«ده مسلى تمام زى السيما».. هكذا خرج التليفزيون المصرى للنور عام 1960، عملاقاً فى كل شىء إلا فى الدعاية لنفسه، وربما هو المؤسسة التليفزيونية الوحيدة التى لم تجد شعاراً لإقناع المشاهدين بفوائده سوى أنه «مسلى زى السيما» كما جاء فى باكورة إعلانات ما صار يعرف فيما بعد باتحاد الإذاعة والتليفزيون «ماسبيرو».
يتكون اتحاد الإذاعة والتليفزيون من 10 قطاعات هى: الإذاعة والتليفزيون، والقنوات المتخصصة، والقنوات الإقليمية، والقطاع الاقتصادى، وقطاع الإنتاج، فضلاً عن قطاعات الهندسة الإذاعية، ومجلة الإذاعة، والأمانة العامة، وقطاع الأخبار الضخم.
يضم التليفزيون 23 قناة ما بين فضائية وأرضية ومتخصصة يبلغ إجمالى ساعات بثها معاً نحو 254 ساعة بث يومية، فيما يضم قطاع الإذاعة التاريخى 42 إذاعة تبث بـ21 لغة مختلفة منها الإنجليزية السواحلية والعبرية وحتى لغات الأردو والباشتو والهوسا وغيرها.
على الدوام كان الجالسون على مقعد «الإدارة» فى التليفزيون، دائماً أقرب ما يكونون إلى النظام الحاكم، وهو النظام الذى لم يغامر ولو لمرة واحدة بوضع شخصية تتمتع بـ«الاستقلالية» على قمة «ماسبيرو» رغم أنه فى النهاية وحسب الدستور «ملك للشعب وحده».
فى «معركة الثورة» كان «ماسبيرو» جزءاً من «أسلحة النظام»، فعل كل شىء تقريباً ليقول إن «الدنيا بمبى»، ورغم اشتعال مظاهرات بالملايين على مقربة منه فى ميدان التحرير، إلا أن إدارة الجهاز الضخم ظلت حريصة على أن تعبر عن «وجهة نظر القصر» دون أن تلتفت للشارع المنفجر غضباً.
قبل 25 يناير بيومين بدأ التليفزيون حملة منظمة، ضد دعوات انتشرت على موقع «فيس بوك» تدعو للتظاهر تحت شعار «خبز.. حرية.. عدالة اجتماعية»، ورغم أن جميع طوائف المعارضة الرسمية، وحتى جماعة الإخوان المسلمين، اعتبرت ما سيحدث فى 25 يناير المتزامن مع عيد الشرطة لن يتعدى «مظاهرة من بتوع وسط البلد» كما علق ضيوف القناة الأولى على الدعوات.
التليفزيون وحده، كان لديه ما يشبه اليقين بأن «ثمة أمراً ما سيحدث»، ربما بنى التليفزيون يقينه على «تسريبات» من أجهزة الدولة، فعكس قلقها على الشاشة بحملاته الإعلامية الداعية لتكريم «رجل الشرطة الذى ضحى بكل شىء من أجل مصر» كما فى الفضائية المصرية، والقناة الأولى، التى أعدت «بروموهات» عن «يوم الشرطة».
حملات التليفزيون أتت برد فعل عكسى، فمن شوارع ناهيا وجامعة الدول العربية والهرم ورمسيس، انطلقت مسيرات الغضب، وسط «حذر حكومى» أشبه بالخوف، طاف المتظاهرون كل مكان تقريباً، ولم يستقروا خلال ساعات من المسيرات الحاشدة، إلا أمام المبنى العتيق «ماسبيرو»، هتفوا قليلاً، وناوشوا قليلاً، وشاهدوا، أنس الفقى، وزير الإعلام السابق، يخرج من شرفة مكتبه ليتحدث إلى «أفندم ما»، ربما ليطمئن منه على المستقبل الذى بدا غامضاً لنصف ساعة حتى «أفرج» عشرات الآلاف الذين تجمعوا فى ميدان التحرير عن المبنى.
جهازان فقط فى الدولة تعاملا بشكل مباشر مع «الغضب». الداخلية التى وقفت مذهولة وخائفة من «التجربة التونسية»، و«ماسبيرو» الذى نشر على استحياء خبراً عن اعتذار العاملين فى التليفزيون الرسمى التونسى للشعب عن 23 عاماً من الكذب المباشر على الهواء بأوامر من «بن على» وزوجته ليلى الطرابلسى.
