x

الخبير الاقتصادى الدكتور إبراهيم العيسوى: برنامج الحكومة لـ «الإصلاح الاقتصادى» لن يصلح شيئاً (حوار) (2-2)

الخميس 14-09-2017 23:00 | كتب: مصباح قطب |
العيسوى يتحدث لـ «المصرى اليوم» العيسوى يتحدث لـ «المصرى اليوم» تصوير : سمير صادق

الشمولية والتشاؤم.. أبرز الاتهامات التى توجه إليه، غير أن أحداً لا ينكر مكانته العلمية مصرياً وعربياً وعالمياً.. إنه أستاذ الاقتصاد الدكتور إبراهيم العيسوى الذى حصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد، وقام بالتدريس فيها وعمل لفترة فى معهد التخطيط العربى، وكان عضوا بارزا بالمكتب الاقتصادى لحزب التجمع قبل أن ينتقل إلى التحالف الشعبى بعد ثورة يناير وصولا إلى اعتزال العمل الحزبى، كما كان هو الباحث الرئيسى لمشروع مصر 2020 الذى أشرف عليه الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله، وزير التخطيط الأسبق.

فى الجزء الثانى من حواره لـ«المصرى اليوم» قال العيسوى إن معدل الفقر فى مصر غير إنسانى وغير أخلاقى، وإن صبر المواطنين عليه لن يدوم طويلا، وإن ما يبدو على أنه صبر من جانبهم قد لا يكون سوى غضب مكتوم نتيجة للقيود على التحركات الاحتجاجية وعلى الحق الدستورى فى التظاهر والإضراب، مؤكدا أن البؤس يهدد بنفاد صبر المصريين.

وأضاف أن برنامج الحكومة للإصلاح الاقتصادى ليس إصلاحا، موضحا أن الإصلاح الجاد يقتضى تغيير الفلسفة الاقتصادية العامة التى أدت إلى ما نواجهه من مشكلات على امتداد العقود الأربعة الماضية، ولفت إلى أن برامج البنك الدولى وصندوق النقد تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقراً.. وإلى نص الحوار:


■ أنت من أبرز الداعين إلى نموذج التنمية المستقلة.. أين هى الدولة التى قامت بتطبيق ذلك لكى نحذو حذوها.. وأين هم تلاميذك فى هذا المجال؟

- ليس بالضرورة عند طرح نموذج ما أن تكون هناك سابقة لتطبيقه فى بعض الدول. ولكن هناك دولا أخذت ببعض ركائز نموذج التنمية المستقلة، بينما أغفلت ركائز أخرى له. والنموذج الذى أطرحه هو خلاصة دراسات تمت فيها الاستفادة من تجارب متنوعة للاستفادة مما قدمته من دروس بشأن ما يجب عمله وما يجب تجنبه لإطلاق القوى الدافعة لتنمية شاملة مستقلة وعادلة ومستدامة. ومنها تجارب النمور الآسيوية وتجربة مصر الناصرية، فقد رفضت مثلاً أسلوب الحماية والدعم الذى طبقته الناصرية، ودعوت إلى ما سميته الدعم الذكى والحماية الذكية، كما رفضت مقايضة الديمقراطية بلقمة العيش ودعوت إلى الديمقراطية التشاركية، وعن تلاميذى أقول: قد لا يكونون كثيرين. وبالمناسبة فإننى قد لاحظت بعد أن انتقلت من حزب التجمع إلى حزب التحالف الشعبى أن عدد من كانوا يحضرون محاضراتى عن التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية- وهى من أهم محاور وأولويات الحزب- كان ضئيلاً جداً، رغم أنى كنت الشخصية الثانية فى سلم القيادة. ولم يجادلنى أو يناقشنى فى هذه المحاضرات أو فيما كتبته من كراسات تثقيفية فى موضوعاتها إلا قلة قليلة جداً. عموماً هناك مشكلة قراءة ومشكلة ثقافة ليس فى أوساط اليسار وحده، بل فى المجتمع كله، حتى بين من يعدون من النخبة أو الصفوة.

■ ماذا عن أهم الانتقادات التى توجهها لبرنامج الحكومة للإصلاح الاقتصادى المقدم للبرلمان فى مارس 2016؟

- بداية.. فإننى لا أرى أنه برنامج إصلاح، لأن الإصلاح الجاد يقتضى تغيير الفلسفة الاقتصادية العامة التى أدت إلى ما نواجهه من مشكلات على امتداد العقود الأربعة الماضية. فما نطبقه هو ما جربناه من قبل وطبقه البنك والصندوق فى دول عديدة، وهناك دراسات عالمية جادة تؤكد أن برامج البنك والصندوق المسماة توافق واشنطن لم تنجح لا فى تحقيق النمو ولا فى الحد من الفقر أو من التفاوتات فى توزيع الدخل. لقد طبقنا هذا البرنامج أيام الدكتور عاطف صدقى، وكاد العجز فى الموازنة يصل إلى 1%. لكن حدث انكماش وركود ووقعت ضغوط اجتماعية ضخمة على الفقراء وذوى الدخول المنخفضة، بل على الطبقة الوسطى، وسرعان ما تدهور الحال مرة أخرى.

■ لكن يقال إن البنك والصندوق غيرا منهجهما وأصبحا يهتمان بالعدالة الاجتماعية والاستدامة؟

- هذا كلام غير دقيق. فالتغيير كان فى الخطاب الإعلامى وليس فى مضمون البرامج أى تغيير جوهرى حتى من ناحية الاهتمام بالرعاية الاجتماعية والاستدامة. أى أننا أمام ديكور ومجمِّلات ببعض التحسينات الهامشية فى الضمان الاجتماعى وفى إقراض المشروعات الصغيرة مثلاً.. «فهل ما تتضمنه هذه البرامج من تخفيض حاد فى الدعم ورفع كبير لأسعار الغذاء والطاقة والمياه يسهم فى العدالة الاجتماعية؟» إن جوهر البرنامج الإصلاحى ظل ثابتاً وهو خدمة الدول الرأسمالية الكبرى وشركاتها وضمان فتح أسواق الدول النامية أمامها لجنى الأرباح، دونما اكتراث حقيقى بالعدالة والاستدامة.

■ لكن البرناج مثلا أدى إلى تراجع الواردات بشدة.. بما يعنى أنه أضر الدول التى تصدر لنا وأضر شركاتها؟

- إنه ضرر مؤقت وعابر، ولا تأثير له على مصالح هذه الدول على المدى الطويل. وحتى فى الأجلين القصير والمتوسط فإن البرنامج يخدم مصالح الأجانب الذين يستثمرون فى أذون الخزانة ويحصلون على عائد مجزٍ وسخى جداً.

■ تقول الحكومة إن التجارب السابقة للإصلاح كانت جزئية، وإن ما يجرى الآن هو إصلاح شامل يتفادى عيوب الماضى ويؤكد على الإصلاح الهيكلى وعلى تقوية دور الدولة كرقيب ومنظم؟

- فى الحقيقة إن تركيز البرنامج الإصلاحى الآن وفى الماضى هو على الإصلاح المالى والنقدى، أى على ما يسمى التوازنات الكلية فى الاقتصاد. إنهم يتصورون أنه بمجرد عمل ذلك سينطلق الاقتصاد. ولكن هذا ليس صحيحاً. فالتنمية لابد لها من تدخل قصدى وتخطيط دقيق لكى تحدث، ولو تركت الأمور للسوق فلن يتغير شىء، ولن تقوم صناعة تنافسية.. إن طريقة البنك والصندوق هذه قد تؤدى إلى تحسن فى بعض المؤشرات المالية أو النقدية، ثم سرعان ما يحدث انتكاسة فى الاقتصاد الحقيقى. وهى عادة تزيد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً.

■ يرى البعض أنك تبالغ فى التخويف من خطر الديون الخارجية؟

- بالعكس.. إن أهم نقطة أود التوقف عندها فى برنامج الحكومة هى ما سميته «إدمان الاستدانة» من الخارج والداخل، على غرار ما حدث على يد الوالى سعيد والخديو إسماعيل. فبرنامج الحكومة كان مقدمة لتوقيع اتفاق التسهيل الممدد مع صندوق النقد الدولى لاقتراض 12 مليار دولار. وحالة الدين عندنا تقول إننا فى خطر شديد جداً. إنها تكشف كيف تعمق اعتمادنا على ا لخارج وضعف الاعتماد على الذات، وتعكس اختلالات أخرى كزيادة الاستهلاك والواردات وزيادة عبء الديون. لقد وصل الدين العام بنهاية مارس 2017 الى 136 % من الناتج المحلى الإجمالى (94.7% دين داخلى و41.2% دين خارجى)، بينما فى نهاية يونيو 2013 كان الدين العام 98 %من الناتج. وقد بلغ الدين الخارجى الآن 73.8 مليار دولار، وزاد الدين المحلى إلى 3 تريليونات بعد 1.5 تريليون جنيه فى يونيو 2013، أى أنه تضاعف. وزادت الفوائد وحدها خلال تلك الفترة بنسبة 160 % للدين العام بشقيه الداخلى والخارجى، وبلغت أكثر من 32 % كنسبة من الإنفاق العام، وأصبحت أعلى كثيراً من المخصص للأجور وهو 240 مليار جنيه. إن على مصر أن تدفع يومياً أكثر من مليار جنيه فوائد لديونها، فضلاً عن الأقساط. وقد صارت الفوائد والأقساط تمثل 16 %من الناتج، وهذا أعلى أكثر من مرة ونصف مما يجب تخصيصه بحسب الدستور للتعليم والبحث العملى والصحة. فأين المبالغة فيما أقول؟ إننا أمام كارثة كبرى، لاسيما أن أكثر المشروعات التى تمولها القروض لا يتوقع منها عائد سريع أو ليس لها مردود اقتصادى أصلاً كاستيراد الأسلحة.

■ يقول البنك المركزى إنه سيهبط بالتضخم إلى حدود 13% فى الربع الأخير من 2018.. هل سيصل إلى هذا الهدف، وعلى من تقع مسؤولية انفجار التضخم فى الوقت الراهن؟

- الحكومة، والصندوق أيضاً، قدرت التضخم بأقل كثيراً مما وصل إليه.. فكيف نصدقها فيما هو آت؟ أتمنى أن يستطيع المركزى الوصول إلى الهدف الذى أعلنه. وما أطلق العنان للتضخم هو الحكومة. ففى وقت قصير جداً حررت سعر الصرف ما أدى إلى تخفيضه تخفيضاً جسيماً، ورفعت أسعارالكهرباء والمحروقات والمياه، وطبقت ضريبة القيمة المضافة بطريقة الصدمة وليس فى تدرج وتوسع محدود كما كان ينبغى، ورفعت أنواعا متعددة من الرسوم على الخدمات مثل المرور على الطرق أو استخراج أوراق لا تتكلف شيئاً.

■ يقول رجال الأعمال أن خسائر القطاع العام غير مبررة، وأن اليسار شجع إهدار المال العام وضعف الإنتاجية والتنافسية بوقوفه مع بقاء تلك الشركات بيد الدولة.. ما ردك؟.

- هذا تجنٍ على اليسار الذى قدم- ممثلاً فى حزب التجمع- فى وقت مبكر جداً تشخيصاً دقيقا وأميناً لأوضاع مصر الاقتصادية فى المؤتمر الاقتصادى الذى دعا إليه مبارك فى 1982، ومن بينها اختلالات القطاع العام والدعم وكيفية إصلاحها.بالنسبة للدعم، مثلاً اقترحنا أن يكون الدعم نسبة متفق عليها شعبياً بدلاً من أن يكون دعما مطلقاً أو تثبيتاً للأسعار، مع استهداف محدد لتقوية صناعات بعينها، وعلى أن يعاد النظر فى الدعم دورياً بطريقة ديمقراطية. وبالنسبة للقطاع العام تقدمنا بمقترحات لإصلاحه هيكلياً وإدارياً ومالياً، مع تقديم محفزات للمديرين ووضعهم تحت ضغوط ليتعودوا على المنافسة، ومع تدعيم البحث العلمى لزيادة الإنتاجية وتطوير المنتجات، لم نقصر إذن.

