كانت طائرتان هليكوبتر قد غادرتا للتو عندما وصلنا لحدود مدينة راس لانوف النفطية – 360 كم من بنغازى – مرت الطائرتان دون أن تقصفا أى هدف، هربتا من طلقات مدافع «م ط» المضادات للطائرات المنتشرة بصورة كبيرة فوق عشرات من السيارات نصف النقل على طول الطريق من بنغازى وحتى راس لانوف.
تبدو المدينة النفطية مثل مدينة الأشباح هجرها الجميع بعد أن مرت بليلة عاصفة تناوبت السيطرة عليها الكتائب الأمنية تارة وقوات الثوار مرات عديدة حتى أحكم المعارضون السيطرة على المدينة الصغيرة وطوروا قتالهم إلى حدود مدينة سرت معقل عائلة القذافى والمدخل الأساسى للعاصمة طرابلس. فى الطريق إلى «راس لانوف» التى شهدت أعنف أعمال القتال كانت سيارات الإسعاف تهرول بعدما وصل عدد القتلى إلى 17 حسب التقديرات المبدئية.
الطريق إلى لانوف تؤمنه سيارات تحمل مدافع مضادة للطائرات وأسلحة نصف ثقيلة و«آر.بى.جى» وتسير فى دوريات مستمرة لضمان أمن الطريق والمقاتلين المتنقلين إلى الجبهة الأمامية.
عند المدخل الغربى لمدينة أجدابيا أولى المدن التى قابلتنا بعد بنغازى وتبعد عنها 160 كيلو كان طابور طويل من السيارات التى تحمل الشبان المتجهين إلى الجبهة، تقف فى انتظار دورها فى العبور، تقدم إلينا أحد المقاتلين الشباب بزى عسكرى - واضح أنه لا يخصه – استولى الشباب على الملابس العسكرية من معسكرات الكتائب، وتحول الزى العسكرى هنا إلى موضة الكل يتسابق على ارتدائه، حتى الأطفال، تقدم إلينا الشاب المبتسم مطمئنا لنا بأن الطريق إلى راس لانوف آمن وقال بمرح واضح «اعبروا هنا أجدابيا ممر المجاهدين ومعبر المقاتلين» كانت مدينة أجدابيا قد شهدت هى الأخرى قتالاً عنيفاً انتهى مثل كل أعمال القتال بانتصار الثوار وانسحاب كتائب القذافى بعد أن قصفت مخزناً للأسلحة غرب أجدابيا وهو ما أكده لنا عبدالعال المراجة قائلاً: «قصفت قوات القذافى مخزن السلاح ولم تقصف أى منطقة مدنية»، عبدالعال الذى كان عائدا لتوة من راس لانوف وصف لنا القتال فى الليلة بأنه كان عنيفاً جداً، وأكد أنه كان من أوائل الذين دخلوا إلى معسكر الكتبية الأمنية فى راس لانوف وشاهد إعدام رجال القذافى للجنود والضباط الذين رفضوا القتال قائلاً: شاهدت ضابطا مقيداً ومضروباً بالرصاص فى رأسه واضح أنها كانت عملية إعدام واضحة، وأضاف: أعدم فى هذا المعسكر 20 شخصا من قبيلة الفرجان فى سرت بعدما رفضوا أن ينفذوا أوامر قتل الليبيين، وهو ما دعا أبناء الفرجان إلى الدخول فى مواجهات عنيفة مع أبناء قبيلة القذاذفة – قبيلة القذافى – فى سرت، وأضاف أن هذا الصراع جعل الفرجان ينضمون إلينا، وهو ما سيسهل لنا اقتحام سرت.
وأضاف مقاتل آخر - رفض ذكر اسمه - أن القذافى الذى حاول إشعال الفتنة بين القبائل احترق هو بها وقد كان يضع فى المواجهة أمامنا أبناء القبائل الشرقية ويختفى أقاربه وأبناء الغرب فى الصفوف الخلفية ليجعل من أبناء الشرق حائط سد له. تركنا أجدابيا واتجهنا خلف رتل من السيارات نصف النقل والجيش التى تحمل الثوار إلى راس لانوف، كانت علامات النصر هى لغة الإشارة الوحيدة المعترف بها على هذا الطريق الطويل الذى يبلغ 85 كيلو حتى مدينة البريقة البترولية المحطة الثانية فى رحلة الوصول إلى راس لانوف، كان الوضع فى البريقة اكثر حدة وسخونة.
المقاتلون الذى يرابطون عند مدخل المدينة الغربى وآخر محطة قبل راس لانوف الدائر بها القتال لا يسمحون لأحد بالدخول إلى المدينة أو الخروج إلا عندما يتأكدون منه، كان الخوف من أن يتسرب إلى داخل المدينة أحد أتباع القذافى هاربا من المعارك ومتخفيا أمرا واردا، ومثلما كان الموقف عند مدخل أجدابيا كان عند المدخل الغربى للبريقة مئات من الشباب المتحمس يتخذ طريقه إلى مكان المعركة، نفس الحماس نفس الابتسام ونفس الأقدام على القتال بروح مرتفعة، كنا طوال الطريق من البريقة إلى راس لانوف -220 كيلو – نتبادل علامات النصر مع المقاتلين الواثقين فى الفوز، قبل أن نصل إلى راس لانوف بحوالى 8 كيلو كانت آثار المعركة تبدو واضحة، أتوبيس وسيارتان متفحمة ويقف بجوارها اثنان من المقاتلين قالا لنا نحن من فجرنا هذا كان بها عشرات من المرتزقة، سألته إن كانوا قد أسروا أياً منهم؟ قال نعم هناك حوالى 23 مرتزقاً أخذناهم أسرى لكنهم محبوسون فى الكمين الذى يلينا، واصلنا سيرنا نحو مدخل المدينة الذى كان خاليا إلا من بعض آثار قتال عنيف قد دار طوال الليل، تجاوزنا مدخل مدينة راس لانوف بحوالى عشرة كيلومترات حتى وجدنا كتيبة من 15 سيارة وعشرات الجنود تصل إلى منطقة بها كافيتريا مهجورة، نزل الجنود بسرعة وانتشروا فى المكان وأمنوه وقال قائد الكتيبة: «كنا هنا بالأمس وكان هناك قتال عنيف جدا وغادرنا المكان بعد أن أخليناه من كل أتباع القذافى لكننا نعود كل فترة لنتأكد أنه لا وجود لأى من أذنابه» بعد تأمين المقاتلين المكان توضأوا وصلوا الظهر وكانت قد وصلت خلفهم سيارة نصف نقل تحمل كراتين المياه المعدنية للمقاتلين، سائق السيارة رفض أن يذكر اسمه، وقال «إن هؤلاء المقاتلين فى الصحراء يحتاجون للمياه وللطعام، وهناك متطوعون مثلى يسيرون خلفهم نقدم لهم المياه والطعام، فهم يقاتلون من أجلنا كلنا وإن كنت لا أستطيع أن أقاتل فإن أبسط شىء أن أخدم هؤلاء الأبطال»، وبينما انتهى معظم الجنود من أداء الصلاة كان عبدالباسط أبوبكر، ابن مدينة البيضا، يجلس على الأرض وحيدا عندما اقتربت منه قال بصوت عالٍ ومنفعل «انقل صوتنا للعالم قل لهم إننا نطالب المجتمع الدولى بأن يتدخل ويفرض حظرا جويا على ليبيا، وعلى الأرض نحن لهم وسننتصر عليهم لكن ماذا نفعل مع الطائرات»، صمت الرجل المنفعل قليلاً وأكمل: «لا يكفى تعاطف العالم مع الشعب الأعزل يجب أن يتدخلوا بدور مهم لا نريد لأحد أن يقاتل عنا لكننا نبغى فقط حظراً جوياً لنواجههم على الأرض ونحن لهم ونقدر عليهم». صمت الرجل متأثراً منفعلاً وأكمل آخر: «نحن جاهزون ومستعدون وعندنا مبدأ يعرفه الجميع (نحن نقاتل إما نموت أو ننتصر)».
انتهى الرجال من تأمين الموقع وقرروا أن يتقدموا إلى الأمام لتأمين المواقع الأخرى على الجبهة الأمامية، مطالبين منا أن نظل خلفهم بثلاثة كيلومترات على الأقل لأن المنطقة هنا شديدة الخطورة، وعندما سألتهم فى أى منطقة ستتوقفون قالوا جميعاً: «فى طرابلس».