على بُعد خطوات من مزلقان «خورشيد»، تمتزج رائحة الدم بالهواء، وتفترش ملابس لسيدات ورجال وصغار وفردة حذاء واحدة هنا وهناك، فيما لطخت الدماء «ببرونة» لبن لرضيع صغير كان يستقل القطار مع أمه، أثارت الحزن بشكل كبير بين الحاضرين، وتراصّت أجزاء عربات القطار المحطمة بشكل عشوائى على يمين القضبان.
هنا يخيم الحزن على أهالى العزبة الصغيرة، صمت يسكن المنطقة، يقطعه صوت «صاروخ»، تتطاير منه الشظايا لفصل عربات القطار المحطمة، وخلية نحل من العاملين بهيئة السكك الحديدية، بإشراف من قيادات الجيش، يسابقون الزمن لرفع عربات القطارين للسماح بمرور القطارات.. هنا انتهت حياة نحو 42 شخصا، فى حادث تصادم قطارى رقمى «13، إكسبريس القاهرة- الإسكندرية» و571 «بورسعيد- الإسكندرية».
كعادتها اليومية، صعدت «أم هشام»، إحدى أهالى عزبة «خورشيد» إلى سطوح منزلها، عقب صلاة الجمعة، والذى يبتعد عن سور المزلقان بخطوات معدودة، إلا أنها سمعت صوت ارتطام قوى هز المنطقة بأكملها، فألقت بنظرها إلى الخارج لتفاجأ بتصادم قطارين على قضبان السكك الحديدية، وتطاير إحدى عرباتهما، لتصرخ السيدة الأربعينية بأعلى صوتها، وتجرى مسرعة إلى مكان الحادث، وتفاجأ بسقوط العشرات من الضحايا والمصابين.
لم يجد أهالى عزبة «خورشيد» أمامهم وسيلة لإنقاذ المصابين قبل وصول سيارات الإسعاف والشرطة سوى الاستعانة بعامل لحام، استخدم «صاروخا»، فى محاولة منه لقطع حديد عربات القطار، بينما سارعت سيدات القرية بجمع البطاطين والملاءات والأغطية البالية من أجل ستر جثث المتوفين وأشلائهم المتناثرة تحت عربات القطار وأعلى القضبان الحديدية.
«المصرى اليوم» قضت ليلة كاملة فى مكان الحادث، بدأت من الساعة 9 مساءً حتى نهار اليوم التالى، لرصد عملية رفع عربات القطارين المتصادمين، ورصدت استخدام أدوات بدائية فى عمليات الرفع، ما تسبب فى إصابة ميكانيكى، يُدعى «أحمد»، بقطع حاد فى إصبع يده اليمنى، إلا أنه رفض التوقف عن العمل، واكتفى بربطه بقطعة بالية من القماش، واستكمل عمله فى فصل عربات القطار، ولجأ العاملون بهيئة السكك الحديدية إلى وضع عدد من الكشافات المضيئة لإنارة مكان الحادث، وونش كبير خاص بهيئة السكك الحديدية لرفع كابينة سائق القطار، الذى خرج عن شريط القضبان، ومجموعة من الحبال الغليظة والمعقدة بشكل يصعب فكها.
تحدث «أحمد»، ميكانيكى، أحد المشاركين فى عملية رفع حطام عربات القطار، ويده تقطر دما، بعد قطع إحدى أصابعه، قائلاً: «أعمل فى هيئة السكك الحديدية منذ 27 عاما، وشاركت أكثر من مرة فى عمليات رفع العربات فى حوادث القطارات، بداية من حادث قطار قليوب عام 2006 مرورا بحادث العياط، إلا أننى لم أرَ بشاعة مثل هذا الحادث منذ 11 عاما، فصور الجثث والمصابين لا يحتملها إنسان، ونحن وصلنا بعد الحادث بنصف الساعة، ووجدنا مساعدات من أهالى العزبة لإنقاذ المصابين ونقلهم إلى سيارات الإسعاف، إلا أن هناك 3 عربات قطار كان من الصعب التعامل معها بشكل عشوائى، وهى العربات التى كانت بها أكبر نسبة من الوفيات، وحرصنا قبل البدء فى عملنا على إخلاء المكان من الجثث والمصابين، واستمر هذا العمل حتى الساعة السابعة مساءً تقريبا».
وكان أفراد من الجيش قد شاركوا فى عمليات البحث والإنقاذ، وتوافدوا فى الساعات الأولى من وقوع الحادث، وحرصوا على الوقوف مع العاملين بهيئة السكك الحديدية، بجانب توزيع وجبات غذائية على العاملين، وهو الأمر الذى يراه محمد أمين، أحد العاملين بهيئة السكك الحديدية، حافزا لسرعة إنهاء عمليات رفع عربات القطار.
«نسارع الزمن، وقلوبنا موجوعة زى الأهالى»، بهذه الكلمات وصف «محمود»، ميكانيكى بهيئة السكك الحديدية، أحد المشاركين فى عملية رفع حطام الحادث، حال المشاركين فى عملية الرفع.
وأضاف «محمود»: «من أكثر الصعوبات التى نقابلها فى حوادث قطارات السكك الحديدية عنصر الوقت، فكل ثانية محسوبة علينا، خاصة أن هذه الحادثة لها وضع مختلف، فخط الإسكندرية خط حيوى تسير عليه القطارات بشكل منتظم، والتأخر فى رفع القطارين المتصادمين يمثل خسارة فادحة لهيئة السكك الحديدية، وبعد وقوع الحادث تم إلغاء جميع رحلات القطارات المتجهة إلى الإسكندرية لانشغال الخطوط، لذلك كل تأخير محسوب علينا، وفى الوقت نفسه نقابل مشاهد مؤلمة، خاصة الوفيات من الأطفال، إلا أننا نحاول استكمال عملنا، بحيث لا يؤثر ذلك على مسيرة العمل».
استراحة قصيرة للعاملين فى رفع الجرار وعربات القطار، تناولوا خلالها وجبة غذائية، ليبدأوا عملهم بعدها فى رفع جرار القطار، الذى استغرق رفعه 75 دقيقة كاملة، استعانوا فيها بونش السكة الحديد، وحاولوا فيها أكثر من مرة تأمين الجرار بصورة صحيحة، خوفا من سقوطه بشكل خاطئ.
والتقطت «المصرى اليوم» مجموعة صور لعربات القطارين، والتى تُظهر تهالكها، وهو ما أكده أحد العاملين بهيئة السكك الحديدية، مضيفاً: «نعانى تدهور حال عربات القطارات المميزة، فنظرة واحدة لها لا تتطلب خبيرا للكشف عن عدم إجراء صيانة لها، فالجرارات تجاوز عمرها 40 عاما، ولم تعد قادرة على الجر، أما عربات القطار فتجاوز عمرها 35 عاما، والهيئة لا تتبع أى إجراءات أمن وسلامة من خلال السيمافورات والمزلقانات، لذلك لن يتوقف نزيف حوادث القطارات مادامت الهيئة لا تطور من نفسها».