x

أبطال مهمة هدم البرج المائل: «إيد بتكسّر.. وإيد على القلب من الخوف»

السبت 03-06-2017 21:26 | كتب: مي هشام, محمد فتحي عبداللطيف |
العقار المائل بالأزاريطة فى الإسكندرية
العقار المائل بالأزاريطة فى الإسكندرية تصوير : محمود طه

لم تكُن أضواء الفجر أعلنت عن وجودها تمامًا عند الساعة الرابعة والنصف فجرًا، إلا أنه خلف المتاريس الموضوعة بدقة وعناية من قبل قوات الحماية المدنية حول «موقع الهدد» والإزالة حرصًا على سلامة المارة والمستقرين. تراصّت الأعين مشدوهة ومتابعة بحرص لهذا الميل العجيب الذى حدث بين ليلة وضحاها، ليس حديث الإسكندرية فحسب، وإنما حديث مصر كُلها، فيما عُرف إعلاميًا بـ «برج الإسكندرية المائل»، والذى تم تداول تفاصيل ميله المفاجئ بشكل مُكثف على مدار اليومين الماضيين، فضلاً عن سيناريوهات الهدد المحتملة، وخطوات الإزالة المُطبقة فعليًا، وحسابات الأخطار والأمان فى جميع السيناريوهات.

العقار المائل بالأزاريطة فى الإسكندرية

حول المشهد المُستغرب للعقار ذى الثلاثة عشر طابقًا، والذى مال على العقار المقابل بحى الأزاريطة السكندرى فأرداه هو الآخر متضررًا وعرّض حياة سُكانه للخطر، أخلت قوات متباينة من الحماية المدنية والشرطة العسكرية نحو خمسة عشر عقارًا من العقارات المُحيطة بالعقار المائل حفاظًا على أمان السُكان، وفيما تحوّلت العقارات المخليّة بفعل قوات الحماية إلى أطلال هجرها أهلها إلى مواقع أكثر أمانًا، عمّرت أروقتها خُطى عُمال الهدد الحريصة، والمُعرضة بين لحظة وأخرى لغدر المعمار اللين المميِّز لليوميّات السكندرية. فى هذا التقرير عايشت «المصرى اليوم» يوميات الهدد فى موقع العقار المائل الأكثر شهرة بحى الأزاريطة فى الإسكندرية.

العقار المائل بالأزاريطة فى الإسكندرية

بدأت المأساة الإنسانية لسُكان حى الأزاريطة السكندرى قبل ثلاثة أيام، حينذاك، لم يكُن العقار المذكور قد وصل لدرجة الميل الحالية. أدرك السُكان تباشير الحدث الجلل الذى سيلم بحيّهم الهادئ من انهيارات وتصدُعات فى المبانى المُجاورة للعقار المائل، يعرفه الأهالى باسم «بيت عائلة نصّار». وبحسب شهود العيّان من السُكان، يختلف العقار الشهير ببيت نصّار شكلاً وموضوعًا عن موجة الأبراج العُليا المنتشرة بالمنطقة، فهو عقار قديم تتناسب أساساته مع ارتفاعه المتوسط ولا يحمل فوقه أحمالاً مخالفة.

توالت الأحداث سريعًا، انهال التراب على رأس السُكان، مُعربًا عن تصدُع واضحٍ بالعقار، تلته أصوات «طقطقة وانكسارات» ليس فى بيت نصّار فحسب، وإنما فى العقار المجاور أيضًا، لم ينقض النهار حتى أصبح الإخلاء أمر شبه حتمىa «على بعد الفطار فى نفس اليوم كان الإخلاء بدأ»، بحسب أحمد جميل، طالب وأحد السكان الذين تم إخلاؤهم من العقارات المجاورة للعقار المائل والمتصدّع.

العقار المائل بالأزاريطة فى الإسكندرية

انتقل جميل بصُحبة أسرته إلى منزل أسرة مضيفة من ذوى القُربى بـ«كوم الدكة»، غير أنه بين الحين والآخر يضطر لمعاودة زيارة الحى لجلب احتياجات أسريّة، فيما يُسجّل بضع لقطات قريبة من سطح منزله بهاتفه الذكى. لاحقًا، تبيّن جميل أن أصوات القرقعة والطقطقة التى أقلقت منامه ومنام سكان الحى لم تكُن سوى تكسُر أساسات العقار المائل. فى مُحيط العقار المائل تنتشر قصته وتاريخه على ألسنة السُكان، يتباين عدد السنوات التى تحوّل فيها العقار المائل من ثلاثة طوابق إلى ثلاثة عشر ما بين ثلاث وسبع سنوات، فيما تُتداول أسماء عدة لـ«كحولة» كما يُتعارف عليها بين سكان الإسكندرية، أو سمسارة من الباطن، تُلاحقها المسؤولية القانونية عن رفع أعمدة العقار المائل بالمخالفة للقانون وتحويله لبُرج مُرشح لتهديد حياة سُكانه، والمحيطين.

جميل لم يكُن الوافِد الوحيد فى هذه الساعة من النهار إلى موقع الإزالة شديد الخطورة، فبضع منشورات على مواقع التواصل الاجتماعى، فضلاً عن مداخلات هاتفية ذات طابع هندسى فى برامج التوك شو التى تناولت حادثة العقار المائل الآيل للسقوط، حدت بالمواطن السكندرى «فداء الخولى» الترجُل فجرًا من منزله بالإبراهيمية إلى حى الأزاريطة المشهود لطرح وجهة نظر فنية واحتياطية بشأن ميكانيزم الهدد ذاته ومدى مُلاءمته لموقف العقار المائل، من واقع خبرته فى مجال مقاولات الهدد وامتلاكه لشركة مقاولات. بحسب فداء، فإن المشهد الهندسى يحتوى على عنصرين أساسيين: عقار مائل من ثلاثة عشر طابقًا، وعقار ساند من خمسة عشر طابقًا، فضلاً عن عدد من العقارات المحيطة التى يكتنفها الخطر بدورها. بتطبيق خطوات الهدم بالطريقة المُعلنة وهى هدم العقار المائل أولاً بالتدريج من الأعلى للأسفل، يصبح العقار الساند بدوره مرشحًا للانقسام من نقطة ارتكاز العقار المائل عليه، فيما تهدد ذبذبات «الكومبريسور والمرزبات» أعمدة العقارين للتصدُع، واضعةً عمال الهدد فى خطر داهم يتمثل فى إمكانية سقوط العقار الساند على رؤوسهم فى أى لحظة أثناء عملية الهدد، وذلك إذا لم تتم عملية الهدم فى العقارين بشكل متوازٍ.

فى انتظار المهندس المسؤول عن موقع الهدم للإدلاء بمقترحاته وتصوُره عن الخطر بين يديه، شرع الخولى كذلك فى تفنيد عوامل أمان عُمال الهدم، ليفتقد الخوذات بالغة الأهمية فى مشهد أمان عُمال الهدم المُتناوبين على الصعود فى ورديات متواصلة على مدى الأربع وعشرين ساعة لتنفيذ عملية الهدم الحثيثة والحذرة فى الوقت نفسه. من مستوى النظر من الشارع قد لا يستطيع المار تبيُن الهدم فى الأدوار العُليا من العقار المائل، ولا حتى احتياطات الأمان الموفرة لحد أدنى من سُبل الحفاظ على حياة عُمال الهدم أو عددهم على الأقل، فيما يحضر على المشهد جليًا وواضحًا آلة عملاقة مسؤولة عن نقل العُمال من الأرض للدور الثالث عشر، فضلاً عن العمل كعُنصر أمان على أهبة الاستعداد والتأهب لإعادتهم للأرض لدى أى لحظة خطر، يناديها عُمال الهدد بـ«الونش»، ويعولون عليها كثيرًا فى شعورهم بالأمان أثناء الورديّة ذات الست ساعات، والتى تنتهى أطراف أحزمة الأمان خاصتهم إليها.

فى السادسة صباحًا، موعده بالضبط، حضر عماد حمدى إلى مُحيط العقار المائل، مُقدمًا نفسه لمهمة شاقة ترك لأجلها الفرض الرمضانى مُحتاطًا بقاعدة الضرر المخفف الفقهية الشهيرة. يعمل عماد ذو الثلاثين عامًا كعامل هدد، ومن ثم ليست هذه خبرته الأولى فى الهدم، وإن تكُن واحدة من أغربها، وطوال مُدة عمله طوّر تفضيلات شخصية تجاه احتياطات الأمان، فالحزام رغم إعاقته للحركة نسبيًا، إلا أنه ضرورى للأمان، و«الونش» المنصوب طوال الوردية على أهبة الاستعداد كذلك، أما «الخوذة» ورغم ضرورتها، إلا أنها مُعيقة للحُركة على نحو تجعل عماد لا يُفضل ارتداءها، فيما لا يهجرها وحده، إذ يهجرها جميع الزُملاء. بدوره يمتلك عماد وجهة نظر فى خطة هدم يرى فيها أنه وبالوصول للطابق الحادى عشر، يتحتم الشروع فى هدم العقار الساند لما قد يشكِله من خطورة داهمة على العُمال لإمكانية سقوطه فى اتجاه غير مُتوقع. ورغم عمل عماد لليوم التالى فى الوردية التى يعنونها احتماء الشمس وهى الوردية الصباحية، بغير أن يُبالى، إلا أن احتمالات الخطر فى مواصلة الهدم فى العقار المائل منفردًا بعد الوصول للطابق الحادى عشر تجعله مصممًا على الإحجام فى هذه الحالة «بعد الدور الحداشر، لو أخدت مليون جنيه برضه مش هطلع».

فى رحلة تبديل الوردية الخطِرة تبادل عُمال الهدد النكات غير مُبالين بمهمة يؤدونها على قدم الخطورة، ورغم أن اشتراكهم فى مهمة واحدة تحت ظروف شبه موحدة، فقد اختلفت رؤاهم حول مهمة الهدد غير الاعتيادية تلك. عند وصوله للأرض، كان التراب قد كسا وجه عبدالسلام، عامل الهدد فى الوردية الليلية المنتهية لتوّها، وأحال حواجبه ورموشه للون الأبيض بلون أتربة المبنى المتداعى. عن الوضع مُعلقًا فى طابق الثالث عشر، يُفصح عبدالسلام عن المشاعر التى تواتيه على مدار الست الساعات التى يتوحّد فيها مع المرزبة ويسلم العقار المائل عشرات الطرقات التى من شأنها أن تطرح جدرانه صرعى، يقول عبدالسلام «اللى مايعرفهوش الناس عن الوضع فوق إنه مشقة حقيقية، غير الخطر»، فيما يحسب جيدًا موضع خُطاه فى هذا الظرف الحرِج، بخاصة بعد الوصول للدور الحادى عشر وصولاً لنقطة الارتكاز على العقار الساند «إحنا كده كده بنجيب العمارة دى على الأرض واحدة واحدة، التانية لازم تريّح واحدة واحدة معاها، فى اليوم الواحد بننزل نُص دور بس على الأرض»، يدلى عبدالسلام بشهادته حول الوضع بالأعلى وينصرف إلى نوم عميق فى انتظاره بمنزله، حتى حلول موعد الوردية الليلية التالية، قد لا يقطعها موعد تناول وجبة الإفطار الرمضانية، كما تجاهل السحور.

خمسة وعشرون عامًا هى عُمر عادل فى مهنة الهدم والإزالة، مكوّنة رصيدا من سنوات الخبرة يؤهله لترؤس عمال الهدم فى ورديته. عبر سنوات عمله البالغة رُبع قرن من الزمان، لا يستطيع عامل الهدد المخضرم أن يستحضر فى ذهنه حادثة مشابهة سوى حادثة انهيار عقار لوران السكندرى الشهيرة، يقول عادل «العمارة دى بتفكرنى بلوران، فى لوران قعدنا نهد 4 أيام، كانت حادثة غريبة زى الميل الغريب ده».

بحُكم احترافيته، تمتلك مواعيد الورديات صرامة مقدسة لدى عادل لا تؤثر فيها مواعيد السحور، ورغم عدم استطاعته تناول السحور إذ كان فى ميقات الوردية، لم يمنعه ذلك من إتمام صومه. لا يستبطئ عادل خطوات الهدم، والتى يضطلع بها ستة إلى سبعة عُمال فحسب فى الوردية الواحدة أتموا هدم دور واحد على مدار يومين بمُعدل نصف دور فى الأربع وعشرين ساعة، إذ يجدها مُتناسبة مع خطورة الوضع الإنشائى للمنطقة «إحنا بنضحى بنفسنا عشان غيرنا، لأن العمارة دى ماينفعش يطول وجودها هنا، عاملة بالظبط زى القنبلة الموقوتة، زى قطع الدومينو بتهدد العمارات اللى حواليها»، وفيما يتوقع بشكل وشيك تداعى العقار الساند، إلا أن ذلك لا يعفيه من قدره وزملائه فى استكمال المهمة: «رغم إن العمارة الثابتة لها خوازيق، لو شوفناها بتتحرك هنكمل شغل برضو عشان لقمة العيش».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية