«عش خاليا فالحب راحته عني.. فأوله سقم وآخره قتل» و:«وقلبي يحدثني بأنك متلفي ..روحي فداك عرفت أم لم تعرف ..أخفيت حبكم فأخفاني أسي حتي لعمري كدت عني أختفي» و:«عَرَفْتُ الهَوى مُذ عَرَفْتُ هواك وأغْلَقْتُ قَلْبي عَلىٰ مَنْ عَاداكْ.. أحِبُكَ حُبَيْنِ حُبَ الهَـوىٰ.. وحُبْــاً لأنَكَ أهْـل لـِذَاك»
كل هذه النفحات وغيرها من قصائد العشق الصوفي للشعراء ابن الفارض ورابعة العدوية والإمام سعيد بن أحمد بن سعيد والسهروردي وأبومدين الغوث ومحيي الدين ابن عربي جاءت كتوطئة إنشادية رصع بها المخرج عادل حسان والدراماتورج رشا عبدالمنعم العرض المسرحي البديع«قواعدالعشق الأربعون»وجميعها يجعل روحك تحلق مغتسلة نقية متحررة في ملكوت الفكرة والحالة المسرحية التي أبدعها المخرج عادل حسان وأسرة العمل وجميعها يعمق ويكرس للتراوح الصوفي وفكرة تماهي العشق بين ما هو أرضي وإلهي وجميعها يحلق بالروح للمرتبة الأعلي والأسمي من العشق وقد أداها منشد قوي وهو سمير عزمى والذي يمكن اعتباره خليفة قويا للشيخ النقشبندي وقد شاركته الغناء المطربةأميرة أبوزيد،التي كانت تغني بروحها مأخوذة بالحالة المسرحية قبل أن تغني بحنجرتها كما أدت دور كيرا المسيحية زوجة مولانا الرومي وبرعت فيه وقد وضع الدكتورمحمد حسنى موسيقي وإيقاعا مناسبا ومبرزا لروح الصوفية لهذه الأشعار وللحالة المسرحية ككل حتي أنك تشعر أن هذا العمل نجح في استدعاء تلك الطاقة الروحيةوالوجدانية لدي كل المشاركين فيه فكأن إحساسهم يسبق أداءهم
وإذا ما تأملنا فلسفة «قواعد العشق الأربعون»سنقف على فلسفة العرض وعلى رؤيتنا المغلوطة والموروثة لقناعاتنا الإيمانية ونري أرواحنا قد سمت ووصلنا إلى شفافيتنا التي نفتقدها
ومن القواعد الأربعين :
:«لا قيمة للحياة من دون عشق.. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف إنه كما هو نقي وبسيط العشق ماء الحياة،والعشيق هو روح من نار! يصبح الكون مختلفا عندما تعشق النار الماء»، و:«لو أراد الله أن نكون متشابهين لخلقنا متشابهين لذلك، فإن عدم احترام الاختلافات وفرض أفكارك على الآخرين يعني عدم احترام النظام المقدس الذي أرساه الله»و:«يجب ألا يحول شيء بينك وبين الله ،لا أئمة ولا قساوسة ولا أحبار ولا أي وصي آخر على الزعامة الاخلاقية أو الدينية، ولا السادة الروحيون، ولا حتى إيمانك آمن بقيمك ومبادئك لكن لا تفرضها على الآخرين» و:«إن القذارة الحقيقية تقبع في الداخل، أما القذارة الأخرى فتزول بغسلها ويوجد نوع واحد من القذارة لا يمكن تطهيرها بالماء النقي، وهو لوثة الكراهية والتعصب التي تلوث الروح والحب وحده هو الذي يطهر قلوبنا»و:«إن البحث عن الله متأصل في قلوب الجميع، سواء أكان وليا ام قديسا أم مومسا فالحب يقبع في داخل كل منا منذ اللحظة التي نولد فيها، وينتظر الفرصة التي يظهر فيها منذ تلك اللحظة يقبع الكون داخل كل إنسان، كل شيء تراه حولك، بما في ذلك الاشياء التي لا تحبها، حتى الاشخاص الذين تحتقرهم أو تمقتهم، يقبعون في داخلك بدرجات متفاوتة»و:«لا تبحث عن الشيطان خارج نفسك فالشيطان ليس قوة خارقة تهاجمك من الخارج بل هوصوت عادي ينبعث من داخلك فاذا تعرفت على نفسك تماما وواجهت بصدق وقسوةجانبيك المظلم والمشرق،عندها تبلغ أرقى أشكال الوعي وعندما تعرف نفسك، فإنك ستعرف الله»و:«الطريقة التي نرى بها الله هي الطريقة التي نرى بها أنفسنا، والطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من العقل،»
هذه بعض من قواعد العشق الأربعين تضمنها والتي حولها عادل حسان إلى لغة مسرحية عبر مشاهد درامية تقدم لها وتترجمها ونقف من خلال العرض على مدي صعوبة مسرحة رواية صوفية الطابع وهذاما قامت به الدراماتورج رشا عبدالمنعم يعاونها اثنان من الشباب وهما ياسمين إمام شغف وخيري الفخراني،إذ حولوا رواية ( قواعد العشق الأربعون)للروائية التركية إليف شافاك لصيغة مسرحية والرواية صدرت في أمريكا وفي انجلتراعن دار النشر بنجوين في 2010 وبيع منها أكثرمن نصف مليون نسخة وترجمت لأكثر من ثلاثين لغة منها أكثر من ترجمة عربية
وفي الرواية حدثان رئيسيان يمضيان بالتوازي فيما يشبه المقاربة أحدهما في الزمن المعاصروالآخر في القرن الثالث عشر قرن الصراعات الدينية حيث يحكى قصة اللقاء بين الفقيه جلال الدين الرومى والصوفى شمس الدين التبريزى الذي استطاع أن يغيرشخصية فذة مثل الرومي من رجل دين ناجح له مريدوه وينعم بحب من حوله لكن حياته رتيبة ونمطية فيتغير إلى صوفي وشاعريدعوللحب وقبول الآخر والتسامح ويبتدع التبريزي والرومي رقصة الدراويش (سما) وانتهت أحداث الرواية بمقتل التبريزى
أما الخط الزمني الثاني والمعاصرفي الرواية فيتمثل في قصة السيدة (إيلا روبنشتاين ) الأمريكية التي قاربت الأربعين وتعيش حياة رتيبة مع أبنائها وزوجها «ديفيد» الطبيب الناجح وتحصل على عمل كناقدة في وكالة أدبية وكان أول ماكلفت به كتابة تقريرنقدي عن رواية «الكفر الحلو»لمؤلف يهودي اسمه«عزيز زاهارا»فإذا بها تفتتن بقصة بحث شمس التبريزي عن جلال الدين الرومي وتؤخذأيضاً بقواعد العشق الأربعين وما تنطوي عليه من رؤية روحية للأشياء والأفكار وهي رؤية تقوم على الحب والتسامح والتوحد في العشق الإلهي ومخاطبة الجانب الخير في الإنسان حيث لاتنازع طائفي أو عقائدي وحيث القبول بالآخرين ووجود الحب في داخل كل شخص منا ويتأكد لها أن قصتهاماهي إلا صيغة معاصرة لسيرةجلال الدين الرومي وأن مؤلف الرواية (زاهارا) أحدث فيها ماأحدثه التبريزي بالرومي من تحول فارق إلى الأفضل وأن هذا الروائي كأنما ساقته الأقدار ليريها طريق الحرية وقد انقلبت حياتها رأسا على عقب وبدأت تراجع حياتها الأسرية والزوجية فهجرت كل شيء بعدأن تعرفت على مؤلف الرواية ووجدته يتمتع بالصفاء والنقاء والتسامح متشبها بالتبريزي
ثم أسلم زاهارا اليهودي مؤلف رواية الكفر الحلو وأصبح اسمه «عزيز”و علق قلادة في صدره عليها شمس لتذكره بشمس التبريزي وتكتشف ايلا أن التبريزي لم يمت منذ 800 سنة،وأن شخصيته تتجدد في كل العصورفهاهو زاهارا الهولندي اعتنق الإسلام وتشبه بالتبريزي بحكمته وفلسفته ومثلما كان جلال الدين الرومي متزوجا من امرأة مسيحية فهاهي إيلا المسيحية قد عشقت يهوديا تحول إلى الإسلام وحين توفي دفن في قونيا إلى جوار قبر الرومي وأكدت الروائية أن القرن الحادي والعشرون لايختلف كثيراًعن القرن الثالث عشروأن هذين القرنين كانا عصرصراعات دينية
ورغم أن مسرحية قواعد العشق الأربعون تستلهم الرواية وفلسفتها وجانبا منها – إلا أن المخرج والدراماتورج اختارا لها إبداعا مسرحيا موازيا استحضر الجوهر وترجم القواعد الأربعين إلى مواقف درامية مسرحية تواجه النزعات التكفيرية المعاصرة في عرض لعب على الخط الأول من الرواية المتمثل في علاقة التبريزي بالرومي
وعبر جو روحاني وصوفي وصياغة مسرحية محكمة ديكورا وموسيقي واخراجا وأداء وغناء ومواقف درامية نجد الرسالة ذاتها تصلنا بعناصر جذب فنية راقية ومعاصرة والعرض يكرس لجملة من الأشياء ومنها ضرورة إعادة مراجعة وفرز قناعاتنا الفكرية والإيمانية والقبول بالآخر مهما كانت عقيدته ذلك لأن الله لم يخلقنا متشابهين فلولا اختلاف ألواننا وعقولنا وقلوبنا ولغاتنا ومستوياتنا لفسدت الأرض
وتقول قصة العرض المسرحي أن شمس الدين التبريزي (الفنان بهاء ثروت ) يقوده حدسه للبحث عن شخص سيرث عنه علما مختلفا يعتمد إعمال العقل وتطهير الروح ويؤكد على وجود الخير والشر والجنة والنار بداخلنا ويدفعنا للتعامل مع الكون ومن فيه وفق نقائنا وليس وفق مافي نفوسهم أو سلوكهم ويلتقي التبريزي بجلال الدين الرومي (الفنان عزت زين ) وهو يلقي موعظة الجمعة ويدور حوار راق بينهما حول ماهية الإيمان ويتحول مجري حياة وقناعات الرومي ثم يستمر الحوار أربعين يوما في غرفة الرومي لم يبرحا مكانهما حتي أن كيرا زوجة الرومي ساورها القلق على زوجها كما تبدي الأسرة امتعاضها من هذا الدرويش الذي استلب الرومي وكان الرومي قد تبني الفتاة الجميلة «كيميا» وأراد تزويجها للتبريزي الذي أبدي اعتراضا ولم يمسها طوال الزواج ثم يجلب التبريزي داعرة من بيت بغاء التمس فيها الإيمان وأخذت بحديثه الإيماني فيحول مسار حياتها تماما وفجأة يختفي التبريزي ليواصل محبوه وأولهم الرومي البحث عنه في كل مكان ليظهر مجددا في آخر العرض ويبتدع رقصة سما «المولوية» مع جلال الدين الرومي وفي حفل الرقصة يتم اغتياله
وهناك موقف مسرحي يوضح الحجة الفارقة بين الاتباع والنقل وبين إعمال العقل في مواجهة بين الرومي والشيخ ياسين (الفنان هشام على ) ونعرف من التبريزي أن الكلام ماهو إلا ظل الحقيقة ونري مشهدا يقول فيه التبريزى لكيرا المسيحية زوجة الرومى: ليس لدينا في الإسلام مريم، أتعرفين لماذا؟ لأن مريم تخصنا أيضًا كما تخصكم،
أما أسرة العمل فقد كان عادل حسان موفقا فيه للغاية وعلي رأسهم بهاء ثروت والذي لم يكن خطابه الإيماني زاعقا أوخطابيا ولكنه أداه بروحه وإحساسه قبل حنجرته وكان متلبسا للحالة الروحية للنص والشخصية ونقف على نفس الملمح لدي الفنان عزت زين بكل مستويات أدائها وانفعالاتها وفوزية في دورالفتاة «كيميا»الفتاة التي تبناها الرومي والمطربة أميرة أبوزيد في دور«كيرا» زوجة جلال الرومي وقد جمعت بين التمثيل والغناء وياسر أبوالعينين وهشام على «ابنا الرومى» ومحمد عبدالرشيد «شيخ تكية الدراويش» ودينا أحمد «العاهرة» وإيهاب بكير «بيبرس وهدى عبدالعزيز» صاحبة بيت البغاء والتي جسدته على نحو كوميدي جميل وغير خارج «وهانى عبدالحى في دور علاء الدين وإسلام بشبيشي(صاحب الحانة)وهاني ماهر(السكير)وإيهاب بكير(بيبرس) والفنانين أحمد سيف وعمرو مراد وإيمان ومصطفي حسن ونيرة وعبدالعزيز محمد وعلي الصباحي ومحمد شوقي وحاتم على وحسام معمر
أما الديكورفقد صممه باقتدار وتوافق عبقري مع طبيعة النص الفنان مصطفى حامد وكان في العمق المسرحي في شكل تسع غرف على طابقين وكان أشبه بخانات الروح والعقل والحياة المفتوحة على الجمهوروتجسد تفاصيل الحياة وفي خانتين منهما يمينا ويسارا راقصا المولولوية وفي إحداهن غرفة الرومي ومكتبته وكانت مسرحا لأكثر من حوار ومشهد وغرفة لباحة البيت وخانة فيها شيخ تكية الدراويش(الفنان محمد عبدالرشيد ) وهناك حوار مسرحي بين هذه الخانات وحوارات بينها وبين خشبة المسرح حيث المسجد والحانة والسوق وبيت البغاء كما لعبت الإضاءة ل(إبراهيم الفرن) دوراحدثيا ودراميا في العمل وكان الأزرق المقدس سيد الألوان مع تغير اللون وانتقال دائرة الضوء نعايش تماما حالة الحدث وطبيعة الموقف فكان لكل حدث إضاءة تترجمه وتضفي حيوية وحركةعليه وكان راقصو الدراويش المولوية حاضرين من بدء العرض لختامه يرقصون رقصة «سما» حيث– وفق الرومي والتبريزي- يمكن التقرب إلى الله بالرقص والغناء والموسيقى أيضا كما تميز أداء هدى عبدالعزيزصاحبة بيت البغاء واقتنصت ضحكات الجمهور دون ابتذال فيما تميز هشام على في أدائه دور الشيخ التقليدي الذي يردد كببغاء ما حفظه من نصائح دينية دون تفكير
وأخيرا يتعين الْإشادة بالجهد التنظيمي المحكم والرائع لمدير المسرح الحديث أشرف طلبة وممدوح حفني رئيس الصالة والشباك والمشرف على قاعات مسرح السلام وإدارة الانتاج وهناء سلام في الملابس وفريق الإضاءة والديكور