جاء الفوز الساحق للمرشح الوسطي، إيمانويل ماكرون، في سباق الرئاسة الفرنسي ليدشن مرحلة جديدة في تاريخ فرنسا ويؤكد على نجاح الفرنسيين في التصدي للتطرف ومواجهة التيار الشعبوي وإعلاء قيم الديموقراطية والعلمانية الفرنسية.
تربع ماكرون على عرش الإليزيه بعد فوزه في الجولة الثانية (الإعادة) من الانتخابات الرئاسية بنسبة 66.1% من إجمالي أصوات الناخبين مقابل 33.9% لمرشحة الجبهة الوطنية مارين لوبن، التي حققت في تلك الجولة أفضل نتيجة لحزبها على مدار تاريخه ولكنها فشلت في تحقيق حلم اليمين المتطرف في الوصول إلى سدة الرئاسة.
ويعتبر المراقبون أن اختيار الفرنسيين لماكرون يعكس العديد من العلامات البارزة التي تجلت بقوة على الساحة السياسية وميزت هذا السباق الرئاسي المثير. أول هذه العلامات أن هذا الفوز يعكس تغيرا جذريا في قواعد اللعبة السياسية في فرنسا. فللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، التي أسسها الجنرال شارل ديغول عام 1958، يتم انتخاب رئيس للجمهورية لا ينتمي إلى أي من الأحزاب السياسية الرئيسية في البلاد ( حزبا اليمين واليسار التقليديين) وهو ما يعبر عن خيبة الأمل التي يشعر بها الفرنسيون إزاء التيارات السياسية الرئيسية.
نجح ماكرون في استغلال هذا الاستياء الشعبي، وتطلع إلى حركات سياسية بزغ نجمها في دول أوروبية أخرى، مثل حركتي بوديموس في إسبانيا وحركة النجوم الخمس في إيطاليا، وسعى إلى تقديم نموذج وسطي جديد يجمع بين اليمين واليسار من خلال تأسيسه لحركة «إلى الأمام» في أبريل 2016 بجهود شعبية وحصوله على تأييد مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية، كما نجح خطابه المعتدل في جذب أصوات قطاع واسع من الشباب في المناطق الريفية والمدن الكبرى، وفتح المجال أمام ضخ دماء جديدة في الحياة السياسية الفرنسية.
ثاني العلامات التي أبرزها المشهد السياسي الراهن هي أن فوز ماكرون أثبت درجة عالية من النضوج السياسي والحكمة والسيادة الفكرية التي يتحلى بها الشعب الفرنسي مقارنة بنظيره الأميركي. فعلى الرغم من الاستياء الشعبي إزاء الأحزاب الرئيسية التي أخفقت في إدارة شؤون البلاد غير أن الفرنسيين قد أثبتوا من خلال هذا الاقتراع الرئاسي رفضهم تسليم السلطة إلى رئيس من اليمين المتطرف يعزل فرنسا عن محيطها الأوروبي ويتبنى خطابا متطرفا مخالفا لقيم البلاد وتاريخها. ونجحت فرنسا بذلك في الدفاع عن قيمها الوطنية على نحو فشلت في تحقيقه الولايات المتحدة بانتخابها لدونالد ترامب في نوفمبر الماضي.
ويؤكد المراقبون أن انتخاب ماكرون قد وضع حدا لتنامي التيار الشعبوي داخل أوروبا، وهو ما مهدت له انتخابات النمسا وهولندا من قبل، غير أن انتخابات الرئاسة الفرنسية دائما ما يكون لها طابع خاص ومميز فهي من أكثر الانتخابات أهمية على المستوى الأوروبي نظرا لما يتمتع به الرئيس من صلاحيات واسعة لذلك مثَل فوز ماكرون علامة فارقة في تاريخ البلاد وحدثا أوروبيا خاصا بكل المقاييس.
كما أن هزيمة لوبن مثلت كابحا قويا لقوى اليمين المتطرف في أوروبا، والتي تطمح في الوصول إلى السلطة خلال السنوات القادمة.
ثالث العلامات التي جسدها فوز ماكرون هي تغير خريطة التحالفات الحزبية على الساحة السياسية الفرنسية، خاصة وأن كافة الأنظار تتجه إلى الانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها في يونيو المقبل والتي يعتبرها الجميع الاختبار الحقيقي لقدرة ماكرون على إدارة شؤون البلاد ورسم معالم المرحلة المقبلة في عهده.
وتخيم أجواء من الغموض على الانتخابات التشريعية المقبلة في ضوء المعطيات الراهنة التي توضح عدم قدرة أي من الحزبين الكبيرين، «الجمهوريين» اليميني والحزب الاشتراكي، الحصول على الأغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة المقبلة. كما تعد حركة ماكرون «إلى الأمام» حركة ناشئة تفتقد إلى الكوادر ذوى الخبرة في الحياة السياسية كما أنها تفتقد إلى العدد الكافي من المرشحين لملء اللوائح لـ 577 مقعدا. أما بالنسبة لحزب الجبهة الوطنية فهو لا يحظى حاليا سوى بنائبين في البرلمان ولن يكون قادرا على تشكيل أغلبية برلمانية.
وتبقى مسألة الانتخابات التشريعية على درجة عالية من الأهمية، حيث إن عدم حصول فريق ماكرون على الغالبية البرلمانية سيعرقل إجراءات تشكيل حكومة وسيصعب على الرئيس المنتخب تطبيق وعوده الانتخابية بسلاسة من دون صيحات «متمردين» معارضين في البرلمان.
في ضوء ماسبق يتبين أن فوز ماكرون مثل حدثا غير مسبوق على الساحة الفرنسية والأوروبية، فقد قدمت فرنسا نموذجا مختلفا في الحياة السياسية، في وقت تزامن مع تصاعد التيارات الشعبوية المتطرفة تمثل في وصول ترامب للسلطة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويبقى الاختبار الحقيقي للرئيس الفرنسي الجديد في الانتخابات التشريعية التي ستعطي مؤشرا واضحا لما ستكون عليه ملامح المرحلة القادمة من حكمه.