بعد سنوات من الانزواء والهجوم عليها، تشهد فنون الاستشراق صعوداً متزايداً فى المشهد التشكيلى العالمى، بما تحمله من عبق التاريخ وما تعكسه من حضارات الشرق، وما ترويه من خباياه، حكاياته ويومياته.
تأتى لوحات المستشرقين مفعمة بالجمال والسحر والتفاصيل الملهمة للفن والإنسانية، وهو ما دفع المفكر العظيم د. ثروت عكاشة إلى القول بأن «المشرق تحول إلى وحى وملهم للتشكيليين الأوروبيين الذين وصلوا عند تناولهم له فى فنهم إلى تقنية عالية من حيث تصوير الواقع بتفاصيله إلى حد الإعجاز»، وربما يفسر لنا ذلك أسباب صموده وصعوده برغم مرور كل هذه السنوات، فى الغرب والشرق على السواء، حتى ازداد الإقبال على لوحاته الفنية وأصبح هناك تزاحم على شرائها فى أهم المزادات الفنية فى العالم، رغبة فى الاقتناء حتى من جانب أبناء منطقة الشرق الأوسط، دون اكتراث بارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق! الأمر الذى يكشف بدوره عن رؤية جديدة للفن الاستشراقى نجحت فى أن تتخلص مما يلصق به من نظرة استعمارية تعمدت النيل من الشرق وناسه، حيث تجاوزت الظاهرة الاستشراقية مرحلة الخضوع لنظرية واحدة، هى نظرية إدوارد سعيد، التى تقوم على أن مجمل التراث الاستشراقى، سواء كان فرنسياً أو بريطانياً أو أمريكياً، قد شكل نظرة الغرب إلى الشرق بهدف إحكام السيطرة عليه، وذلك دون إغفال - بالتأكيد فى الوقت نفسه - للظروف الجيوبوليتيكية والأنثروبولوجية التى تم إنتاج الفن الاستشراقى فى ظلها! وعلينا فى كل الأحوال أن نقر بأن اللوحات الاستشراقية التى تغطى عدة قرون تكشف أن الفن، لا يمكن تحت أى ظرف من الظروف، أن يجسد التعبير المباشر والمحدد لمضمون واحد، مهما كان ضغط الأيديولوجيا التى تقف وراءه، ومن هنا نجد أن الفن الاستشراقى يعكس مواقف شتى، فى مقدمتها سحر الشرق وروحانيته والانبهار بمظاهر الاختلاف ما بين العالمين الشرقى والغربى، ولعل تطور هذه النظرة هو ما أدى إلى صعود الفن الاستشراقى والإقبال العظيم على اقتنائه، حتى من جانب أبناء الشرق أنفسهم، كما أوضحنا، وتسابق رجال الأعمال والأمراء وأثرياء الشرق إلى الاستحواذ على روائع الرسامين المستشرقين فى المزادات العالمية، فى ظاهرة تتزايد.
والمتأمل للوحات الاستشراقية يدرك كم كانت مصر على مر السنين مصدراً لجذب وإلهام المستشرقين بحضارتها وفنونها، تراثها وسحر ناسها، ولعل ذلك هو ما دفع بأحد أشهر أثريائها - بصرف النظر عن أى عتبارات سياسية أو اقتصادية تخصه - إلى اقتناء مجموعة من أكثر اللوحات الاستشراقية روعة وقيمة فنية ومادية وهو شفيق جبر، ففى عام 1993 قرر شفيق شراء أول عمل استشراقى له، وهو لوحة لودفيج دويتش «قس مصرى يدخل معبداً»، 1892، من دار «تاجان» للمزادات فى باريس مقابل 3940 دولاراً، وهو يقول «هناك قدر هائل من الواقعية فى تلك اللوحة، خاصة الطريقة التى يقف بها القس عند المدخل، فمازال يمكنك رؤية ذلك المشهد فى مصر اليوم»، وبمرور الوقت أصبح عاشقاً لهذا الفن ليتعدى مجرد هاوٍ، حتى أصبح صاحب مجموعة تضم 135 لوحة زيتية ومائية، مما جعله واحداً من أهم جامعى لوحات المستشرقين فى العالم، وقد أدى شغفه بالفن الاستشراقى إلى أنه بعد نشر كتابه عن المجموعة الفنية التى يقتنيها بعنوان «روائع الفن الاستشراقى» استخدم الرسم الاستشراقى كنقطة انطلاق لسلسلة من المناقشات الدولية تحت عنوان هو «الشرق والغرب: فن الحوار»، ويحرص جبر على التمييز فى اختياراته الفنية بين «الرسامين المقيمين» الذين يمكثون فى باريس أو لندن ويحاولون تخيل بعض المشاهد المثيرة من «الشرق» - بما يحتويه من الجوارى والشيشة والحريم - وبين من يطلق عليهم «الرسامون المسافرون»، الذين يقومون بمغامرات شخصية كبيرة لزيارة المناطق البعيدة لتوثيق ما يميزها بصورة مباشرة، ويقول جبر: «تنتمى تشكيلة اللوحات التى أمتلكها بالكامل للرسامين المسافرين».
لا يعد شفيق جبر المقتنى الشرقى الوحيد الذى أعاد إحياء وجهة نظر المستشرقين فى السنوات الأخيرة، إذ تشهد سوق روائع المستشرقين منافسة شديدة بين جامعى اللوحات الاستشراقية، حيث تتزايد أعداد هواة جمع هذه اللوحات، سواء من الأفراد أو المؤسسات، فى شمال أفريقيا ومصر وبلدان الخليج العربى والشرق الأوسط، وهو ما أسهم فى زيادة قوة سوق الفنون الاستشراقية فى الوقت الراهن.