■ نصيب الأجور من الدخل القومى فى مصر متراجع بشدة مقارنة بنصيب عوائد التملك.. كيف يمكن إصلاح ذلك؟

- لا أحد حريص الآن على قياس هذا المؤشر البالغ الأهمية، وهو كم يحصل العاملون بأجر على نصيب من الدخل القومى، وكم يحصل أصحاب الملكيات العينية والأسهم والسندات والثروات الموروثة. طبعاً هناك صعوبات فى عملية القياس نتيجة اتساع القطاع غير الرسمى، بل ونتيجة غياب الإحصاءات الدقيقة عن الدخل والثروة حتى فى القطاع الرسمى. والملاحظ أنه حدث تحسن هائل فى هذا المؤشر فى الستينيات، حيث بلغ نحو 50% من الدخل القومى، وفى الوقت نفسه وصل معدل الادخار إلى 16 % بينما لا يزيد حالياً على 6 %، وبلغ معدل الاستثمار 27 % وهو الآن 13% أو 14 %. كما بلغ معدل النمو نحو 6 %، وهو الآن 3% أو 4%. لقد كانت هناك حزمة سياسات متكاملة لإحراز عدالة اجتماعية ومعدل كبير للادخار والاستثمار ونمو اقتصادى قوى. ولكن حزمة كهذه غائبة الآن. عموماً زيادة نصيب الأجور تتطلب إعادة توزيع للدخل والثروة، فضلاً عن تنشيط النمو الاقتصادى لتخفيض البطالة وزيادة التشغيل.

■ لماذا تدعو إلى دور إنتاجى للدولة وتستنكر أن تقوم جهات فى وزارة الدفاع بمثل هذا الدور؟

- معارضتى لذلك سببها أن الجيش حين يفعل ذلك فإنه يقوم بأمور ليست من اختصاصه، وكان يمكن ببساطة تحفيز القطاع الخاص أو القطاع العام على القيام بها. فالجيش له وظائف محددة فى الدستور، ليس منها الاشتغال بالأعمال الاقتصادية. فهذا خروج على الدستور، فضلاً عن قيام مزاحمة أو منافسة غير متكافئة بين الجيش والفعاليات الاقتصادية المدنية، فضلاً عن أن اشتغال الجيش بالعمل الاقتصادى الهادف للربح قد يقود إلى ممارسات غير سليمة فى المؤسسة العسكرية التى يجب أن تكون بمنأى عن ذلك حتى تؤدى وظيفتها الأساسية فى الحفاظ على أمن البلاد وسلامة أراضيها بكفاءة.

■ .. لكن الجيش يوفر سلعاً وخدمات بأسعار أقل للفئات الاجتماعية التى تدافع عنها كيسارى؟

- الجيش قد يوفر بعض السلع بأسعار أقل من القطاع الخاص أو العام، لأنه لا يتحمل نفس التكاليف من أجور وإيجارات أراضى وضرائب وما إلى ذلك. وانخفاض الأسعار من جانب الجيش ليس مبرراً لانخراطه فى أنشطة اقتصادية، لأنه كما ذكرت يخرج بذلك عن وظيفته الأصلية المقررة بالدستور والمتعارف عليها فى معظم الدول. والوسيلة المعروفة عالمياً لمساعدة الطبقات الفقيرة فى الحصول على السلع والخدمات بأسعار متهاودة هى الدعم من خلال الموازنة العامة للدولة، وليس من خلال اشتغال الجيش فى الإنتاج المدنى.

■ أيضا فإن ما يقوم به الجيش يعزز إقامة قطاع عام جديد قوى.. كما أن القطاع الخاص لا يلبث فى كثير من الحالات بعد أن ينجح أن يبيع شركاته للأجانب؟

- إن فكرة إنشاء قطاع عام جديد هى فكرة تقوم على منهج سائد حالياً وهو دع القديم فى حاله، فإصلاحه مستحيل، ولنقم بمشاريع جديدة. ولكن ذلك منهج عقيم، لأنه يهدرطاقات كبيرة قائمة حالياً وتحتاح جهداً أقل لتعود إلى الإنتاج. وثانياً لأن الجديد نفسه يمكن بعد فترة أن يقع فى ذات المشكلات بحكم المناخ السياسى والاقتصادى السائد والذى لم يتم إصلاحه. ولذا لابد أولاً من تغيير التوجه أو الفلسفة الإنمائية ونمط الإدارة لينجح اى مشروع عام. ولا يستقيم أن تعمل الدولة على بناء قطاع عام عسكرى فى الوقت الذى تترك فيه القطاع العام المدنى ليضمحل بالإهمال أو بالخصخصة، اللهم إلا إذا كانت الدولة تريد عسكرة الاقتصاد. أما كون القطاع الخاص يمكن أن يبيع مشروعاته للأجانب وأن مشروعات الجيش ستبقى للمصريين، فما نراه هو أن الحكم يرحب بالأجانب ويتحمس لهم ربما أكثر من تحمسه للمصريين ويقدم لهم كل التسهيلات، ولن يحول أى شىء بينه وبين بيع المشروعات التى يقيمها الجيش إذا أراد ذلك.

■ ما أولويات أى مرشح رئاسى محتمل لمنافسة الرئيس عبدالفتاح السيسى.. ومن الذى يمكن أن يتصدى للمهمة؟

- فى الحقيقة هذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه فى أجواء الكبت والابتزاز السياسى والقمع الأمنى والشلل الذى أصاب الحياة الحزبية، وأدى إلى تصحر حياتنا السياسية. ففى هذه الأجواء ليس من اليسير التعرف على أى مرشح محتمل. كما أن هذه الأجواء قد تجعل من قد تساورهم فكرة الترشح يخشون الوقوع فى الفخ الذى وقع فيه حمدين صباحى فى انتخابات 2004، ومن ثم فإنهم قد يقلعون عن هذه الفكرة. وهو ما يترك الساحة خالية للمرشح الوحيد.

■ كثيرا ما تتحدث عن الصمود الأسطورى وصبر المصريين فى مواجهة أعباء الإصلاح الاقتصادى.إلى متى يمكن أن يتحمل الناس؟.

- فلنبدأ من حقيقة أن الفقر فى مصر يتوحش. نحن نعتمد خط فقر متواضعا، وهو 482 جنيها للفرد شهرياً- 16 جنيها يومياً، لا تكفى إلا لشراء 8 سندويتشات فول وطعمية. فماذا عن تلبية بقية الاحتياجات الأساسية من مسكن وملبس وتعليم ورعاية صحية وغير ذلك؟.. إنه من غير الأخلاقى ومن غير الإنسانى أن نقبل بخط فقر متدن كهذا، ثم نطمئن أنفسنا بأن نسبة الفقراء لا تزيد على 28%. أعتقد أن النسبة الواقعية للسكان الفقراء لا تقل عن 40% أو 50%. والأمر هنا ليس مجرد طلب تعديل أرقام أو معدلات، ولكن هو أن معرفة مدى الفقر على حقيقته قد تجعلنا نغير السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ونعيد النظر فى الخدمات والمعاشات الضمانية، ونتخذ غير ذلك من الأساليب لمواجهة الفقر. إن التقليل من تقدير نسبة الفقراء يصنع طمأنينة كاذبة، والمشكلة حالياً ليست فى الفقر وضعف النمو فقط، بل يجب أن يضاف إلى التفاوت الشديد فى توزيع الدخول والثروات. إن كل ذلك يشكل ضغطاً بالغاً ليس فقط على الطبقات الدنيا، بل على الطبقة الوسطى، لكن احتمال الناس مهما يطل فإنه منتهٍ إلى حد لا محالة. وفى المجمل لن يحتمل الناس ما هم فيه طويلاً. لاحظ أن ما يبدو أنه صبر من جانب الناس قد لا يكون سوى غضب مكتوم نتيجة للقيود الأمنية على التحركات الاحتجاجية وعلى الحق الدستورى فى التظاهر والإضراب. والحكمة تقضى بالتحسب لتحول الغليان فى القدر المكتوم إلى انفجار سياسى واجتماعى عظيم.

■ أليس ثمة دور للزيادة السكانية فى فقرنا؟

- أرجو ألا تغيب عن الكثيرين ملاحظة أن الشكوى من زيادة السكان لا تظهر إلا وقت الأزمات الاقتصادية، لتكون إحدى الشماعات لتبرير فشل السياسات العامة. إن زيادة السكان سببها سوء الأوضاع الاقتصادية وليس العكس. وقد رأينا كيف زاد معدل نمو السكان، أواخر أيام مبارك، وبعد ثورة يناير نتيجة انخفاض معدلات النمو وزيادة البطالة. وجدير بأولى الأمر أن يتذكروا ما قيل، منذ أول مؤتمر للسكان نظمته الأمم المتحدة فى 1974، وهو أن أفضل وسيلة لتحديد النسل هى التنمية.

■ ما هو بالتحديد العامل الذى تخشى تأثيره على الجماهير؟

- البؤس.. فهو الذى يهدد بنفاد صبر المصريين، ونحن نعرف الآن أنه يوجد مؤشر لقياسه حاليا. ومصر تحتل المرتبة رقم 5 فى مقدمة الدول البائسة من بين 59 دولة. وهو مؤشر يجمع بين معدل البطالة ومعدل التضخم. إن أحد الانتقادات الموجهة إلى هذا المؤشر- وهو قد صيغ أصلاً لمتابعة الأوضاع الاجتماعية فى أمريكا- أنه يعتمد على عاملين فقط. لكنه يبقى ذات دلالة مهمة، ويمكن اعتباره مؤشر إنذار مبكر مما قد يترتب على تدهور الأوضاع الاجتماعية من عواقب وخيمة.

■ البطالة تراجعت الشهر الماضى.

- أشك! وعلى كل حال التراجع المعلن طفيف للغاية، وليس مما يمكن التعويل عليه كثيراً فى ضوء ما يشوب تقديرات البطالة من عيوب. فمما يقلل من دقة تقديرات البطالة اعتبار أن من اشتغل، ولو ساعة واحدة، خلال أسبوع المقابلة (فى مسح العمالة) يدخل فى عداد المشتغلين. أضف إلى ذلك أن اتساع رقعة الاقتصاد غير الرسمى يجعل قياس البطالة أمراً صعباً. وبمناسبة ما يقال عن دمج القطاع غير الرسمى فى القطاع الرسمى، فلم يحدث تقدم يذكر فى هذا الشأن رغم كثرة الطنطنة حول ذلك منذ سنوات. والقضية ليست فى الدمج، ولكن فى تقليل رقعة القطاع غير الرسمى. وهذا لن يحدث بقرارات ولكن بإحداث تقدم ملموس فى الاقتصاد، أى بالتصنيع وتعميقه وبالتنمية الشاملة. وهو ما سوف يسهم فى تغيير حياة الجمهور العادى المنخرط فى الأنشطة الهامشية للقطاع غير الرسمى. الناس مش غاويين مهانة وبهدلة، ولو وجدوا فرصاً أفضل فى قطاع مستقر، سينتقلون إليه، وما يبقى وقتها غير رسمى سوف يلعب دوراً مفيداً كإسفنجة لامتصاص البطالة وقت الأزمات، كما هو معروف عالمياً، وكما يحدث عندنا.

■ سيقول كثيرون عقب قراءة الحوار إنك رجل شمولى وانغلاقى؟

- منذ سنوات طويلة وأنا أسمع هذا الاتهام. للأسف نحن نعيش فى عصر ثقافة «التيك أواى»، حيث يتم الاعتماد فى تحصيل المعلومات على السماع وليس القراءة المدققة، وحيث تؤخذ الأمور «على الطاير» دون تعمق فى فحص الأفكار، وحيث يعتمد على الانطباعات العابرة والأفكار المسبقة عن الشخص، بدلاً من تجشم عناء القراءة والنقد الموضوعى لكتاباته. وهذا للأسف ما يحدث معى كلما تحدثت عن نموذج التنمية المستقلة.

■ هل يمكن أن تعود إلى حزب التجمع بعد رحيل الدكتور رفعت السعيد؟

- لا مجال للعودة إلى حزب التجمع لسببين، أولهما: التراجع الشديد الذى أصاب الحزب، وأدى إلى إضعاف هياكله وتراجع شعبيته، بسبب الممارسات الخاطئة للدكتور رفعت ومن حوله، والتى سعيت مع عدد من الزملاء فى الحزب لتصحيحها منذ انتخابات 2005 وحتى قرار تجميدى لنشاطى فى الهيئات القيادية للحزب فى مايو 2010، ثم استقالتى أنا وعدد من القيادات والعضوية فى فبراير 2011، بعد أن باءت جميع محاولات الإصلاح من داخل الحزب بالفشل. ومن ثم اتجهنا لتكوين حزب جديد تتوحد فيه قوى اليسار المصرى المفتتة. ثانيهما: هو أننى بعد أن خضت تجربة حزبية جديدة مع حزب التحالف الشعبى الاشتراكى بإيجابياتها وسلبياتها، وبعد أن دخلت فى الحلقة الثامنة من العمر قررت اعتزال العمل الحزبى.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية