x

فلما انطلق مدفع الإفطار فى العتبة سكن الباعة وهدأ المشترون.. وتحول الميدان إلى لوحة صامتة

الإثنين 30-08-2010 00:00 |
تصوير : other

الزمان: آخر خيوط شمس يوم خميس

المكان: قلب ميدان العتبة المزدحم فى نهاية الأسبوع

يتمدد الميدان ويتسع فى النصف ساعة التى تسبق انطلاق مدفع الإفطار، يأتى اتساعه كنتيجة طبيعية للاختفاء التدريجى للسيارات العابرة فى قلبه، والتى تتناقص كلما اقتربت عقارب الساعة الكبيرة التى تزين مبنى هيئة البريد من السادسة والنصف موعد أذان المغرب، يتسلل صوت ترتيل قرآنى قادماً من مسجد مجاور لمبنى المسرح القومى الذى يعاد بناؤه حالياً بعد احتراقه منذ عدة أشهر، يخيم الصمت على مبنى المطافئ المواجه لكوبرى الأزهر العلوى، فى حين يبدو مبنى قسم الموسكى المجاور له وكأنه خلا من رواده وساكنيه.

تفتح محال الملابس الجاهزة أبوابها ويضىء بعضها أنواره، فى حين يستريح الباعة الجائلون أسفل فرشات الملابس وإلى جوارها منتظرين الأذان، تنشط فى الميدان حركة لافتة للنظر: صوانى معدنية أسفل أطباق مغطاة تعبر الميدان محمولة على أكتاف صبيان وشباب ورجال يعرفون طريقهم جيداً، يتوقفون أمام محال بعينها، يغيبون داخلها ويخرجون بصوانيهم فارغة من أطباقها، يلتف المارة حول عربات بيع العرقسوس والتمر هندى والسوبيا، ويجتهد البائع على العربة ليلبى طلباتهم جميعاً فيملأ ثلاثة أكياس بلاستيكية بالتمر هندى لسيدة تصطحب فتاتين، ويمد يده إلى لوح ثلج بجواره يكسر منه قطعة ويسقطها فى إناء العرقسوس، وفى نفس الوقت يناول أحد الواقفين كيساً بلاستيكياً يحتوى على قليل من السوبيا.

يتوقف بعض المارة على محطة الأتوبيس بداية شارع محمد على فى انتظار وسيلة مواصلات كأمل أخير لتقلهم إلى منازلهم قبل أذان المغرب، نفس التجمع يتكرر بدايات شارع «الجيش» و«الأزهر» وموقف العتبة الرئيسى، لا يفقدون الأمل رغم اختفاء السيارات سواء أتوبيسات أو ميكروباصات وحتى سيارات الأجرة التى تتحرك من أول شارع الأزهر حاملة الركاب إلى مناطق الحسين والدراسة ومنشأة ناصر.

أمام محل «حلاوة» للملابس تمتد مائدة طويلة تحفها المقاعد من الجانبين يجلس عليها نماذج متنوعة من البشر، عائلات بدا أن وقت الإفطار داهمها قبل أن تستكمل جولتها فى الحى التجارى، وبائعون وجدوا فى المائدة فرصة للإفطار المجانى، وأطفال يفترشون ببضائعهم الشارع بالقرب من المكان، وغيرهم، على مقربة منهم راح خدام مائدة الرحمن يعدون المائدة للإفطار منتشرين بين المقاعد، فريق منهم راح يمر على الجلوس حاملاً صينية مملوءة بالبلح الجاف، وفريق آخر وقف فى طابور أمام أوانى الأرز الضخمة، فى انتظار ملء أطباق معدنية صغيرة، وفريق ثالث أخذ فى توزيع أطباق السلطة والخضار على المائدة أمام الجالسين.

مائدة أخرى احتلت بدايات شارع عبدالعزيز وجدت لنفسها رواداً من عمال محال بيع التليفونات المحمولة، وعدد من سائقى سيارات الميكروباص الذين ركنوا سياراتهم أول الشارع وجلسوا مع الجالسين فى انتظار انطلاق صوت المؤذن، ولا يمر وقت طويل فبعد مطاردة شرسة يلحق أخيراً عقرب الدقائق فى ساعة مبنى البريد بعقرب الساعات ويلتحم معه معلناً الساعة السادسة والنصف موعد الأذان، الذى لا يلبث أن ينطلق من كل الاتجاهات يصاحبه هرولة للمارة فى الشارع، من يحاول اللحاق بمائدة إفطار، ومن يحاول الوصول للمسجد، ومن يقف على عربة العرقسوس، ومن يفضل الإفطار بعيداً عن موائد الرحمن فيتوجه لعربة فول تقف أمام محل «بريموس» الشهير، يجاهد العامل الواقع عليها من أجل تلبية طلبات الجميع فى وقت واحد.

تحت كوبرى الأزهر يقف رجل خمسينى بدا أنه لم يتحمس للإفطار من على موائد الرحمن، أو عربة الفول أو العرقسوس، فقام فور سماعه صوت الأذان بإخراج سيجارة من علبة فى جيبه، وأشعلها وراح ينفث دخانها فى استمتاع ملحوظ، وعلى مقربة منه وقف صبى صغير إلى جوار فرشة «صواريخ وبمب» أمام المسرح القومى، تطوع وأشعل بضعة صواريخ انفجرت فى عرض الطريق متزامنة مع صوت المؤذن.

على الأرض وبجوار فرشات الملابس الجاهزة المصطفة على جانبى شارع الجيش وبدايات شارع الموسكى جلس الباعة جماعات وأفراداً يتناولون إفطارهم، بدا ميدان العتبة المزدحهم على الدوام فى تلك اللحظة شبه مهجور، لا سيارات، ولا مارة، سكون تام تناغم مع تسرب الظلام تدريجياً، وأفول آخر ضوء للنهار يضىء الميدان بأعمدة الإنارة، ومصابيح المحال، وتظل حالة الصمت هى سيدة الموقف، ولولا بعض السيارات القليلة التى تمر من حين لآخر فوق كوبرى الأزهر لكان من الممكن تحويل المشهد إلى لوحة مرسومة، ميدان خاو، وباعة يلتفون حول أطباق طعامهم، وموائد تقدم لروادها طعاماً فيأكلونه بدورهم فى صمت دون اعتراض، ومبان عتيقة تروى قصة ميدان عريق، وشوارع تقود وتتفرع إلى أهم ميادين وشوارع فى قلب العاصمة.

لا تطل اللحظة الفريدة كثيراً، فسرعان ما يتحرر عقرب الساعات من أسر عقرب الدقائق ويمضى كل منهما إلى حال سبيله، ينهى المصلون صلاتهم فتلفظهم المساجد إلى الخارج، يفرغ الصائمون من إفطارهم فيغادرون موائد الرحمن إلى أشغالهم، ويطوى أصحاب الفرشات ما تبقى من طعامهم فى لفافات يضعونها أسفل فرشهم ويستعدون لجولة جديدة من البيع والشراء والفصال ومناهدة الزبائن.

 تتحرك السيارات على استحياء فى البداية، تدب الحياة فى الميدان شيئاً فشيئاً، فلا يعود الصمت يخيم على مبنى المطافئ، ولا يبدو قسم الموسكى المجاور له وكأنه خلا من رواده وساكنيه، أما الميدان نفسه فلا يلبث أن يضيق شيئاً فشيئاً ويختنق بالمارة والباعة والسيارات، ولم تكد تمر على أذان المغرب نصف ساعة فقط.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية