x

250 منشأة صناعية تصـرف ملوثاتها فى خليـج المكس و"البيئة" تصفه بـ بؤرة للتلوث

الأحد 31-01-2010 23:04 | كتب: محمد أبو العينين |


كعادته يصحو مجدى محمد عيسى، كبير صيادى ميناء المكس، من نومه فى الفجر وبعد أداء الصلاة يخرج للبحر ملقيا شباكه فى المياه انتظاراً لرزقه اليومى من الأسماك. هذا اليوم كان عصيبا عليه، إذ رمى شباكه البيضاء وانتظر أن تكتظ بالأسماك، وعندما سحبها بعد أن شعر بثقل شديد فيها وارتسمت علامات السعادة على وجهه ظنا منه أنها ممتلئة بالأسماك، فإذا بها تخرج سوداء وبها كتل من الزيوت والشحوم بالإضافة الى تآكل بعضها وتقطعها من كثرة الملوثات الموجودة فى المياه التى تحول لونها الى الأسود نتيجة صرف ما يقرب من 230 إلى 250 منشأة صناعية متعددة الأنشطة لصرفها الصناعى سواء بمعالجة أولية أو دون معالجة نهائيا.

كان غريبا ألا يحزن عم مجدى ذى الخمسة والسبعين خريفا، من تقطع شباكه وتلوثها وعدم خروج الأسماك فى هذا اليوم، فقد اعتاد على ذلك مرات عديدة بعد أن هرب السمك من الخليج- على حد قوله- نتيجة الملوثات الملقاة فى المياه يوميا الناتجة من مصانع البترول والسيراميك والمدابغ بالإضافة الى مياه الصرف الصحى.

يقول عم مجدى لـ«إسكندرية اليوم»: «أحيانا نخرج فى الصباح الباكر ونجد تجمعات كبيرة على المياه من الزيوت والبقع أو كميات من «الرغاوى» البيضاء والسوداء طافية على سطح المياه، وفى بعض الأحيان نجد هذه البقع محملة ببعض الأسماك النافقة مما يضطرنا للمغامرة فى المياه والدخول فى مناطق أعمق لاتسمح قدرات مراكبنا عليها لكن نعمل إيه «لقمة العيش بقت صعبة، وماحدش بيسأل فينا»، وبالكاد أعود الى بيتى بـ20 جنيهاً وأحياناً لا أجدها.

لم تكن هموم مجدى عيسى فردية حيث أكدها أغلب الصيادين فى منطقة المكس وأكدتها أكثر تقارير وزارة البيئة التى وصفت خليج المكس بأنه أصبح بؤرة للتلوث على شاطئ البحر المتوسط نتيجة الصرف اليومى لشركات البترول، حيث عانت 9 مواقع بحرية فى مياه البحر المتوسط والتى قامت وزارة البيئة برصدها من تلوث بكتيرى حاد، كان أكثرها حدة فى منطقة المكس- وفق التقرير- حيث بلغت نسبة الملوحة أدنى مستوياتها ووصلت إلى 12.9 فى الألف لكل لتر مياه (المعدل الطبيعى 35.5 فى الالف لكل لتر)، ووفق تأكيدات الباحث ربيع على إسماعيل بقسم الكيمياء البحرية والتلوث بالمعهد القومى لعلوم البحار لـ«إسكندرية اليوم» فإن نقص الملوحة فى المياه يعتبر تغيرا كبيرا فى البيئة البحرية نتيجة حدوث «تخفيف» للمياه المالحة لتغير خواصها الطبيعية مما يؤدى الى هروب أو نفوق الأسماك والكائنات البحرية وظهور كائنات أخرى تكون فى الغالب- وفق قوله- أشد ضرراً، مؤكدا أن نسبة الملوحة الطبيعية فى البحر المتوسط يجب أن تكون 35.5 فى الألف لكل لتر مياه.

نتائج الرصد البيئى التى قامت بها وزارة البيئة للمياه الساحلية للبحر المتوسط فى مايو الماضى أكدت تركز أنواع مختلفة من القمامة بكميات متفاوتة بلغت كثافتها القصوى فى شواطئ المكس، بالإضافة إلى وجود تلوث «برازى» شديد- حسب وصف التقرير- طوال العام فى منطقتى خليج المكس والدخيلة ويرجع ذلك إلى إلقاء مياه الصرف الصحى غير المعالج والمعالج جزئيا أو مياه الصرف الزراعى أو كليهما معا- وفق نتائج الرصد التى حصلت «إسكندرية اليوم» على نسخة منها- حيث أظهرت وجود تركيزات عالية من الأمونيا والنترات بسبب الأنشطة الصناعية فى المنطقة (يتركز فى الإسكندرية 40% من صناعة مصر بالإضافة إلى 60% من الصناعات البترولية أغلبها فى المكس).