مساء 25 يناير، كانت قوات الشرطة تسير على ذات السيناريو التونسى، وشيئاً فشيئاً بدا أن الغضب لن ينتهى «بصفارة عسكرى»، وهنا بدأت اللهجة تتغير فى التليفزيون الرسمى، وكشر «ماسبيرو» عن أنيابه، ليعلن فى نشرته الأولى صباح الخميس 27 يناير، أن وزارة الداخلية تحذر من «أعمال الشغب والتعدى على الممتلكات العامة والخاصة»، فيما بدأت القنوات المتخصصة فى بث يبدو متفقاً عليه، لأفلام حول «خيانة الوطن» مثل «إعدام ميت» ولقاءات مع قيادات فى الحزب الوطنى الحاكم سابقاً، وأجهزة الشرطة.
فى «جمعة الغضب» بدا أن أحداً لن يستطيع أن يوقف الطوفان البشرى الثائر، وتحولت شاشات «ماسبيرو» وإذاعاته إلى «بوق» يردد بيانات ذات مضمون واحد «الأمن مستتب، وتم التعامل مع العناصر المخربة والمثيرة للشغب».
«السادة المواطنون».. هذه كانت الأكثر تكراراً بطول نشرات أخبار التليفزيون الرسمى، فالجهاز يعبر عن دولة قطعت شرايين الاتصالات بين المواطنين والعالم.
كان «ماسبيرو» العجوز يتحرك بالتوازى مع حملة «تشويش» مزدوجة، وصلت لدرجة «السباب» على شاشة الفضائية المصرية فى 1 فبراير.
فى السياق نفسه، كانت أصوات المتصلين «الافتراضيين» تتكرر بشكل مضحك على الهواء، فبعد مكالمة تصرخ من «البلطجية» قادمة من طنطا، يظهر الصوت نفسه بعد غلق الخط على «المحور» ليحذر من هجوم «القتلة» فى المعادى، ثم يختفى قليلاً ليظهر مرة ثالثة على الفضائية المصرية، بعد ساعة تقريباً، ليصرخ «بيقتلونا فى إسكندرية.
كانت جمعة الغضب، فارقة فى التغطية الإعلامية، وربما الأكثر ارتباكاً، ففى الخامسة والثلث بالضبط من مساء 28 يناير، اختفت عناصر الشرطة وجحافلها فجأة، لم يفسر التليفزيون الرسمى الإجراء وصمت طويلاً ليعود بقرار من «الحاكم العسكرى» يفرض حظر التجول، ابتداء من السادسة، ليكون أول حظر تجول فى العالم يبلغ به المواطنون قبل بدء سريانه بـ40 دقيقة فقط.
صمت التليفزيون الرسمى تماماً، فيما يتعلق بوصول طلائع قوات الجيش للشوارع، واكتفى فقط بنقل احتفاء المصريين بالقوات المسلحة، دون تعليق، حتى بدا أن «ماسبيرو» لا يعرف من أين ستأتى الأوامر هذه المرة.
فى الفترة من «جمعة الغضب» حتى قبل رحيل «مبارك» عن الحكم بساعات، كان «ماسبيرو» يبحث فى دفاتر الستينيات، ويصور مئات المتظاهرين أمامه المؤيدين لـ«مبارك» باعتبارهم «آلافاً»، فيما ينقل اتهامات حول «الأجندات الأجنبية» و«وجبات الكنتاكى».
انشغل التليفزيون فى معركة مع فضائية «الجزيرة»، بينما ركز كاميراته على «كوبرى 6 أكتوبر» الفارغ تقريباً، موجهاً اتهامات مجانية للجميع بـ«العمالة»، مرة لقطر ومرة لإيران ومرة لإسرائيل ومرات لحماس.
بث التليفزيون المصرى 3 خطابات للرئيس المتنحى «مبارك»، فيما خرجت القوات المسلحة بالبيان رقم 1 للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، حول انعقاده فى غياب «مبارك»، وبعد ساعات من الشائعات «المفرحة» خرج أنس الفقى وحيداً ليؤكد أن الرئيس «لم ولن يتنحى»، وبعد موعده بـ45 دقيقة خرج «مبارك» ليفوض جزءاً من صلاحياته السياسية لنائبه عمر سليمان، ولم تمرسوى ساعات الليل حتى وجد «ماسبيرو» نفسه محاصراً بالآلاف، فحاول «مد الجسور» مع متظاهرين أكدوا اقتراب «يوم الحساب».
راهن التليفزيون فى خطابه على «الوطنية الرسمية»، وأن الرئيس «رمز مصر» وأطلق مقولة عجيبة تتحدث عن «إنجاز» فريد، أن يكون لنا «رئيس سابق بمحض إرادته»، وهو إنجاز رفض الملايين أن يتحقق، على الأقل الجزء الثانى منه وفشل التليفزيون المصرى فى كسب «معركة العقول والقلوب» لأنه كان يريد إقناع رب أسرة أن ولده الشهيد «مندس» وأن جاره الجريح «بتاع أجندات».