«من المبكر إعلان انتصار نهائى حتى نتأكد من أن بقايا النظام الليبى أدركت أن اللعبة انتهت».. بهذه الكلمات أكد وزير الدفاع البريطانى ليام فوكس مؤخراً أن الأمور فى ليبيا لم تصل بعد إلى مرحلة الحسم والانتصار النهائى للثوار، رغم أن سيطرتهم على العاصمة «طرابلس» تشكل نقطة تحول فاصلة فى الحرب الليبية.
وبينما تسير العمليات على الأرض ببطء فى مثلث «سرت- الجفرة- بنى وليد»، يشير تحليل أعده «مركز الجزيرة للدراسات»، إلى أن نظام العقيد الليبى معمر القذافى يعتمد على استغلال «خطوط الصدع» القائمة فى تركيبة الدولة والتى عمد إلى تغذيتها إبان حكمه على مدى 42 عاماً لبناء مصادر قوة توفر إمكانية الاعتراف به كرقم صعب فى معادلة الحكم الجديدة فى ليبيا، وتشمل خطوط الصدع 4 أبعاد، هى البعد الاثنى والقبائلى والمناطقى والإسلامى.
وفيما يخص «البعد الاثنى»، نجد أن التركيبة السكانية فى ليبيا تنقسم إلى 4 اثنيات، «العربية» الغالبة (نحو75%) و»الأمازيجية» (8%) التى تقطن الشمال الغربى الليبى ولها امتداداتها فى تونس والجزائر والتى ظلت على عدائها للنظام الذى عمد إلى تذويب قسرى لهويتها، و«الطوارق» وهم من البدو الرحل الذين يعيشون ما بين الجنوب الغربى الليبى وكل من مالى والنيجر وبوركينا فاسو، ومثل جزء منهم دعماً دائماً لنظام القذافى، سواء فى زعزعة استقرار الدول المجاورة أو فى مواجهة معارضى الداخل، ثم تأتى اثنية «التبو» (1.5%) وهى مجموعة قبائل تقطن أقصى الجنوب الليبى وشمال تشاد والسودان والنيجر، وقد قام النظام باستغلالهم فى مغامرات عسكرية فى كل من تشاد وأوغندا. ويبدو من هذا البعد الاثنى اعتماد النظام على جزء من الطوارق والتبو فى دعم نظام حكمه واختراق الجوار الإفريقى من خلال تركيزهم فى «إقليم فزان»، وأشارت «الجزيرة» إلى أن أطراف من تلك الاثنيات تولت خلال الثورة الليبية جلب أقرانها من دول الجوار كمرتزقة نظير مبالغ مالية ووعد بالتجنيس.
أما عن «البعد القبائلى»، فقد أمعن النظام السابق فى ترسيخ الهيكل القبلى على حساب مؤسسات الدولة لتعزيز نفوذه السلطوى. فبينما يتواجد فى ليبيا أكثر من 140 قبيلة وعشيرة، فإن بضع عشرات منهم تتمتع بوزن سياسى نافذ، وعلى رأسها قبيلة «القذاذفة»،
إلا أن البعد القبلى لا يشكل سنداً قوياً فى محاولة النظام السابق استعادة بعض من مصادر قوته لعوامل عدة، منها نمو الحالة الحضرية المستمرة منذ عدة عقود فى المجتمع الليبى والتى خففت من الهوية القبلية لصالح الانتماءات الوطنية والأيديولوجيات العامة.
وعن «البعد المناطقى»، فإن هناك قدرا من الحساسية المناطقية فيما بين إقليمى «طرابلس» و«برقة»، فعقب الانقلاب العسكرى فى 1969، أخذت طرابلس بقوة مكانها كمركز السلطة، فى الوقت الذى عمد فيه النظام إلى وضع إقليم برقة فى آخر سلم أولويات برامج التنمية، وهو ما جعل الإقليم مصدر عدة انتفاضات غير ناجحة، لكن الثورة قدمت البعد الوطنى الجامع على حساب ما كان يأمله النظام فى الإبقاء على التوترات المناطقية، ولكن تبقى مسألة «إقليم فزان» الذى عمد النظام إلى تغيير تركيبته الديموغرافية لصالح تثبيت دعائم سلطته.
وفيما يخص «البعد الإسلامى»، يروج النظام السابق لارتباط الثوار بـ«القاعدة»، لكن هذه الأقاويل لا تلقى رواجاً كثيراً لدى الدوائر السياسية العليا فى دول التحالف الكبرى، ويعود ذلك إلى اطلاع أجهزة استخبارات هذه الدول على هياكل هذه الجماعة، فضلاً عن إدراكها لاختلافاتها الجوهرية عن تيار «العولمة الجهادية» الذى تقوده القاعدة، حيث تتصف الجماعة الليبية بالتوجه القطرى الداخلى فى معاداة النظام.
وهكذا يمكن القول إن رهانات النظام السابق على استغلال خطوط الصدع الرئيسية السابقة تبدو فى حدود حظوظها الدنيا، ومن ثم فإن ما تبقى للنظام من رهانات سيتركز على الإطار الخارجى فى إستراتيجيته. ففى حالة الفشل المتوقع خلال الأيام المقبلة فى الاحتفاظ بمثلث الولاء فى الحزام الساحلى الشمالى «سرت- الجفرة- بنى وليد»، ستتركز أنشطة النظام على منطقة «الحزام الجنوبى»، خاصة على الخط الممتد من «جنوب الجفرة- سرير تيبستى - جات» وجنوبه وامتداداته فى دول الجوار، وفى هذا المجال فإن بعدين رئيسيين يلزم تناولهما وهما «قاعدة العمليات فى إقليم فزان» و«طبيعة العمليات المتوقعة».
ففى سعيه للحفاظ على سلطته الممتدة والتوسع فى النفوذ نحو الخارج، اعتمد النظام السابق «إقليم فزان» قاعدة لاحتياطى رصيد القوة لديه من خلال إدراك عميق لأهميته الاستراتيجية، لكونه نافذة مفتوحة على دول الجوار جنوباً وغرباً، وتركيبته القبلية من «الطوارق» و«التبو» الموالين للنظام السابق، بالإضافة إلى الثروة النفطية الضخمة فى جنوب الإقليم، وهو ما يؤهله لإمكانية استمراره ككيان سياسى مستقل بمقومات اقتصادية ذاتية. وقد عمد النظام السابق إلى تغيير جذرى للتركيبة الديموغرافية فى الإقليم من خلال جلب جزء من قبائل «الطوارق» و«التبو» من دول الجوار وتوطينهم، الأمر الذى يضمن جسراً لتدفق الإمدادات والنفوذ معاً فى اتجاه جنوب الصحراء الكبرى.
وبناء على الخبرة السابقة من ردود أفعال النظام السابق على مدى العقود الـ3 الأخيرة من القرن المنصرم، التى اعتمد فيها على العمليات الإرهابية عبر توظيف جماعات متطرفة كوكلاء على غرار حركات التمرد الإفريقية، فإن سلسلة العمليات الانتقامية التى يتصف تنفيذها وتأثيرها بردود أفعال دولية وإعلامية واسعة، قد تصبح هى مجال العمل المتاح لنظام سابق اتصفت أفعاله بخليط من الشعور بالعجز والرغبة فى الانتقام.