يتطرق الكاتب الكبير محمد سلماوى، فى الجزء الثانى من حواره مع «المصرى اليوم»، إلى بعض القضايا المهمة خارجياً وداخلياً، حيث قال إن مصر والإمارات والسعودية تؤسس لبداية تضامن عربى جديد لمواجهة المشاكل الطاحنة التى تضرب المنطقة، ونأمل أن تنضم له باقى القوى العربية، مشيراً إلى أن أمريكا تلعب بالأزمة الخليجية للاستيلاء على أموال الطرفين، وقد حققت مكاسب كبرى من هذه المشكلات، لافتا إلى أنه قد آن الأوان لاتخاذ موقف ضد قطر لسياستها المارقة لدعمها الإرهاب، لكن إدارة هذه المعركة تتم بشكل خاطئ من قبل دول المقاطعة. واعتبر أن غياب جامعة الدول العربية أتاح للغرب الاستفادة من خلافات العرب متوقعا أن يعود التضامن العربى عن طريق مصر والإمارات والسعودية.
وعلى الصعيد الداخلى، أكد سلماوى أن الإخوان لن يعودوا لحكم مصر مرة ثانية وأن ما يقال عن المصالحة بين الدولة والجماعة غير وارد حاليا على الإطلاق.
ووصف الخطاب الدينى الحالى بأنه متخلف، وشكك فى قدرة المؤسسات الدينية على تجديده، مبرراً بأنها تقوم بتفريخ السلفيين والإخوان للمجتمع، قائلا: «إن أكشاك توزيع الفتاوى الدينية بمحطات المترو والمواصلات تؤكد عجز وفشل تلك المؤسسات فى عملها وتدعو للرثاء». وهاجم الإعلام مرددا «عياره فلت» وأصبح مناهضا للسماحة وقبول الآخر، منتقدا الدولة بسبب عدم احتضانها للقوى الناعمة الهائلة الموجودة فى مصر، والتى يمكن أن تخدم الصالح الوطنى.. وإلى نص الحوار:
■ فى البداية كيف ترى علاقات مصر بالخارج؟
يوجد مستويان لعلاقاتنا بالدول الأخرى الأول يتمثل فى العمل السياسى ويتم بين المسؤولين وقد شهد تطورا كبيرا فى الفترة الأخيرة، وما يحدث حاليا يؤكد أن التعامل الخارجى على مستوى الرئاسة جيد جدا، وقد توثقت علاقات مصر بالدول الكبرى بشكل لم يحدت منذ قيام الثورة، أما النوع الثانى من العلاقات فهو ذلك الذى يعتمد على القوى الناعمة وتقوم بها النخبة على مستوى الثقافة والصحافة والإعلام والأدب والفن، وهؤلاء من المفروض أن يقدموا صورة مشرقة وجميلة لبلدانهم فى الخارج، وهذا يحدث حين تكون الدولة مدركة بالفعل لقيمة القوى الناعمة فتتمكن من أن تحقق من خلالها ما قد لا تحققه بالسياسة، وقد كان هذا هو الوضع السائد فى فترة الستينيات على سبيل المثال، حين غزت مصر المنطقة العربية كلها وآسيا وأفريقيا ليس بالدبابة أو المدفع، وإنما بالكتاب والأغنية والفيلم السينمائى، حيث كانت القوى الناعمة موظفة توظيفا جيدا وحين انطلق صوت أم كلثوم من مسرح الأولمبيا الشهير بقلب باريس لم يكن ذلك بمحض الصدفة، وإنما جاء على قاعدة متينة من التأييد والدعم الرسميين، وقد لا يعرف البعض الدور الذى لعبه الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة آنذاك، فى إتمام ذلك الحدث، فهو الذى اقترح على برونو كوكاتريكس مدير الأولمبيا استضافة أم كلثوم، لأنه كان يعرف ماذا سيحقق هذا لمصر، ولقد شاهدت بنفسى وقتها كيف انطلق صوتها بعد أشهر قليلة من انتهاء حرب يونيو، فغير صورتنا أمام العالم وتحول اهتمام الصحف العالمية من الهزيمة العسكرية إلى ذلك الانتصار الباهر للقوى الناعمة لمصر، وظلت الصحافة الفرنسية والإعلام يتحدثان عنه طويلا، وكتبت إحدى الصحف يومها «عبد الناصر يدك باريس بأقوى قذيفة فى ترسانته الوطنية!»، لكنى للأسف أجد الدولة الآن غافلة تماما عن قوة مصر الحقيقية، والتى يمكن أن تغير من أى صور سلبية لنا فى الخارج.
■ ولماذا لا تقوم القوة الناعمة لمصر بهذا الدور؟
- هذا دور الدولة فهى قائدة الجيش والقوى الناعمة هى كتيبة متقدمة فى جيشها، لذلك عليها أن تحتضن تلك القوى التى لا تملكها بعض الدول الأخرى، وتقدم الدعم الكافى لها، ومع ذلك فالنخبة ليست مقصرة، ولكن هى مسألة تنظيم، وجميعا نعرف أن بلدنا زاخر بالإمكانيات الثقافية، فعدد الكتاب المصريين الذين يتمتعون بسمعة دولية لا يمكن تجاهله، وكل كتاب يترجم فى الخارج لكاتب مصرى هو سلاح مؤثر يواجه بشكل غير مباشر الحرب الإعلامية ضدنا، وبالتاريخ رموز وعظماء الوطن الذين شهد لهم العالم بإبداعات نادرة، وانظر إلى ما فعله المثقفون حين اعتصموا بوزارة الثقافة، ومنعوا دخول الوزير الذى عينه الإخوان، وأيضا اتحاد الكتاب حين عقد جمعية عمومية غير عادية، وأعلن أن كتاب مصر يسحبون الثقة من رئيس الجمهورية فى سابقة لم تشهدها مصر من قبل، ولقد حزنت حين حضرت أخيرا فى دبى وتحديدا فى صالة كريستى الشهيرة حدثا ثقافيا مصريا على درجة كبيرة من الأهمية كانت مصر غائبة عنه، وهو صدور catalogue raisonné لرائد الفن التشكيلى المصرى الحديث محمود سعيد أى الكتاب المرجع لجميع أعماله، وهو حدث لأول مرة، وهذا فى عالم الفن التشكيلى حدث ضخم، لأنه لا يصدر إلا عن كبار الفنانين فى العالم، وسعيد هو أول فنان فى الشرق الأوسط يصدر عنه مثل هذا الكتالوج، وقد عقدت لذلك ندوة كبرى شرفت بأن دعيت لإدارتها، بيع خلالها الكتاب بمئات الدولارات، كما عقد مزاد علنى تضمن بعض لوحات الفنان التى بيعت بالملايين، لقد كان هذا الحدث مصريا خالصا لكن الذين قاموا به كانوا آخرين غيرنا حققوا من ورائه أرباحا كبيرة، تخيل لو أن هذا الاحتفال الذى حضره صفوة المجتمع الدولى تم فى القاهرة.
■ هناك تحديات تواجه مصر منها مشكلة سد النهضة.. ما تقييمك للتعامل معها؟
- هى أزمة سياسة فى المقام الأول، وليست أزمة مياه، فمصر لديها ما يضمن تلبية احتياجاتها من المياه التى تكفيها لسنوات، وما أشيع من أننا أصبحنا فى خطر محدق بعد بناء إثيوبيا للسد كلام مبالغ فيه بدرجة كبيرة، لأن السد فى حد ذاته لا يمثل تهديدا خطيرا لمصر، وإنما الخطر الحقيقى هو التبذير الذى تعودنا عليه فى استخدامنا للمياه، حتى إننا ما زلنا نتبع رى الغمر، الذى أقلع عنه الكثير من دول العالم وخطر ارتفاع منسوب المياه الجوفية وزيادة ملوحة هذه المياه أشد خطرا علينا من سد النهضة، ومن واجب الحكومة أن تبصر الفلاحين بذلك، لكننا وجدناها تجعجع بمهاجمة السد دون أن تقوم بواجبها فى البحث والدراسة، والحقيقة أن مشكلة سد النهضة تمت إدارتها سياسيا بشكل خاطئ من البداية، وقد شاهدنا تلك الجلسة العبثية الشهيرة التى عقدت أثناء حكم الإخوان ورأسها رئيس الجمهورية نفسه، فقد دلت على أن الدولة لم يكن لديها أى استراتيجية حول هذا الموضوع، وسمعنا فى الجلسة التى أذيعت على الهواء عن طريق الخطأ، من يطالب بدك السد بالقنابل! ومن يقترح رشوة الإثيوبيين! وآخر قال نرسل لهم أبوتريكة، وكان من الواجب أن يكون التعامل مع هذا الملف لا على أساس منع إقامة السد، ولكن على أساس حفظ حقوق مصر التاريخية فى حصص المياه، لأن من حق الدول أن تبنى سدودا، فنحن لدينا السد العالى، وكان من الممكن أن نعرض مساعدة إثيوبيا بخبراتنا فى هذا المجال، بدلا من أن نترك ذلك لإسرائيل كما حدث. وفى هذا الصدد دعنى أقُل لك إننا تركنا الكثير من المجالات الحيوية ودوائر نفوذنا لإسرائيل وأصبحنا نجد من العرب من يقول إنه ليس لديه مشكلة مباشرة مع إسرائيل (!!!) وكأنها ليست العدو الحقيقى لنا.
■ لقد اضطلعت برئاسة تحرير أكثر من جريدة من قبل، كما كنت بعد الثورة الوكيل الأول للمجلس الأعلى للصحافة، فهل أنت راضٍ عن أداء الإعلام فى الوقت الحالى؟
- بالطبع لا لقد انفلت عيار الإعلام بسبب الحرية التى وجدت فيه فجأة بعد الثورة، لكن المناخ العام ضاغط وهو ما يفرض على الإعلام قيودا تحد من حريته، حيث تجد أن الكثيرين لا يرغبون فى آراء أخرى، وقد مرت شعوب كثيرة بمثل هذه المراحل من تاريخها، ففى ألمانيا بعد الحرب العالمية كان الرأى العام غير مستعد لسماع أى صوت ضد الحكم النازى، ولم تكن تلك ظروف تسمح بحرية الرأى التى تحققت بعد ذلك حين تخطت ألمانيا تلك الفترة، وهو ما يجعلنى أقول اليوم إن إعلامنا سيتخطى تلك المرحلة بمجرد أن يقل قدر الاستقطاب والتعصب فى المجتمع، لأن الإعلام هو مرآة صادقة للأوضاع السائدة فى المجتمع، وهو يعكس المزاج العام السائد، والمزاج العام السائد الآن لا يتسم بالسماحة وقبول الآخر.
وأنا ضد تدخل الدولة فى الصحافة والإعلام، وقد سعدت فى أكثر من لقاء مع الرئيس عندما وجدته يرفض تماماً الدتخل فيما يحدث من تجاوزات، وأنا على يقين أن الإعلام قادر فى المرحلة المقبلة على ضبط أدائه، حتى لا ينفض الناس من حوله، فالصحافة فقدت فى الآونة الأخيرة الكثير من قرائها، لكنها أفضل الصحافات العربية.
■ كتاب «مسدس الطلقة الواحدة» رصدت فيه أحداث حكم الإخوان ولم تذكر لنا توقعاتك، هل يمكن أن تتم مصالحة بين الدولة والإخوان أم لا؟
- الإخوان لن يعودوا إلى الحكم ثانية فى مصر، ويصعب جدا أن يصلوا إلى الحكم فى أى دولة عربية أخرى، أما مسألة المصالحة فتلك قضية أخرى لا أستبعدها تماما من الناحية النظرية، لكن الظرف السياسى فى الوقت الحالى لا يسمح بحدوثها، لعدة أسباب، منها أن الرأى العام ليس مؤهلا الآن لقبول ذلك، فالشعب بات كارها للجماعة ورافضا تماما لعودتها، فضلا عن أن تنظيم الإخوان نفسه لم يصدر عنه ما يشجع على تلك المصالحة، وتوقف حيث تركه المرشد يوم سقوطه ولم يتطور مع المتغيرات السياسية التى طرأت على الساحة خلال السنوات الأربع الأخيرة، وكنت أتوقع أن تخرج فئة من عباءة هذه الجماعة تثبت حسن نيتها بالوقوف ضد القتلة وأصحاب العنف وتقوم بتصحيح المسار وتعلن أيضا قبولها الممارسات الديمقراطية، وعندئذ كانت تلك القيادة ستلملم وراءها ذلك التشرذم الذى تركته قيادات الإخوان، وهذا أمر طبيعى يحدث لأى قوى سياسية حين تصاب بالهزيمة، وقد شاهدنا أحزابا كثيرة فى العالم تبعث من جديد بعد حطام معركة انتخابية خاسرة، لكن بقيت القوى الإخوانية مبعثرة كما هى، وفاقدة للمبادرة، وذلك بسبب التربية الإخوانية التى تقوم على السمع والطاعة وليس على تنمية روح المبادرة، واستمرت الجماعة فى نهجها بعداء الدولة ومحاولة إسقاطها واستخدام حيل وأساليب الفتن والشائعات من أجل تحقيق أهدافها، ولجأت قطاعات منها إلى أعمال العنف والإرهاب، فما الذى يدفع الدولة فى ظل هذا الوضع على إجراء مصالحة مع الإخوان؟! وأى جمهور سيرضى أو يقتنع بتلك المصالحة؟ هذا غير وارد على الإطلاق.
■ كثر الكلام عن تجديد الخطاب الدينى لمواجهة الإرهاب، ما تعليقكم؟
- أولا تجديد الخطاب الدينى لا يكون بقرار، وثانيا من يقوم به ليس الجهة التى صاغت الخطاب القديم على مدى عقود مضت، فالتجديد لا يحدث إلا إذا تطور المجتمع وأصبح يتطلع له، فمع التطور لا يكون الخطاب الدينى المتخلف والسائد الآن مناسبا للمجتمع، وعندئذ يسقط الخطاب المتخلف من تلقاء نفسه وينفتح المجال أمام آخر متقدم ومستنير لن يقدمه شيوخ الخطاب القديم وإنما نخبة المجتمع نفسها، هذا ما تؤكده لنا التجارب السابقة، فأهم كتب الدين التى أنصفت الإسلام وأثبتت أنه دين للتقدم والتحديث، لم يكتبها الشيوخ وأئمة المساجد، وإنما كتبها الأدباء والمثقفون مثل عباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم، فلا تقل لى إن المؤسسة الدينية المحافظة والتى ظلت لسنوات هى المفرخة التى تخرج لنا جحافل السلفيين والإخوان، هى التى ستقوم الآن بتجديد الخطاب الدينى واللحاق بالقرن الـ٢١ الذى لم ندخله بعد بدعة أكشاك توزيع الفتاوى الدينية هذه التى بدأت فى محطات المترو تجاوبا مع دعاوى تجديد الخطاب الدينى، وهى خير دليل على عجز المؤسسة الدينية وتدعو للرثاء عن إحداث ذلك التجديد، إننا بحاجة لفصل الدين عن الدولة وليس إقحام الدين فى كل مناحى الحياة، حتى فى وسائل المواصلات. فهل هذا معقول؟
■ وما قراءتكم لأزمة الخليج مع قطر؟
- أعتقد أنه كان قد آن الأوان لنتخذ خطوات حاسمة ضد السياسة المارقة التى تتبعها قطر، فمن ناحية المبدأ كانت المبادرة سليمة ومطلوبة، لكن فيما يخص الشروط التى طالبت دول الحصار من الدوحة تنفيذها أرى أن فيها بنودا غير قابلة للتنفيذ وبعضها جاء حتى الآن بنتائج عكسية، مثل شرط إغلاق قناة الجزيرة والذى أعطى فرصة لقطر أن تتهم الدول الأربع بانتهاك حرية التعبير، لأن إغلاق منبر إعلامى لا يمكن أن يلقى قبول المجتمع الدولى، وهكذا بدت قطر فى جانب الحق فى رفضها إغلاق تلك القناة الخبيثة، والدول الأربع على خطأ، ثم إن إغلاق القناة لا يحقق الغرض المطلوب، فماذا لو قبلت قطر إغلاق القناة وأنشأت بدلا منها قناة أخرى تتبع نفس سياستها؟! كان يجب أن يكون مطلب الدول الأربع هو وقف خطاب الكراهية والتحريض عبر هذه القناة، فمثل هذا الخطاب مُجرّم فى جميع القوانين، وحين نطالب بوقفه فنحن نطالب بوقف ما يجرمه القانون الدولى، وهكذا نكون نحن فى جانب القانون وهم الخارجين عليه وبسبب هذه الأخطاء استطاعت قطر أن تدير الأزمة لصالحها واستعانت بشركات عالمية متخصصة فى الإعلام والعلاقات العامة. فى الأسبوع الماضى فقط حدث شىء غريب، فقد خرجت سيارات الأجرة فى لندن وقد طليت بألوان العلم القطرى وأخذت تجوب شوارع العاصمة البريطانية وقد كتب عليها «ارفعوا الحصار عن شعب قطر»، إنها سياسة إسرائيل تلك الدولة المارقة التى تخرق يوميا كل القوانين والأعراف الدولية لكنها تستغل أخطاءنا لتبدو هى الدولة الصغيرة المظلومة ونحن المستبدين الظالمين، وهو ما يجافى الحقيقة.
■ وكيف تفسر الموقف الأمريكى فى التعامل مع هذا الخلاف؟
- أمريكا تلعب بالطرفين، حيث نجد ترامب يعلن أنه ضد الإرهاب وتمويله وأن قطر متورطة فى دعم الإرهاب ولابد أن تغير سياستها، ثم نجد وزير خارجيته يزور الدوحة ويقوم بتوقيع اتفاقية مع أميرها ويعلن أن قطر متعاونة مع الولايات المتحدة فى العمل ضد الإرهاب، ما يعنى أن مواقف أمريكا ليست واحدة وهناك تعمد على أن يذكر كل مسؤول شيئا مخالفا عن غيره، لأن أمريكا تريد أموال قطر كما تريد أموال السعودية والإمارات وهى سعيدة بذلك الخلاف الذى تبيع من خلاله لكل طرف البضاعة التى تناسبه وتقبض الثمن، وهنا غياب الجامعة العربية السبب، وكنت أتمنى أن يكون للجامعة حضور فى هذه الأزمة الناشئة بين عدد من أعضائها بدلا من أن تكون الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، فمازالت الجامعة هى بيت العرب ويجب عليها القيام بأدوار كبرى تحفظ حقوق الدول وتضع الضوابط والأسس التى تقوم عليها علاقات أعضائها، إنه وضع مخجل ومخز، والخطأ هنا يقع على الدول العربية نفسها التى قبلت أن تخضع لوساطة غربية لها أهدافها المشبوهة، وتستفيد من خلافات العرب، فليس من مصلحة الولايات المتحدة رأب هذا الصدع، لكن أحدا من أطراف الأزمة لم يطلب تدخل الجامعة العربية، ولا يجب أن ننسى الخلاف الذى نشأ عام ١٩٧٠ بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية وأراق دماء عربية على الجانبين، ولم نسمع وقتها عن وساطة أمريكية، بل تمت المصالحة داخل بيت العرب، وقامت مصر وليس أمريكا بالوساطة التى كلفتها حياة رئيس جمهوريتها ولو الوساطة الآن تمت تحت مظلة الجامعة العربية لكانت الجامعة هى الضامن لأية تسوية، ولو أخلت قطر التزاماتها لكانت هى فى جانب والدول الأعضاء بالجامعة كلها فى الجانب الآخر بدلا من أن نكون لعبة فى يد الأمريكان يلهون بكل طرف كيفما أرادوا.
■ لقد باءت محاولات الوساطة بالفشل حتى الآن، فما هى أسباب التصلب القطرى؟
- إن أول شروط نجاح الوساطة أن تأتى فى الوقت المناسب، أى حين يكون هناك استعداد لدى الطرفين لإنهاء الأزمة، وهذا الوقت لم يحن بعد، فالأزمة الآن مازالت فى مرحلة التصعيد، فالدول الأربع تسعى لفضح الدور القطرى فى دعم الإرهاب وقطر تجد دعما خفيا لها من الدول الغربية بسبب أموالها التى أغرقت السوق العالمية، فلماذا تتراجع؟ لقد وصل حجم التجارة الخارجية لقطر إلى ١٧٠ مليار دولار، ولننظر إلى حجم الأملاك القطرية فى دولة مثل فرنسا حيث أصبح العديد من المحال الكبرى فى الشانزليزيه ملكا لقطر، ونفس الشىء فى إنجلترا حيث يوجد بلندن مثل محل هارودز الشهير ملك لقطر. لقد كان على الدول الأربع أن تعد عدتها قبل الإقدام على هذه الخطوة التى كان لابد منها، أن تواجه أمريكا وأوروبا وتتحقق أولا من جديتهما فى التصدى للإرهاب، ربما كان عليها أيضا أن تسبق قطر فى توقيع اتفاقية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى لمواجهة الإرهاب والنص على العقوبات التى ستقع على الطرف الذى يخل بالاتفاق، ثم تكشف بعد ذلك عما لديها من مستندات تدين قطر وتبرر فرض العقوبات عليها، عندئذ كان العالم كله سيتجاوب مع مطالب الدول الأربع بدلا من أن يقف العالم هكذا متفرجين على «خناقة» عربية لا تخصهم بينما الأزمة فى الحقيقة ذات طبيعة دولية، فطالما نحن نتحدث عن الإرهاب فإننا نتحدث عن مشكلة دولية، لكن إدارتنا للأزمة وعدم إعدادنا الجيد للمواجهة جعلا العالم يسميها «الأزمة الخليجية»!.
■ لكن هذه الأزمة خلقت تقاربا بين مصر والسعودية والإمارات والبحرين، ألا يمكن أن يشكل هذا التقارب أساسا لعودة التضامن العربى؟
- الأمل فى إقامة التضامن العربى يرتكز على هذا المحور المصرى الخليجى كبداية لعمل وحدة عربية مشتركة قوية، ونأمل أن يتطور كى يضم باقى القوى العربية.
والتقارب الذى تتحدث عنه ليس وليدا لهذه الأزمة، صحيح أن الأزمة أكدت وجوده لكنه يعود إلى عام ٢٠١٣ حين قامت مصر بإنقاذ الوطن العربى من خطر حكم الإخوان الذى لو استمر فى مصر لسيطر خلال سنوات على المنطقة بأكملها، فى ذلك الوقت شعرت الدول العربية بدور مصر الحيوى فى صد هذا الخطر حتى لو لم ترسل جنديا واحدا خارج حدودها، لأن إسقاط الإخوان فى مصر كان فيه القضاء على فرصهم فى حكم الدول العربية الأخرى أما عن التضامن العربى المفقود، فإن ما نفتقده حقيقة هو إدراك أهمية هذا التضامن ومن ثم الحرص على دعمه، لقد تهدم البيت العربى ولم يعد الآن للتضامن معنى وسط ما تبقى حولنا من أشلاء. ولم يعد له القوة التى امتلكها فى الماضى أثناء وجود زعماء لهم إرادة ورغبة وقد ظهر ذلك فى فترة الخمسينات والستينات، ثم تجلى خلال حرب 1973 حيث كان لوحدة العرب تأثير على الحرب التى خاضتها مصر وأشقاؤها وبالرجوع إلى التاريخ نجد أن أزهى عصور العمل العربى المشترك كان فى أعقاب الهزائم الكبرى، مثل نكبة ١٩٤٨ حيث أعقبها بروز القومية العربية فى مصر بعد ثورة ١٩٥٢، ومثل هزيمة ١٩٦٧ وما تلاها من التضامن العربى خلال حرب ١٩٧٣، فلعل الأزمة الطاحنة التى نمر بها الآن فى العالم العربى تعقبها صحوة كبرى تعيدنا إلى عصور المد القومى الذى حقق انتصاراتنا فى الماضى وجعل من العرب فى أواسط القرن العشرين قوة يعتد بها، وربما كان فى صحوة مصر التى تجسدت فى ثورة ٢٥ يناير وفتحت أمامنا آفاق المستقبل، ثم فى ثورة ٣٠ يونيو التى أكدت رفض الشعب لحكم الإخوان وما يمثله من تعصب وتخلف وإرهاب، إرهاصات لما يحمله لنا المستقبل من بعث جديد للأمة العربية خاصة فى ظل تضامن مصرى إماراتى سعودى بدا يظهر جليا فى كل الأمور.
■ كيف ترى الأحداث الأخيرة بالمسجد الأقصى؟
- إنها قمة الإرهاب الرسمى الممنهج الذى تمارسه إسرائيل ولا يلتفت إليه العالم. هل تستطيع القوات المسلحة فى أى دولة اقتحام المساجد وضرب المصلين بالنار كما حدث فى المسجد الأقصى؟ إن ميكو بيليد الضابط السابق بالجيش الإسرائيلى يصف هذا الجيش بأنه أخطر منظمة إرهابية فى العالم وأكثرها تقدما وتسلحا، ومن يدعون محاربة داعش لا يلتفتون إلى ذلك، إن أحداث القدس الأخيرة تذكرنا وتذكر العالم بأن الشعب الفلسطينى هو الشعب الوحيد فى العالم الآن الذى يقع تحت الاحتلال منذ نصف قرن من الزمان، وبأن الاحتلال الإسرائيلى هو أبشع أنواع الاحتلال لأنه يستولى على الأرض التى يحتلها ويغير طبيعتها الحضارية والثقافية ويقتل سكانها ويطردهم ويعرضهم لأقسى أنواع المعاناة اليومية، لكن العالم المتحضر المشغول دوما بالدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان لا يتحرك للدفاع عن ذلك الشعب المحتل الذى أهدرت كل حقوقه، وانتهكت معه كافة القوانين والمواثيق والأعراف، ودعنى أسأل أين جامعة الدول العربية من كل ذلك؟ إن أحداث القدس الأخيرة تقع فى صميم اختصاصها، فماذا فعلت بعيدا عن العمل الروتينى المعتاد؟ لقد كنت أتصور أن تطلق الجامعة مبادرة جسورة تضع العالم أمام مسؤولياته فى هذه المأساة الإنسانية التى دامت طويلا.
■ كيف تقضى وقتك الآن بعد أن تحررت من التزاماتك الإدارية؟
- أنتظر انتهاء فترة رئاستى لاتحاد كتاب آسيا وأفريقيا والذى نجحنا فى أن نضم إليه كتاب أمريكا اللاتينية أيضا، كى أتفرغ تماما للكتابة، وفى الوقت الحالى لدى مقالى الأسبوعى فى «الأهرام» بيتى الصحفى الأول، كما أعكف على الكتابة الأدبية، وقد كان آخر إصدار لى فى معرض الكتاب الأخير هو المجموعة القصصية «ما وراء القمر»، وصدر قبلها مجلدان عن هيئة الكتاب يضمان أعمالى المسرحية الكاملة، وفى أكتوبر القادم يصدر الجزء الأول من مذكراتى الذى يبدأ بالنشأة وينتهى بمقتل الرئيس السادات، وهى مذكرات شخصية ووطنية فى نفس الوقت لأن أحداث حياتى تداخلت مع تاريخ البلاد من نهاية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥ وحتى قيام ثورتى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، هى تأريخ من زاوية شخصية للأحداث التى مرت علينا فى فترة من أهم فترات تاريخنا الحديث.