الحالة الصحية للمياه يتم قياسها بالكثافة لأنواع معينة من البكتيريا المسببة للأمراض- حسب نتائج الرصد- مثل بكتيريا «القولون النموذجية» والبكتيريا «الكروية السبحية» وبكتيريا «الايشيرشيا كولاى» (نوع من البكتيريا الضارة التى تسبب حالات التسمم الغذائى وحالات الكوليرا حسب تأكيدات خبراء من المعهد القومى لعلوم البحار) وأظهرت النتائج ارتفاع نسبة تركيز بكتيريا الايشيرشيا كولاى فى مياه خليج المكس بنسبة 9000 ضعف المسموح به قانونيا، فى حين تخطت نسبة بكتيريا القولون النموذجية الحد الآمن بنسبة 7800 ضعف المسموح به وكانت البكتيريا الكروية السبحية بتركيز بلغ 280 ضعف المسموح به وفق قانون البيئة فى مصر والذى يؤكد أن الحد الأقصى للنوع الأول هو 500 وحدة لكل 100 مل مياه و100 وحدة لكل 100 مل مياه للأنواع الأخرى. وأشارت نتائج الدراسة إلى ارتفاع تركيزات الآمونيا والنترات والتى وصفها التقرير بأنها تركيزات ذات مستوى «عال» و«عال جدا» فى حين كانت نسبة الكلوروفيل الضار «عالية جدا» فى خليج المكس.

«إسكندرية اليوم» خاضت مغامرة على أحد القوارب الصغيرة داخل مياه المكس للتأكد من وجود صرف صناعى صادر من المنشآت البترولية التى تحيط الخليج من عدمه حيث تبين وجود ماسورة صرف مباشر على المياه خارجة من شركة الإسكندرية للبترول، وقبل تصويرها لاحظنا أحد العمال فتظاهرنا بإصلاح الموتور الخاص بالقارب، وما إن ابتعد حتى اقتربنا من مكان الصرف حيث غطت رائحة البنزين والمواد البترولية المكان وتكونت بعض «الرغاوى» البيضاء على سطح المياه ورفض مسؤولو الشركة إيضاح ماهية الماسورة إلا أن مصادر- رفضت ذكر اسمها - أكدت لنا أنها صرف لبقايا عمليات التكرير أو تسريبات فى المواسير، وكلاهما يمثل خطورة، وفق المصادر.

استكملنا رحلتنا داخل المياه وعلى بعد يقرب من 100 متر وجدنا ماسورة أخرى بقطر 60 سم تقريبا تلقى مادة بيضاء ذات رائحة نفاذة، وأكد الصيادون لـ«إسكندرية اليوم» أن الإنتاج السمكى من هذه المنطقة يرفضه المشترى بسبب رائحة الجاز والبنزين الواضحة على الأسماك، مؤكدين أن أغلبه يخرج من المياه نافقاً مما يدفعهم إلى بيعه لتجار الأعلاف لتجفيفه وطحنه وعمل مسحوق سمك منه.
محمود البرديسى، صياد فى الستينيات من عمره، يقول «منطقة المكس فريدة من نوعها حيث تمثل نقطة التقاء المياه العذبة بالمالحة، وهو ما يفترض وجود إنتاج سمكى كبير ومتنوع إلا أن العكس صحيح حيث تقوم أغلب الشركات بإلقاء مخلفاتها على المياه وتسبب رائحة كريهة».

شهران استغرقهما إعداد هذا التحقيق لقلة مصادر المعلومات، ورفض جهاز شؤون البيئة فى المحافظة الإدلاء بأى معلومات بحجة وجود تعليمات وزارية بمنع التعامل مع وسائل الإعلام إلا من خلال الوزارة فى القاهرة، إلا أن «إسكندرية اليوم» حصلت على مستندات صادرة عن وزارة البيئة، منها أحدث تقرير للتوصيف البيئى للمحافظة، الذى أكد وجود نقص حاد فى نسبة الأكسجين الذائب فى المياه، خاصة منطقة المكس والدخيلة نتيجة استقبالهم مياه الصرف بأنواعها.

ويؤكد التقرير أن منطقة المكس من أهم المناطق الصناعية فى المحافظة وتصرف المصانع مخلفاتها فى خليج المكس مباشرة دون معالجة ومن أهم الشركات الصناعات بالمنطقة- وفق التقرير- شركة مصر للكيماويات، وشركة إسكندرية للحديد والصلب، وشركة النصر لدباغة الجلود والمجازر، والصناعات البترولية من أهمها شركة الإسكندرية للبترول وشركة مصر للبترول والمنشآت البترولية الحديثة الأخرى، بالإضافة إلى وجود 46 مدبغة خاصة متمركزة فى منطقة المكس، وتقوم بصرف مخلفاتها الصناعية السائلة بما تحمله من ملوثات كيماوية ومعادن ثقيلة وملوثات أخرى دون معالجة، مما أثر بالسلب على نوعية المياه، وأصبحت تمثل «بؤرة شديدة للتلوث».

يقول مجدى عيسى- صياد- المياه أصبحت ملوثة جدا وخلال تواجدى فى البحيرة لمدة تزيد على 55 عاماً لم أر فى حياتى حجم التلوث الهائل فى المياه الموجود الآن، مؤكدا أن طفو البقع الزيتيه على المياه يمنعهم من إلقاء شباكهم خوفا من تلفها.

ويضيف «أحياناً تخرج لنا الأسماك بها رائحة جاز، وعندما نتناولها نشعر بطعم غريب لم نعتده، بالإضافة إلى وجود تجمعات سوداء فى أحشاء الأسماك، خاصة البلطى».

الدكتور عبدالفتاح محمد، أستاذ بيولوجيا الأسماك والمصايد، يقول: جميع المصارف والبحيرات فى مصر تحتوى على نسبة مختلفة من الملوثات والمعادن الثقيلة، ومنطقة المكس تمثل حالة خاصة نظرا لتمركز أغلب الصناعات فيها خاصة الصناعات البترولية، مشيرا إلى إنتاج مصر السمكى عام 2008 من أسماك البلطى بلغ مليوناً و67 ألف طن إلا أنه قل هذا العام لنسبة تقل عن المليون طن بسب التلوث وإلقاء مشتقات البترول التى دفعت الأسماك للهروب ونفوق بعضها.

وأضاف «زيادة العناصر الثقيلة فى المياه مثل الحديد والزنك والكبريت والرصاص ومشتقات الفينول البترولية تسبب أمراض السرطان والفشل الكلوى، بالإضافة إلى حدوث شلل، خاصة فى حالة زيادة تركيزات الفينول، لأن هذه العناصر تتركز وتترسب فى لحوم الأسماك، ومن المستحيل إزالتها مما يضر بصحة من يتناولها، وقد تؤدى إلى الوفاة.

ولفت إلى دراسة قام بها على مجتمع الصيادين فى منطقة خليج المكس لمعرفة مدى ترسب العناصر الثقيلة فى أجسامهم، حيث أظهرت النتائج زيادة معدلات الرصاص والزئبق بشكل كبير، مما يؤثر على معدلات النمو والذكاء وقدرات الاستيعاب.

ويؤكد الباحث ربيع على إسماعيل، بقسم علوم الكيمياء البحرية والتلوث بالمعهد القومى لعلوم البحار، أن زيادة نسبة الكلوروفيل فى مياه خليج المكس تؤدى إلى عزل المياه عن ضوء الشمس، مما يؤدى إلى هلاك الثروة المائية الموجودة بها، بالإضافة الى خلق كائنات أخرى أكثر ضررا على البيئة البحرية.

وأضاف «بكتيريا (الإيشيرشيا كولاى) التى أظهرت نتائج الرصد البيئى زيادتها بنسبة 9000 ضعف المسموح به- تعنى أن هناك ملوثاً كبيراً دخل على المياه أدى إلى زيادة نسبة هذه البكتيريا بشكل يفوق الحدود الآمنة». وقال «مياه المكس تستقبل- وفق دراسة قام بها- مياه الصرف الزراعى والصحى والصناعى، بالإضافة إلى مواد المنظفات الغنية بالفسفور والنترات مما يزيد من إنتاجية الهائمات، والكلوروفيل الذى يترسب على السطح فى شكل كساء خضرى يعزل المياه عن ضوء الشمس ويهدد الحياه بها.

وأضاف «البكتيريا الكروية السبحية الموجودة فى المياه تفرز مواد سامة فى المياه تسبب فشل كلوى نتيجة عجز الجسم عن التعامل معها، كما تسبب أمراضا سرطانية بالإضافة لتأثيراتها الضارة على الكبد».
وأكد أن نقص الأكسجين الذائب فى المياه يؤدى إلى نفوق جماعى للأسماك والكائنات الحية الموجودة بخليج المكس

 

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية