x

عبد الناصر سلامة حـوار الضرورة عبد الناصر سلامة الأحد 26-03-2017 21:22


انتابتنى دهشة كبيرة، حينما قال سائق التاكسى: أنا لا أهتم إذا بلغ سعر كيلو اللحمة ٢٠٠ جنيه، لا فرق عندى إذا كانت بخمسين أو بخمسمائة، ذلك أننى فى كل الأحوال لن أشتريها!!. قلت كيف؟، أجاب قائلاً: ببساطة أنا أعمل على هذا التاكسى مقابل يومية ٦٠ جنيهاً، أعمل سبعة أيام فى الأسبوع حتى لا تتوقف اليومية، مطلوب إنفاق اليومية على الأسرة دون زيادة، كيف يمكن أن أشترى لحمة حتى لو كان سعرها ٣٠ جنيهاً، كيف يمكن شراء أى شىء بخلاف الفول والطعمية والباذنجان والبطاطس وما شابه ذلك، أحاول توفير جنيهين أو ثلاثة كل يوم قدر الإمكان، لظروف المرض والعلاج، وأحياناً لا أستطيع، كل آمالى ألا تزيد أسعار الفول والطعمية والخضار أكثر من ذلك، بلاها لحمة، وبلاها دجاج، وبلاها فاكهة، بلاها أى شىء آخر!!.

لمن تتملكه الدهشة أيضاً، أود توضيح أن ذلك الراتب الشهرى، المتمثل فى ١٨٠٠ جنيه، لا يتوافر لنحو ٣٠٪‏ من الأسر المصرية، أى أن الحالة التى نحن بصددها أفضل حالاً من كثير، أيضاً أود توضيح أن راتب الـ ٣٠٠٠ جنيه لم يعد هو الآخر كافياً لتحقيق أبسط مقومات الحياة، وهو ما لا يتحقق لأكثر من ٥٠٪‏ من أفراد الشعب، ذلك أن حالة الغلاء السائدة الآن رفعت نسبة من هم دون خط الفقر إلى أعلى مستوياتها، خصماً من رصيد الطبقة المتوسطة، التى كانت بالكاد تستطيع الإيفاء بالالتزامات اليومية الضرورية.

حالة السائق تتكون من أسرة تضم طفلين لم يلتحقا بالتعليم، الذى يلتهم الجزء الأكبر من دخل الأسرة، بدءاً من مراحله الأولى، هى حالة أفضل أيضاً من هؤلاء الذين لم يستطيعوا العثور على فرصة عمل، هى حالة أفضل من ذلك الذى لم يستطع الزواج، أيضاً أفضل من ذلك الذى لم يجد وحدة سكنية تؤويه، قد يكون ورثها، قد يكون دبرها، فى كل الأحوال هى حالة إيجابية جداً مقارنة بملايين الحالات الأخرى، التى لم تستطع تحقيق أى من ذلك، لذا فهو قد أزاح من ذاكرته اللحمة أو الفراخ أو حتى الفاكهة.

لنا أن نتخيل أن من يتقاضون هذا المبلغ شهرياً، مطلوب منهم استخدام وسائل المواصلات العامة، مطلوب منهم تسديد فواتير ماء وكهرباء وغاز وتليفونات، مطلوب منهم التردد على الطبيب ولو مرة واحدة شهرياً، صرف روشتة علاج مرة واحدة شهرياً، لديهم طفل واحد يجب أن يحصل على دروس خصوصية أو فى مجموعات، مطلوب منهم ثلاث وجبات يومياً، مطلوب منهم كسوة الشتاء والصيف، لم نتحدث عن تحاليل طبية، أو أشعات، أو مجاملات، أو أى ترفيه من أى نوع، فى النهاية مطلوب منهم الابتسامة، والإجادة فى العمل، وضبط النفس، والامتناع عن تلقى الرشوة، والانتماء للوطن، وترديد تحيا مصر، وربما تسلم الأيادى.

للأسف، خرج علينا من خرج فى البرلمان، خلال الأسابيع والشهور الماضية، يتحدث عن أن جنيهين فقط يمكن أن يقضى بهما المواطن يومه على أرض المحروسة، ثم خرج من خرج من مذيعى برامج التوك شو يردد المقولة نفسها، ثم خرج خطباء منابر الجمعة يرددون ويتحدثون فى السياق نفسه أيضاً، بما يؤكد أنها كانت مبرمجة، أو موجهة من وإلى كل الجهات، فى إطار التبشير بالفقر، والترويج لاستمرار هذه الحالة، بما يشير أو يدلل على أن القادم لن يكون أفضل، وبما يؤكد أن الأفق توقف عند هذا الحد.

هى الآفة الصحفية السيئة، التى تجعل الإنسان يخوض فى الحديث مع الآخرين، حول الأوضاع العامة، كلما سمحت الظروف أو كلما كانت هناك فرصة، هو (حوار الضرورة) مع الاعتذار للمؤلف الراحل، ذلك أنه يؤدى إلى ارتفاع ضغط الدم والاكتئاب، وأحياناً البلادة، لذا يمكن أن نفهم سر ابتعاد المسؤولين عن الرأى العام والشأن العام، إلا أنه فى كل الأحوال لا يعقل ولا يمكن القبول بأن هذا المسؤول أو ذاك، ليس على دراية أو اطلاع بأحوال المواطنين، إن لم يكن من خلال وسائل الإعلام التقليدية، من صحافة وتليفزيون، فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعى، أو حتى من خلال علاقاته العامة ولو فى أضيق نطاق، بما يطرح تساؤلاً مهماً، حول كيفية استمرارهم فى مواقعهم، ما دامت الأوضاع قد وصلت إلى هذا الحد، وما داموا قد عجزوا عن تحقيق أى تقدم، ولو فى مجال الفقر أو الجوع.

هو حوار مؤلم أيها السادة، ذلك الذى يتضمن أيماناً مغلظة بأن الأطفال قد خلدوا للنوم ليلة أمس دون عشاء، نظراً لضيق اليد، أو أن ذلك التلميذ قد ترك التعليم للسبب نفسه، أو أن خطوبة البنت قد فشلت نتيجة عدم الوفاء بتعهدات الجانبين، أو أن أحد أفراد الأسرة قد لقى ربا كريما، نتيجة أنه لم يستطع تدبير قيمة العملية الجراحية، أو أن ذلك انتحر لعدم استطاعته سداد ديونه، ما بالنا بمن قتل جميع أفراد أسرته قبل أن يقدم على هذه الفعلة الشنيعة، ما بالنا بمن يموت كمداً نتيجة كثرة المآسى وعِظم الحسرات؟.

الأهم من كل ذلك، هو أن خيرات وثروات مصر يشهد بها الدانى والقاصى، المشكلة الأساسية تكمن فى وضع الرجل غير المناسب فى هذا المكان أو ذاك، هو الفشل الإدارى ليس أكثر، هو فشل الاختيار، كما فشل القرار.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية