عشية حرب الخامس من يونيو 1967 قال رئيس الوزراء الإسرائيلى ليفى أشكول: «لقد ربحنا مَهراً كبيراً، ولكن مع عروس لا نحبها!». كان الرجلُ يقصد أن الانتصار فى الحرب، وإن كان شيئاً عظيماً، إلا أنه يجلب معه مشاكله. هذا ما تحقق بالفعل. العبارة تُشير كذلك إلى جُملة من التبعات والنتائج غير المتوقعة التى تولدت عن 1967. إنها نتائج تجاوزت كثيراً واقع الحرب والصراع ومادته الأساسية. الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية فى 1967 خلق شرق أوسط جديداً، ربما بأكثر مما فعلت النكبة ذاتها قبل ذلك بنحو 20 عاماً. احتلال الأراضى العربية كان بالطبع نكبة جديدة أو متجددة. ولكن الأخطر هو ما فعله هذا الاحتلال فى السياسات العربية ذاتها. ما فعله بالمنطقة واقتصادها وأوضاعها الشاملة ومستويات الحياة فيها. بل ما فعله بالتطور الفكرى والحياة العقلية بها.
بعد أيام، تكون خمسون عاماً قد مرت على الخامس من يونيو. المنطقة التى نعيشُ فيها تغيرت أوضاعها وتبدلت أحوالها. صعدت قوى وهوت أخرى، وقوى ثالثة ما زالت تُراوح محلها. سادت أفكارٌ وأيديولوجيات، وتوارى غيرُها حتى طواه النسيان. على أن ظلال الخامس من يونيو الكثيفة ما زالت تُخيم على المنطقة. أخطر ما خلفته «يونيو» فينا- كمصريين وعرب- هو تلك الحالة النفسية الفُصامية التى كشفت الهزيمة عنها. هذه الهوة الخطيرة الشاسعة التى تفصل بين الفعل والقول. بين الواقع والطموح. بين الحقيقة وما عداها من تهويم وخيالات. لم يكن نصر أكتوبر العظيم كفيلاً بعلاج صدمة الجمهور العربى فيما جرى فى 1967، حتى بعد زوال العدوان عن سيناء. للخامس من يونيو معنى يتجاوز الهزيمة العسكرية إلى الردة الحضارية الشاملة. الانكسارة الكُبرى ضربت الوجدان، قبل أن تضرب الطائرات الرابضة فى المطارات.
السياسات العربية بعد 1967 ضربها الفُصام هى الأخرى. لقد وقر فى وعى النخب العسكرية والسياسية فى العالم العربى أن مواجهة إسرائيل ليست نُزهةً. أنها قد تُكلف الأوطان تُراباً غالياً ودماء زكية، بل قد تُكلف الملوك عروشهم والرؤساء كراسيهم. ولولا شجاعة الرئيس السادات فى اتخاذ قرار استعادة الأرض، حرباً وسلاماً، لظلت مصرُ أسيرةَ الخوف والمجهول لعقود وسنوات.
إدراك النخب العربية، العسكرية والسياسية، لحقيقة ضعفها حملها على اتخاذ قرار – غير معلن- بتحاشى مُقارعة إسرائيل فى ميادين القتال. لم يحدث، بعد حرب 1973، أن خاضت دولةٌ عربية حرباً ضد إسرائيل، سوى بالكلام (إلا إذا اعتبرنا التسعة والثلاثين صاروخاً التى أطلقها صدام على إسرائيل فى يناير 1991 نضالاً وسجالاً!). على أن هذا القرار غير المعلن بتجنب المواجهة صاحبه اتجاهٌ آخر خبيث لاستثمار النزاع مع إسرائيل وتوظيفه لصالح هذه النظم ذاتها. لصالح بقائها واستمرارها وتوطيد سُلطانها على مواطنيها.
إن أكبر المُعضلات التى واجهت النُظم السياسية العربية تتمثل فى الخواء الأيديولوجى. وبعد زوال الاستعمار الأوروبى، كانت إسرائيل هى أفضلُ ما يملأ هذا الخواء. لقد مثلت مُعاداة إسرائيل العمود الفقرى للبناء الأيديولوجى للنُظم العربية. بل إنها وفرت كذلك قِوام الخطاب الفكرى للمُعارضات التى تكونت ضد هذه النظم، يسارية كانت أو إسلامية. ومن هنا ولِدت ديناميكية شريرة من المُزايدات والمُزايدات المُضادة بين النُظم ومعارضتها. كانت إسرائيل، والموقف منها، هى المادة الأساسية لهذه المُزايدات المُتبادلة. نفسُ هذه الديناميكية تقريباً سادت العلاقات العربية-العربية. صارت إسرائيل «حاضراً غائباً» فى التفاعلات والعلاقات والصراعات والمنافسات بين النُظم العربية.
إذا أردتَ أن تعرِفَ إلى أى حدٍ كان «البناء الأيديولوجى» للنظم العربية هشاً خاوياً، تأمل واقع «البعثيين» فى سوريا والعراق. تأمل ما صار إليه حال البلدين، وكيف انهارت نُظمٌ كانت ملء السمع والأبصار. النُظم تنهار فى الأساس عندما تفقد مُبرر وجودها فى وجدانِ مواطنيها. أى معنى يُمثله النظام السورى لغالبية شعبِه؟، لا شىء تقريباً سوى حُكم الأسرة العلوية الأٍسدية. أى غاية كُبرى يُنافح عنها؟، لا شىء سوى البقاء فى السلطة. لقد وفرت إسرائيل غطاءً مثالياً لهذه النظم التى تجاوز بقاؤها «صلاحيتَها السياسية» بعقودٍ طويلة.
مُحاولة تغيير واقع النكبة الثانية فى 1967 دفعت بالعرب إلى نكبات أكبر. منطق المقاومة خرّبَ بُلداناً. مُقاومةُ الاحتلال حقٌ وواجبٌ، على أن ثمنها على المُجتمعات كان فادحاً وما زال: حربٌ أهلية كادت أن تشتعل فى الأردن فى 1970، إشعالُ فتيل حرب أهلية فى لبنان فى 1975، ثم جلبُ الاحتلال إليها فى 1982، تدميُر المُجتمع الفلسطينى بالضفة فى الانتفاضة الثانية 2000، تدمير لبنان فى 2006، تدمير غزة فى 2009 و2014.
1967 كانت أيضاً إيذاناً بصعود التيار الدينى بعد فشل القوميين. مُعاداة إسرائيل مثّلت كذلك ركيزةً أساسية فى البناء الأيديولوجى– الخاوى بدوره!- للإسلام السياسى. الإسلاميون ورثوا كذلك حالة الفُصام بين الخطاب المُعلن والسياسية العلنية، التى كان القوميون من بعثيين وناصريين قد سبقوهم إليها.
ومن عجبٍ أن المدّ الدينى التالى لـ1967 لم يُفرق بين عربٍ ويهودٍ وفُرس. بل إن تكريا – حصن العلمانية الحصين- جرفها هى الأخرى هذا المد العالى الذى ضرب الشرق الأوسط من أقصاه إلى أقصاه.
الشرق الأوسط الذى نعيش فيه اليوم تخلقت أيديولوجياته وديناميكياته وبناؤه الفكرى والسياسى فى رحم 1967. وُلد هذا الجنينُ مشوها، واليوم هو كهلٌ يبلغ من العُمر خمسين عاماً تحاصره العلل والأمراض. ما يُعرف بالربيع العربى كشفَّ عن هشاشة البناء وخوائه، ولكنه لم يكن علاجاً، بل أضاف إلى المرض مرضاً، وإلى الضعف ضعفاً.
«صفقة القرن» التى يحتاجها الشرق الأوسط حقاً هى الخروج من «عالم 1967» بكل مُفرداته وعلاقاته ورموزه. هذا العالم استنفد أغراضه وأوصلنا إلى ما نحن فيه من هشاشة مؤسسية، وضعفٍ فى بنية الدول، وفُصامٍ فى الخطاب السياسى. إن إيجاد حلٍ للصراع العربى- الإٍسرائيلى، بإنهاء الاحتلال والعودة إلى خطوط 67، سيُساعد بلا شك على الولوج فى أفق جديد. غير أن المنطقة لا تحتاج إلى إزالة آثار الاحتلال المادية فسحب، وإنما إلى إزالة «ذهنية 1967» أيضاً.