى شهر أكتوبر القادم.
ثمانية أشهر كاملة اعتنى فيها عبدالمحسن بمحصول قطنه، فهناك على بعد 10 كم من مركز «بسيون» بمحافظة الغربية، وداخل أحد الغيطان قضى ساعات يومه بعيداً عن أسرته، أملا فى تسويق محصوله بسعر يوازى قيمة مصاريف زراعة القطن المكلفة، سنوات عمره الستين لم تمنعه من الوقوف تحت حرارة الشمس الحارقة لساعات طويلة، لجنى محصوله مع عدد من الأنفار الذين استأجرهم.
لم تكن فى نية عبدالمحسن زراعة القطن هذا العام، فهو على دراية كاملة بالمشاكل التى تواجه المزارعين أثناء زراعة المحصول، إلا أنه قرر زراعته هذا العام بناء على وعود وزارة الزراعة برفع سعر شراء محصول القطن من المزارعين، وقال: «زمان كنا بنزرع القطن كل سنة، لأننا كنا ضامنين أنه هيتباع بسعر عالى وهيكون فيه مكسب لينا، لكن دلوقتى مفيش زرعة بشكل منتظم لأن تكلفة زراعة القطن مرتفعة، وبيعه خسارة للفلاح، لكن لما وزير الزراعة وعدنا أن المحصول هيرتفع ثمنه هذا العام بدأ المزارعون فى زراعة القطن، ولكن بمساحات صغيرة خوفا من عدم الوفاء بالوعد».
انقطاع مياه الرى ولجوئهم إلى الرى الارتوازى، وارتفاع ثمن الأسمدة والمبيدات من أكثر المشاكل التى تواجه المزارعين فى زرعة محصول القطن، عبدالوهاب جاد أحد المزارعين فى محافظة المنوفية، اضطر إلى توصيل ماسورة مياه لرى محصوله، كلفته 25 ألف جنيه، بعدما جفت الترعة التى كانت تروى المحصول، وقال: «زمان كانت المساحات المنزرعة من القطن كبيرة، لكن تقلصت هذه المساحات بسبب ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات، وجفاف مياه الترع، فجميع المزارعين لجأوا إلى دق المواسير لرى محاصيلهم، والتى تكلف المزارعين مبالغ باهظة، فالترعة طولها 3 كم مسؤولة عن رى مساحة كبيرة من الأراضى، إلا أن القمامة والحيوانات النافقة غطتها بالكامل، والمجلس المحلى يأتى باللوادر على فترات متباعدة ويرفع جزءا من القمامة من أعلى المواسير فقط دون تطهير الترعة».
واشتكى جاد من ارتفاع ثمن المبيدات والأسمدة، فى الوقت الذى امتنعت فيه الدولة عن دعم الفلاح وقال: «الأسمدة والكيماوى غالية، والجمعية تعطينا نسبا بسيطة، اختفى الدعم للفلاح، المستفيد الوحيد من الفلاح التاجر، بنجيب العلف غالى جدا، مكسب المحاصيل الزراعية رايح للتاجر، زمان كان حصاد القطن عند الفلاح فكان بيجوز ولاده من حصاده لكن دلوقتى خلاص الفرحة اختفت، الإنتاجية ضعيفة رغم أنه اتصرف عليه مصاريف مرتفعة، الناس بتتداين عشان تزرع المحصول أملا أنه فى محصول الجنى يعوض خسارته».
منذ نعومة أظفارها اعتادت «دولت» الخروج من منزلها بعزبة «عبدالجواد» التابعة لمركز قويسنا بمحافظة المنوفية، للعمل باليومية فى حصاد المحاصيل الزراعية، وطوال ستين عاما كاملة لم تشكُ من الانحناء لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، مقابل الحصول على خمسين جنيها لا تسد جوع أبنائها التسعة، لا تتألم من خشونة كفها بقدر ما تتألم من توقفها عن العمل فى أوقات عدم جنى المحاصيل، وقالت دولت: «من يوم ما ربى خلقنى وأنا شغالة فى جمع القطن، واتجوزت وخلفت وبقيت جدة ولسه بستنى حصاد محصول القطن عشان أجمعه من الغيطان، تعبت من الشغلانة بس أنا معرفش غيرها فهى مصدر رزقى الوحيد، وبشتغل عشان أجوز بناتى الخمسة، فأنا المسؤولة عنهم بعد تعب أبوهم ورقدته فى البيت».
وأشار على السيد نعيم، مهندس زراعى، إلى هجرة الفلاحين لزراعة القطن واستبدالها بزراعات أخرى، وبالتبعية خفض الإنتاج، وتراجع الصادرات والسبب دائما المستوردون الذين يستوردون كميات أكبر عن الحاجة وللأسف تشجيع الحكومة للمستوردين بإطلاق يدهم للاستيراد بدلا من دعم مزارعى القطن لتبدأ سلسلة من الانهيارات المتتالية لهذا المحصول الاستراتيجى، ومن ثم تدنى إنتاج القطن وانخفاضه، مما أدى الى انهيار صناعة الغزل والنسيج فى مصر لصالح زيادة استيراد الغزول والأقطان من الخارج.
وطالب أشرف البنا، مزارع من قرية قتامة بمحافظة الغربية، بدعم الفلاح وتغيير منظومة القطن حتى يتربع القطن على عرشه مرة أخرى، وقال: «أمتلك فدانين من القطن، ومن المعروف عن قطن بسيون أنه يتميز بجميع المواصفات الغزلية، لكن للأسف تقلصت المساحات المنزرعة من 9 آلاف فدان إلى 3 آلاف فدان، رغم أنه محصول قومى وسلعة استراتيجية تجلب العملة الصعبة للدولة، لأن زراعة القطن مكلفة بجانب أن أجرة العمال فى موسم جنى المحصول مرتفعة، فى السنوات الماضية كان الفدان الواحد نحصل منه على 15 قنطار، دلوقتى الفدان بيجيب 5 قناطير فقط، وأصبح المتحكم الوحيد فى القطن التاجر والشركات الخاصة».
وحول مراحل جنى القطن، أوضح المهندس أحمد جاد، أن جنى القطن يجب أن يتم على مرتين، الأولى عند تفتح من 50% إلى 60% من اللوز الموجود بحجر النبات، ويكون هذا اللوز كامل النضج وأكبر وزنا من اللوز الموجود بأعلى النبات، مع مراعاة عدم جنى اللوز المصاب أو المتفتح تفتحا غير طبيعى، ويترك باقى اللوز الذى لم يتفتح بعد للجَنية الثانية، مؤكدًا أن الجنى على مرتين يساعد فى الحصول على رتبة عالية من الجنية الأولى بسبب عدم بقاء اللوز المتفتح فترة طويلة بدون جنى، وعدم تعرضه للعوامل الجوية أو السقوط على الأرض والاختلاط بالتراب، ما يحافظ على رتبته وعلى اللون الطبيعى للصنف.
وحذر جاد من ترك القطن معرضا لأشعة الشمس والرطوبة لأن ذلك يؤدى إلى تغير اللون ويصبح داكنا، ويصبح من الصعب أن يتقبل الصبغات، وأن الجنى يجب أن يتم بعد تطاير الندى، وفى حالة الجنى وقت وجود الندى، يجب نشر القطن فى الشمس ولا يفرز أو يعبأ إلا بعد جفافه، ويعبأ بعد ذلك فى أكياس من الخيش النظيفة ثم تغلق بدوبار من القطن، مشددًا على ضرورة عدم تعبئة القطن فى أكياس السماد أو البلاستيك.
وتابع جاد: «يجب نشر القطن على مفارش نظيفة مع استمرار التقليب والفرفرة، ويتم الفرز لفصل الفصوص المصابة والجافة والمبرومة والمتفتحة بشكل غير طبيعى على حدة، وذلك للحصول على رتبة أعلى وسعر أفضل».
لم يطلق عليه عمدة القطن من فراغ، فطوال ثلاثين عاما ماضية لم يتوقف أحمد زهران، مزارع من محافظة كفر الشيخ، عن زراعة محصول القطن، رغم الصعوبات التى واجهته إلا أنه يرى أن القطن المصرى ليس له منافس على مستوى العالم، وهناك عدة حلول بسيطة لإصلاح منظومة القطن، تحدث عنها قائلا: «على الدولة أن تدعم المزارع دعما مباشرا حتى تشجعه على زراعة القطن، وعلينا أن نحافظ على البذرة ونحسن السلالات حتى ترتفع الإنتاجية مرة أخرى، ونعود للمنظومة القديمة مرة أخرى، من خلال أن تشترى الحكومة القطن من المزارع، وبذلك تمنع تحكم التجار والشركات الخاصة من التلاعب فى الأسعار، بجانب أن ضمان التسويق يخلق الثقة عند الفلاح، ولابد من تقييم القطن وهو ما يشجع الفلاح على تحسين جودة محصوله بدلا من جمع المحصول بعفشه، ودعم الأسمدة، فثمن الشيكارة الواحدة 150 جنيها وهى تمثل تكلفة عالية عند المزارع البسيط، والالتزام بالدورات الزراعية، وتحديد سعر القطن قبل زراعته لطمأنة المزارع، خاصة أن القطن ليس حبوبا مثل باقى المحاصيل الزراعية، يمكن تخزينه، لذلك قد يفرط الفلاح فيه لسداد ديونه».
يعد قطن البيما الأمريكى هو المنافس الأكبر للقطن المصرى فى درجة النقاء، حيث إن الملوثات التى تصيب القطن المصرى هى التى تجعله أقل جودة من القطن الأمريكى، مثلما ذكر الدكتور أحمد عبدالفتاح، بمعهد بحوث القطن، وقال: «يلجأ المستثمرون إلى قطن «البيما» الأمريكى لأنه ينافس القطن المصرى فى درجة النقاء، والملوثات التى تصيب القطن المصرى أحد أهم أسباب ركوده، لذلك يجب على الفلاح الاهتمام بنقاء القطن لأن سمعة القطن المصرى تراجعت فى الفترة الأخيرة بسبب وجود شوائب به ومخلفات آدمية».
وتوقع أحمد عياد، رئيس شعبة القطن باتحاد الغرف التجارية، زيادة محصول الإنتاج المحلى من القطن خلال الموسم الحالى بمعدل لا يقل عن 100 ألف فدان، مشيرا إلى أن المساحات المزروعة العام الماضى بلغت نحو 130 ألف فدان، بينما ارتفعت خلال الموسم الحالى لنحو 220 ألف فدان.
وأرجع التحسن فى معدلات الإنتاج المحلى إلى اتجاه الدولة إلى تشديد الرقابة على عمليات الزراعة والتجار، لمنع خلط الأصناف بين الوجهين القبلى والبحرى، مشيرا إلى أنه تم الاعتماد على أصناف جيدة من البذور وهو ما يسهم فى تقليص الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك مع إمكانية تحقيق الاكتفاء الذاتى خلال السنوات المقبلة من القطن.
وأكد عياد فى تصريحات خاصة لـ«المصرى اليوم» أن إجمالى استهلاك مصر من الأقطان يصل لنحو 5 ملايين قنطار قطن سنويا، بينما يصل الإنتاج المحلى لنحو 2 مليون قنطار وبالتالى يتم تعويض الباقى من خلال الاستيراد. وتابع أن أهم الدول المصدرة للقطن للسوق المصرية هى اليونان والسودان، وحول إمكانية زيادة الصادرات خلال الموسم الحالى خاصة مع الإعصار الذى ضرب إحدى الولايات الأمريكية المنتجة للقطن والتى تعد المنافس الأول للقطن المصرى خاصة فى السوق الهندية، أكد عياد أن الإعصار لم يؤثر على الإنتاج الأمريكى وأن معدلات التصدير المصرية من المتوقع أن تصل لنحو مليون قنطار من القطن طويل التيلة.