سيدة «تدعى» إلهامى، يرجع تاريخ أسرتها لعهد الباشوات، قررت قبل وفاتها وهب عشرات الأفدنة بمدينة نبروه للأوقاف، كى تقوم بتوزيعها على الأهالى من الفقراء، وتدوم الأرض صدقة جارية عن روحها.
تلك هى الرواية القصيرة التى رواها لنا أحد أقدم أبناء المدينة ويدعى الحاج «محمد»، صاحب محل تجارى بالمدينة، وقال: «سلمت تلك السيدة الأرض للدولة، كى تقوم بتوزيعها على فقراء الفلاحين، يرعونها ويستفيدون من زرعها وحصادها للإنفاق على أسرهم، وبالفعل وزعت الدولة الأرض على الفقراء، بمعدل فدانين إلى فدانين ونصف لكل فلاح».
مرت السنوات، ولا تزال الأرض ينتفع بها الفلاحون بنظام حق الانتفاع، الذى يتحول فيما بعد للملكية، ورغم توسع المدينة فى صناعة الفسيخ والرنجة، لتعد الأشهر والأغنى على مستوى مصر فى تلك الصناعة، إلا أن أرضها التى تحمل المنازل والمحال والمصانع لا تزال معروفة بكونها وقفا.
بعد ثورة يناير مباشرة، وجد عدد من الأهالى أن فرصة الانفلات الأمنى هى الأفضل لاستغلال الحدث والبناء على الأرض الوقف.
مغاسل للسيارات، محلات تجارية، بيوت خرسانية مشيدة لأربعة أدوار، بها تشطيبات تتجاوز مئات الآلاف، هكذا قنن الأهالى وضعهم السكنى والتجارى، بعد أن فشلوا فى التوسع السكنى، الذى تعوقه حدود المحافظة، بما رفع سعر إيجار الوحدات لـ500 جنيه شهرياً، عجزت أسر كثيرة بالطبع عن الالتزام بها، فى ظل معوقات الحياة اليومية، ولم يكن هناك بديل سوى بيع أرض الأوقاف من الأهالى فيما بينهم، والبناء عليها، ولن تجد منزلا يكاد يخلو من محلات تجارية أسفل منه، لحشد الشباب للعمل بها فى حرف ساعدتهم على التغلب على البطالة.
مرت السنوات وتمكن الأهالى من إدخال وصلات الكهرباء والمياه، بنظام الممارسة، ورغم كونه غير قانونى، إلا أن الأهالى يستندون فى نهاية الأمر إلى أنه وسيلة رسمية للتعامل مع الدولة وتحصيل الاستهلاك بفواتير رسمية، وذلك لحين تقنين الأوضاع.
هناك من بادر من الأهالى بمخاصمة الدولة ورفع قضايا للتقنين، وهى المنازل والمبانى التى لم تمسها حملات الإزالة، لكونها قيد البحث القضائى، أما باقى الحالات التى تم هدمها فلم تكن تسعى لتقنين الوضع، كما أن بعض ملاكها غير قاطنين فيها، وفوجئوا بقوات الجيش والشرطة جاءت دون سابق إنذار لتنفيذ الهدم.
رغم كونه واحداً من الأهالى إلا أنه يرى أن ما قام به البعض فيه تعدٍ صارخ على أراضى الدولة ليس فقط لكونها أرض وقف ولكن لكونها أرضا زراعية أيضاً حولوها إلى مبانٍ.
ويرى أن الخطوة التى اتخدتها الدولة جادة، كى تعيد على الأقل حق السيدة التى رحلت منذ عقود وكانت تهب ثواب الأرض للعمل الخيرى، كما أن من بادروا بالبناء على الأرض فيهم المسجلون خطر، وأصحاب النفوذ والأموال، الذين طالما دفعوا رشاوى لتقنين وضعهم، أو السماح ببقائه، وبالتالى لم يذهب ثواب الوقف لمن يستحقه.
وقال: «الأرض من كتر ما الناس لم تعد فى حاجة ليها كنا نجد أنهم يعرضون القيراط الواحد بـ5 وحتى 15 ألف جنيه كحد أقصى فى الأراضى الصف الأول على الطريق، لمن يرغب فى البناء».
وتابع: «منهم من حصل على الأرض بهذا السعر الهزيل من الفلاحين، ثم قام بتقسيمها، وبيعها كأرض للمبانى، بسعر رفع قيمة القيراط لـ50 ألف جنيه».
