«سيدي الأستاذ النابغة.. محسوبك كاتب هذا- الأسطى حنفي أبو محمود- من كان له الشرف في أن يقلك في عربته مرارا إما منفردا أو مع زمرة من إخوانك ومحبيك يرجوك ويتوسل إليك أن تكتب له كلمه صغيرة يضعها في مقدمة مذكراته التي ظن بعضهم أنها جديرة بنشرها».
بهذه الكلمات صدر الحوذي «حنفي» رسالته إلى الصحفي فكري بك أباظة في ثلاثينيات القرن الماضي طالبا مساعدته في نشر مذكراته. فما كان من الكاتب إلا أن أرسل إليه مبلغا ماديا كمساهمة في نشر المذكرات ومقدمة ما كتب فيها «أي عزيزي الأسطى أن أمة حوذيتها مثلك لجديرة بأن تركض ركضا و«تربع» إلى مطامعها لا تلوي على شيء في الطريق. أني لفي غاية الشوق إلى كتابك فييا وحضر الملازم فينتفع الجمهور وأنا في انتظارك فلا تتأخر علي».
نشرت المذكرات في عام 1931 في جريدة الكشكول علي شكل حلقات ضمتها دفتي كتاب فيما بعد، وعلي الرغم من أن كاتبها يعمل سائق «حنطور» إلا أن لغته اتسمت في الغالب بالجودة ورؤيته للواقع الذي يعيشه المجتمع المصري وقتها بالعمق. وهو ما أرجعه الأسطي حنفي إلى إقباله منذ الصغر على القراءة واهتمامه بالشأن العام. هذا الاهتمام كان يسبب له القلق في كثير من الأحيان فيقول «إنني كثيرا ما كنت أهم بالمناقشة مع بعض الزبائن أيام الاضطرابات والاضرابات تلك الأيام التي كنا نحن العربجية نسمع بها كل ساعة رأيا على اختلاف المبادئ والنزعات لولا خوفي أولا من عمال قلم المرور ورذالة سحب الرخصة والنتائج التي تجرها علي رأس مسكين مثلي من (تفويت وغيره) وثانيا اعتقالي ومحاكمتي وسجني ولا من شاف ولا من دري».
الإضرابات التي تحدث عنها «أبو محمود» هنا هى إضرابات عمال الترام التي تحدث عنها في الحلقة الثانية من المذكرات قائلا «كانت إضرابات الترام ربيع أيامنا. فيها كان محسوبك الأسطى حنفي زايط لأن الشغل ماشي والحالة (فل) ولم نكن قد فوجئنا بمضائب الأوتومبيل التاكسي وتزانيقه اللي زي الهباب وثانيا لأني بصفي صاحب عَجَلَ في البلد (كان يمتلك أكثر من حنطور) كنت أفتخر إذا ركب معي بعض كبار رجالاتنا إلي بيت الأمة أو إلي كلوب محمد علي. فحفظت في هذه الأوقات أسماء معظمهم على حسب الجودة في التوصيلة أو علي حسب الخلقة والسحنة».
ولا يكتفي الأسطي حنفي بذكر حال العربجية أيام الاضرابات وانما ينتقل بعربته إلي أمام بيت الأمة لينقل لنا وصف الوضع هناك فيقول: «هذه الأوقات كان بيت الأمة محط الترحال وشارع الرئيس المحبوب موقف مختلط من عربات الأجرة وأوتومبيلات خصوصية وعربات ملاكي وقد اختلط صوت النفير بصوت الزمامير. وبين هذا المجموع الهائل الذي كان يعدو ويروح كانت عربة الدكتور محجوب بحصانها (القروشي) كالزنبلك لا تهدأ دقيقة واحدة في خدمة الوفد وزوار بيت الأمة وطلبة المدارس». حتى أن الأمر وصل بالمسؤولين في بيت الأمة إلي دفع أجرة بعض الزوار وهو ما يقول عنه «وهكذا كان بيت الأمة يدفع مال الأمة لجدعان القضية الوطنية حتى أجرة عرباتهم».
لم يكتف الأسطى حنفي بالنظر إلي الواقع المصري السياسي من الخارج وإنما نظر إليه بعين فيها بعض التحليل راصدا التحول في موقف بعض رجال السياسية في هذا الوقت فيتحدث عن أحمد بك الشيخ «بطل مجلس مديرية في إقليم الغربية» واصفا إياه بأنه «وصل إلي رتبته عن طريق مجلس المديرية وعرف كيف يظهر علي صفحات جريدة الأهرام باللت والعجن وأخيرا بالدخول في غمار «ليحيى الاستقلال). ابتدأت حياته السياسية بـ(لا رئيس إلا سعد) ثم تحول قليلا إلي صيحته (عدلي فوق الجميع) ثم ظهر في خطبته بعد ذلك أن (لا حياة إلا لثروت) وهناك وقف لآن التالتة تابته والله أعلم أن المسألة ستنتهي علي ما يري نظري القصير بـ(لا رئيس إلا ما تقتضيه الأحوال).
قراءة أسطى حنفي للواقع لم تتوقف عند جانب المعارضة وإنما امتدت لتشمل حاشية الملك والجنود البريطانيين الذين يقول عنهم «جنود جلالة الملك أراحنا الله من توصيلاتهم وكره هذه البلاد في نظرهم وحنن عليهم بالمراكب التي تحملهم وجنودهم إلى بلادهم. ورجال البوليس المصري الذين اعتادوا قبول الرشاوي لتجاوز المخالفات فيقول «ولا أراك الله أيها القارئ الكريم الحوادق التي تقلب بغم وربنا ما يوقعك في يد البوليس الأطارف. فكثيرا ما تتفق قلة الحوادث مع قلة الأدب فيضطر إما أن يأخذ إجراءاته أو يأخذ .... وتنتهي الحادث على خير وسلامة». هذه النقط أكملها فيما بعد بما حدث بعد أن أوقف حارس «الآداب العمومية» شابا وفتاة في العربية التي يقودها لمخالفتهما تلك الآداب قائلا «ووجدنا الحل النهائي للمسألة في ورقة ذات لون غير أبيض أخرجها صاحبي من جيبه وأوصلها إلي يد حارس الآداب العمومية بلطافة فجاءت كبرشامة الكالمين عقب هياج حاد هدأت بعدها أعصابه فقال: (لكن ده مش كويس أبدا.. سوج بجي يا أسطي من هنا) فسرت وانا أقول في نفسي ليحيا العدل».
هذه النظرة للموقف الوطني لحزب الوفد والملك وحاشيته ورجال البوليس المصري دفعت الكثيرين إلى التشكيك في أن كاتب هذه المذكرات هو فكري بك أباظة نفسه وأنه اخترع شخصية الأسطى حنفي للكتابة باسم مستعار ولكن أحدهم لم يستطع أن يثبت صحة كلامه وظلت المذكرات منسوبة لـ«أبو محمود». وتكشف لنا تلك المذكرات في شقها السياسي أن الواقع المصري لم يصبه الكثير من التغير فمازال متسلقو الواقع السياسي والمتنقلون بين التيارات موجودين حتى الآن. واستبدل حاشية الملك وجنود الاحتلال والبوليس بآخرين يقومون بنفس الدور. وتكشف القراءة الكاملة للمذكرات أن الحال لم يتغير في مختلف المجالات، ففي المجال الاجتماعي كان الشباب وقتها يستخدمون مترادفات مختلفة في اللغة (وقتها) كما يفعلون الآن فيصف حاله عند سماع حوار بين عاشقين من الشباب قائلا: «وفي أثناء الحديث يا حضرة القارئ تمر علي ألفاظ جديدة في اللغة فاسمعها تقول له (حبوب) و(توتو) وهو يقول (قطقوطة) ولا أفهم لها معنى ولكني علمت أن لكل مقام مقال».
ولم يختلف الأمر كثيرا في الأزمات الاقتصادية، فيقول الأسطى حنفي عن حال الأثرياء في ظل أحد الأزمات المالية الكبري «يظن أسيادنا الأغنياء أن الأزمة لا تأثير لها إلا علي طبقتهم، وليه؟ لأنهم كما أظن ويفهم عقلي الصغير يرون أننا بجانبهم حشرات صغيرة تعيش بطبيعة الحال على وتيرة واحدة وحاجياتنا قليلة وبالاختصار نحن عندهم أقل في التقدير من حيواناتهم. ولكن وحق من خلقك ماحد بيطرش الدم إلا محاسيبك يا سيدي القارئ إذا اشتدت الأزمة وكشر الدهر عن نابه الأزرق».
عند قراءة هذه المذكرات فإن ما يمكن القول بأنه شهد تغيرا كبيرا هو «المعاكسة» التي تحولت في زمننا الحاضر إلى «تحرش»، فيمكنك أن تترحم علي «الزمن الجميل» عندما يسرد الأسطى حوارا دار بين شاب ومجموعة من الفتيات وأمهن يركبن العربة ويمررن بجوار إحدى المظاهرات. لقاء الأعين والحوار الذي ينتقل بعدها إلى الشفاة وسط الحشد المتظاهر فيهتف الحشد:
ليحيا الاستقلال
ويقول الشاب «عاوز أكلمك عايز أشوفك»، ويستمر الحوار بين الشاب والفتاة والحشد يهتف في الخلفية
لتحيا السيدة المصرية
كلمني في التليفون
ليحيا الوفد المصري
نمرة التليفون كام؟
وفي هذه اللحظة تلاحظ الأم ما يجري، فتتحايل إحدى الفتيات على أمها وتبلغ الشاب رقم التليفون قائلة «الله يا أبلة نمرة العربجي زى نمرة تليفوننا بس بدال الخمسة تلاتة».