عمل دؤوب يستمر على مدار الساعة، الورش تنتشر هنا وهناك، وسيارات النقل بجميع الأحجام تدخل المنطقة محملة وتخرج محملة أيضا، وما بين دخول السيارات وخروجها تمر الحمولة بعدة مراحل، تبدأ بالتجميع والفرز والمعالجة ومرورا بإعادة التدوير وانتهاءً بالتشوين، ثم التحميل.
المنطقة كلها تشبه «خلية نحل» تعمل على قدم وساق فى صناعة القمامة، والتى يجوز أن تسمى بـ«صناعة الأسرة»، فالجميع يشارك كترس صغير فى ماكينة ضخمة تبدأ من الأب وتساعده الأم والأطفال، وإذا عز وجود أطفال يتم استئجار عمال آخرين.
رحلة الزبالة تبدأ بمرحلة الجمع السكنى منذ الصباح الباكر، والتى تتنقل من محطة إلى أخرى، ومن يد إلى يد فى منظومة الفرز بمراحله المختلفة، تمهيدا لإعادة استخدامها مرة أخرى، لتصل إلى يد المستهلك الذى كان قد ألقاها لتعود الدورة من جديد ويستعملها فى صورة أدوات ومعدات منزلية.
«المصرى اليوم» قامت بجولة فى شوارع حى الزرايب، الأكثر شهرة فى عالم جمع وفرز وإعادة تدوير القمامة فى مصر والعالم، وأجرت لقاءات عديدة مع أرباب وأبناء المهنة، واستمعت لشكواهم ومطالبهم، حيث عبر كثير من أهالى المنطقة عن غضبهم الشديد إزاء تجاهل الحكومة لهم وتهميشهم من خريطة الرعاية والاهتمام، فى حين كان مشهد الأطفال الصغار وهم يساعدون آبائهم فى فرز القمامة من المشاهد اللافتة للنظر.
ويعتبر مقهى «صفوت»، من المقاهى الشهيرة فى حى الزرايب، ويرتاده جامعو القمامة الذين يفضلون الإشارة إليهم باسم «الزبالين» فى شارع الفرن الرئيسى، حتى إن صاحب المقهى، المعلم صفوت البيباوى، يعمل بجمع القمامة، وورث المهنة أبا عن جد.
يجلس «الزبالون» فى وقت الراحة بالمقهى الذى يقع فى شارع الفرن الرئيسى، يحتسون أكواب الشاى وفناجين القهوة، والمشروبات الأخرى، إذ يعد المقهى ملتقى الزبالين ومتنفسهم، حيث يتسامرون ويناقشون أمور ومتاعب مهنتهم، ويدخنون السجائر والشيشة مع همومهم التى تتخللها أحيانا الضحكات والقفشات، بينما يسير الحديث منسجما مع إيقاع زهر و«قواشيط» و«طرقعة» أوراق الدومينو والكوتشينة.
رواد المقهى ينتمون إلى مختلف الأعمار والمستويات التعليمية، حيث يتلقى معظم أبناء الحى تعليما خاصا أو أجنبيا، لعدم توافر التعليم الحكومى باستثناء مدرسة واحدة تعمل ثلاث فترات، كما يمتهن آخرون حرفا أخرى يمارسونها إلى جانب مهنتهم الأصلية الموروثة، والتى يعتزون بها ولا يتخلون عنها، رغم تخرج كثير منهم فى الجامعات، وكلما سألت أحدهم ما مهنتك يكون الرد المألوف: «زبال وأفتخر وإحنا كلنا نعمل بشرف ومعندناش حد صايع أو متسكع».
وقال أيمن نصحى، مدير العلاقات العامة بنقابة الزبالين، خريج معهد الفنون التمثيلية، إن «الزبال» لا يقصر فى عمله الذى يستمر طول النهار ثم يعود بما جمعه حتى تشاركه زوجته وأطفاله فى عملية الفرز.
وأضاف نصحى، الذى عمل ممثلا فى عدد من الأفلام، ومن بينها «السفارة فى العمارة» مع الفنان عادل إمام، أن مستوى دخل الزبال يكفل له حياة عادية، خاصة أنه لا يعمل فى وظيفة منتظمة، لافتا إلى أن الشركات الأجنبية كانت تحصد كل المكاسب والزبال لا يحصل إلا على الفتات.
وانتقد منظومة جمع القمامة فى مصر، ووصفها بأنها «فاشلة»، وأنها لن تنضبط إلا إذا كانت تحت سقف واحد، بمعنى تشكيل إدارة أو وزارة لها، وهى منظومة ليست هينة، والبعض ينظر لها بسخرية، قائلا: «بلاش وزارة، نعمل أى كيان يكون رئيسها واحد بدون مسؤولية موزعة، فأنا أتبع وزارة الكهربا والتنمية المحلية ومحافظة القاهرة ورؤساء الأحياء ووزارة البيئة، فمن صاحب القرار؟ هذا هو الفساد بعينه».
وندد نصحى بانعدام الرعاية الصحية لمجتمع الزبالين قائلا: «الحكومة لا تخدم هؤلاء الناس، هناك أمراض وفيروسات، ده اللى قاعد فى بيتهم بعيدا عن جمع القمامة، والموظف فى بيتهم، يصاب بالمرض، وهؤلاء الناس يعالجون أنفسهم على حسابهم الشخصى فى مستشفيات بعيدة عن الحكومة، وليس هناك رعاية صحية، مفيش عندنا غير مركز اسمه الجبرتى، ولا يوجد به إمكانيات على الإطلاق، هنا الزبال ما يقدرش يستغنى عن شغله، لأنه لو انقطع عن العمل يتراكم عليه، ولا ينتظر فى الوقت نفسه مستشفى الحكومة بسبب الإهمال».
وفى غضب شديد، هاجم جميل عازر، التعنت الذى يمارس ضده، ومصادرة عربته وفرض غرامات «غير مبررة» عليه على حد وصفه، قائلا: «يفرضون علينا غرامات مستمرة، فضلا عن الظلم رغم أننا نعمل بشرف».
وقال وسط تلة كبيرة من القمامة بشارع سعد عازر: «أنا زبال وأفتخر بمهنتى، ومشكلتنا الرئيسية إننا مهمشين فى كل شىء، حتى فى قيمتنا فى الشارع، فعربية مثلا ماشية فى الشارع تلاقى مسؤول المرور، يقول: (أقف يا بتاع الزبالة هات رخصك)، ونقول له يا فندم أنا لسه طالع من المستشفى أو فندق، وياخذ غرامة 500 جنيه، أمين الشرطة ياخد منها 150، وهى مش غرامة فورية، دى (غرامة جيبه) ودون إيصال، وعربتى محجوزة منذ عدة أيام».
وتساءل «عازر»: «الحكومة عايزة مننا إيه؟ أنا باديك عمال وعربيات وسواقين، وادينى تصريح اشتغل، ومش عايز منك حاجة يا حكومة، إحنا بنشيل زبالة المستشفيات والمدارس وفيها حاجات معدية، ولما يتصل بالهيئة محدش ييجى وبيغيبوا بالأسبوع».
وتابع: «أنا متعاقد مع مستشفى وعقدى قانونى، وبادفع ضرائب وفيه سجل تجارى وبطاقة ضريبية، وآخر إقرار ضريبى العام الماضى، لآن السنة دى لسه ما خلصتش، ولدى أوراق السجل التجارى (رفع المخلفات)، وبادفع الضرائب اللى بيقدروها جزافيا، أنا بادفع 9 آلاف جنيه، بواقع ألف جنيه على كل منطقة بانقل منها المخلفات، فى حين أن مخلفات المستشفيات معظمها تذهب للمدفن الصحى، وتعدم فورا ولا استفيد منهم إلا بالكارتون».
وطالب «عارز» الحكومة بتصريح تسيير مجانى مع الرقابة: «يراقبنى إذا عملت أى مخالفة يقبض على، لكن تفرض على إتاوة! أنا أشيل زبالتك وتقولى يا تجيب يا متعديش؟! ورفعوا علىّ قضية 2907 لسنة 2017 الوايلى، إحنا بنشتغل بشرف معندناش حد بلطجى ولا عندنا تاجر حشيش أو صايع أو مسجل خطر».
واشتكى ابنه كرولس جميل عازر من الظلم البين الذى وقع على والده وتعنت المحافظة ضده وزملائه، قائلا: «أنا أعمل هنا وأجمع بين العمل والدراسة، وأساعد والدى وأسرتى وفخور بمهنتى، وعملى لا يتعارض مع الدراسة»، لافتا إلى أنه لن يدخل امتحانات آخر العام للتضامن مع والده فى قضيته، بعد مصادرة شاحنته، معتبرا فى الوقت نفسه منظومة الأكشاك «خراب بيوت»، لأن المحافظة تشترى المواد الصلبة، متسائلا: ماذا تترك لنا؟.
وقال شيقه الأصغر، مينا عازر، وهو يمسك القمامة بيديه: «أنا كمان باشتغل فى الزبالة، وبذاكر وباعرف إنجليزى، لأنى فى مدرسة خاصة، وبابا ودانى المدرسة دى علشان مفيش مدارس فى المنطقة إلا مدرسة واحدة بس، ونظامها مش قد كده».
ناصر فالح، بكالوريوس تجارة خارجية، وصاحب كوافير حريمى بالمنطقة، قال إن حى الزبالين يعتمد بشكل أساسى على جمع القمامة، وأن المنطقة غنية للغاية، ولديها اكتفاء ذاتى، ولا تتلقى أى دعم من الحكومة.
ولفت فالح، البالغ من العمر 31 عاما، إلى أن أسرته تعمل فى جمع وفرز القمامة، وأنه كان يعمل معهم حتى الانتهاء من تعليمه الذى لم يكلف أهله خلاله أى متاعب مادية، إلى أن عمل كوافير حريمى وافتتح محلاً فى المنطقة.
وأوضح أن معظم أبنائها يتعلمون فى مدارس خاصة وبعضهم فى مدارس لغات، لافتا إلى أنه لا توجد سوى مدرسة حكومية واحدة هى مدرسة الجبرتى التى تعمل ثلاث فترات يومياً، ولا تتسع لأبناء المنطقة الراغبين فى التعليم.
وأضاف: «نسبة الزواج المبكر بالمنطقة عالية جدا، ولا توجد بها نسبة بطالة على الإطلاق، والجميع يحبذون الزواج والإنجاب فى سن مبكرة»، مؤكداً أنه سعيد وفخور بمهنة أهله الذين يعملون فى جمع وفرز الكرتون وتوريده للمصانع بحوالى 1000 جنيه للطن، كما أنه سعيد بمهنته الجديدة «كوافير حريمى» والتى ترتبط أيضا بجامعى القمامة واحتياجاتهم فى التجميل، لافتا إلى أنها تدر عليه دخلا مرتفعا بسبب كثرة الاحتفالات والزواج بمنطقة الزرائب.
وقال صفوت البيباوى، 60 سنة، صاحب المقهى: «إحنا عددنا كبير جدا بحى الزبالين، ونأكل من العمل فى الزبالة، ولكننا خارج حسابات الحكومة»، مؤكدا أنه لا توجد أى خدمات سواء مدارس أو مستشفيات حكومية بالمنطقة، فى الوقت الذى ترتفع فيه نسب التعليم والمؤهلات العليا وطلاب كليات القمة بالمنطقة.
وأوضح أن ابنه أصيب فى عمله ويعالجه الآن بمستشفى خاص، بسبب عدم وجود مستشفيات حكومية مجهزة، وأن أبناءه الأربعة يعملون معه فى المقهى، ومتزوجون فى وحدات سكنية إيجار قانون جديد، الأمر الذى يؤكد عدم دعم الحكومة لهم فى أى منحى من مناحى الحياة.
وأشار البيباوى إلى أن الحكومة قامت بعمل حصر للمنطقة لنقلها إلى أماكن عمرانية جديدة ضمن مشروع تطوير العشوائيات الذى تتبناه محافظة القاهرة مع وزارة الإسكان، إلا أنه لم يتم أى شىء حتى الآن بسبب صعوبة نقل حى الزبالين التى تتعارض حياتهم ومصدر أرزاقهم مع الحياة العمرانية الجديدة.
أما رومانى، صاحب شركة، فقال: «مشكلتى مع رئاسة الوزراء والبرلمان، الحكومة مش عارفة تنظم نفسها بداية من رئيس الوزراء والمحافظ اللى رحب بالأكشاك، خلينا ننزل فى تانى أو تالت شارع جنب الأكشاك واتفرج على تراكم الزبالة، احنا أرباب المهنة ومتطعمين مابنعانيش من أمراض صحية نهائى، مفيش بدل عدوى، مفيش رعاية صحية، احنا شعب كادح ومفيش دعم من الدولة، النقابة تقوم بدورها، لكن نقيب الزبالين شحاتة المقدس (بيهاتى) وبيقول أقدر انضف البلد فى 3 شهور، نعمل تحدى ونشوف الشركة الفرنسية هتعمل إيه، والعقود هتنتهى لكن هيئة النظافة هتجددها».
أما جرجس صالحين عطية، 34 عاما، قال إنه يعانى من مشاكل كثيرة، منها مشكلته فى الجمع السكنى: «الساكن تقول له عايز فلوس يرفض الدفع وما يرضاش يخليك تشيل ويهددك بالشكوى للحى ويشيل منك العربية ويدفعك غرامة».
وحذر من منظومة الأكشاك فى الشوارع، مؤكدا أنها تتسبب فى تشريد مئات الأسر، قائلاً: «الناس تعانى أشد المعاناة من قسوة الحياة، الناس بتتمرمط، وأنا معرض للأمراض، هما مفكرين إن الزبال بياكل بمعلقة دهب وراجل ملياردير، فيه ناس بتنام ساعتين فى اليوم، وبعد كده تنزل على الشغل، وبينزلوا الساعة 5 الصبح، وبأمانة ربنا المنطقة الوحيدة دى شايفة المر، وماحدش سامعها، وهل يعقل أن نكون احنا بتوع الزبالة وندفع رسوم الكهربا على الزبالة؟».