المنظومة لا تزال فى وضع عدم الاستقرار، فلا تزال على امتداد طريق المدينة الذى يصل لـ10 كيلو مترات منازل مشيدة فوق أرض زراعية وجميعها مخالفة، وبها تعدٍ على أراضى الدولة، لم تتم إزالة سوى 9 مخالفات منها، حسب ما جاء فى كشف حصر التعديات بالمحافظة، وبالتالى فلا تزال البقية تواجه مصيرا مجهولا وبحاجة لتقنين وضعها، ليس فقط لتخوفهم من الإزالة ولكن لأن نظام الممارسة الذى يتعاملون به مع الدولة أرهق الأسر مادياً، ففاتورة الكهرباء تصل إلى 500 جنيه شهريا، والجميع مجبر على الدفع دون شكوى، كما أن ممارسة المياه يتم تقديرها على حسب عدد اللمبات فى الوحدة، وهو بالطبع ليس مقياسا على الإطلاق يعادل استهلاك المياه، الذى تصل فاتورته لـ150 جنيه شهرياً، والبديل فى المقابل فرضوا على الأهالى مقايسات تصل لـ21 ألف جنيه، لم يقدر أحد على دفعها، وبالتالى لا تزال أخطاء الوضع قائمة.
ومن إجمالى 467 حالة تعدٍ بالمحافظة سجل مركز بلقاس 292 حالة تعدٍ، ليعد أكثر مراكز المحافظة فى المخالفات، وذلك لاتساع مساحات الأراضى الزراعية المملوكة للدولة، والتى تم وضع اليد عليها، من قبل خارجين على القانون، جعلوا من المنطقة حكراً لهم، يحظر على الغرباء دخولها، لكن الدولة اقتحمتها بالجرارات، واكتفت بهدم أسوار الأراضى المزروعة أسوارها، حيث أمهلت المزارعين فرصة لحصد المحاصيل، وحذرتهم من تكرار زراعة الأرض أو الاقتراب منها.
وعلى شاطئ البحر فى مدينة جمصة تراصت عشرات الشاليهات جوار بعضها البعض، خصصتها الدولة فى الأصل لعدد من المواطنين بنظام حق الانتفاع، لا يتجاوز سعر المتر فيها 3 جنيهات، فى الوقت الذى وصل فيه سعر نفس المتر فى ذات المنطقة إلى 20 ألف جنيه، وهو ما دفع المؤجرين لهدم الشاليهات، ذات الطراز المعمارى والمميز، بأشكال فنية مختلفة، وبناء أخرى بطوابق تصل لأربعة أدوار، وتأجير شقهها بسعر يصل لـ600 جنيه عن الليلة الواحدة فى موسم الصيف، وأخرى معروضة للبيع بأسعار تتجاوز النصف مليون جنيه.
وعلى شاطئ البحر وقف أحد الباعة الجائلين فى المنطقة ويدعى «أحمد»، اعتاد التردد على المدينة وأسرته منذ 35 سنة، يعرف جيدا تاريخها، وما كانت تتمتع به من لمسات جمالية، كانت تدفع صناع السينما لتصوير أفلام الأبيض والأسود فى تلك الشاليهات، التى لم تكن تتجاوز دورانا ومبنية بالخشب. وقال: «دلوقتى بقت كل حاجة متاحة، ومن كتر الفساد والرشاوى مبقاش فاضل غير شاليه واحد هو اللى بيحمل الطراز القديم، والباقى تحول لعمارات بارتفاعات مختلفة، أثرت على معدلات التهوية فى المكان، وعلى باقى العمارات من حولها، وكمان عملوا محلات فى الدور الأول للشاليهات، رغم أن تصميمها الأصلى يمنع إقامة أى نشاط تجارى فى الشاليه».
لم يكتف منتفعو تلك الشاليهات بهدمها وتغيير طرازها المعمارى بل توسعوا بالسطو على أجزاء من أراضى الأرصفة والشوارع المقابلة لها، لتمديد الحدائق، التى تخص كل شاليه، ومنهم قيادات، ومراكز سيادية، كانوا يتباهون بزرع وتركيب أفخم أنواع الأشجار، المستوردة شتلاتها من الخارج.
ويروى عن يوم الإزالات قائلا: «الجميع تفاجأ باللودرات تهدم أسوار الحدائق، ليس كلها بالطبع، لكن الكثير منها، ولم تفلح أى تدخلات شخصية من ملاكها، الذين تفاجأوا بالإزالات، دون سابق إنذار، لكونها حالات تعدٍ على أراضى الدولة، رغم أنهم تركوا مبانى أخرى».