فى السبعينيات من القرن الماضى استيقظت مصر على خبر أطار النوم من عينيها، طفل يصعد فوق سطح العمارة مرتديا بيجامته، فاردا يديه ثم يصرخ قائلا «أنا.. جي» وبعدها ملأت دماؤه جنبات الشارع بعد أن فاضت روحه، وعلى الفور أصدر المسؤولون قرارا بإيقاف عرض مسلسل الأطفال «فرافيرو العجيب»، الذى كان يقدم شخصية فرافيرو القادر على الطيران بمجرد أن يقول «أنا.. جي». فى حوار للدكتور يوسف إدريس «أبيض وأسود» أجراه فى الستينيات أعاد التليفزيون بثه قبل نحو عام، كان وقتها تدخين الضيوف فى الاستديو أمام الكاميرا مباحا، انتقل يوسف إدريس بالحديث عن السينما وتأثيرها على السلوك، فقال للمذيعة وهو ينفث دخان سيجارته إنه عندما وصل لمرحلة المراهقة بدأ تدخين السجائر، كانت مشكلته أين يضع العلبة فى القميص ولا يراها الناس، وفجأة شاهد محمود المليجى فى أحد الأفلام يسقطها فى الشراب، فأيقن أن هذا هو فقط الوضع الملائم لها، ولا يعتدى فيه أيضا فى نفس الوقت، على جماليات وخصوصية القميص.
فى رمضان الماضى أيضا كان القميص هو البطل مع الفارق، حيث قام أهالى قرية بالفيوم بالانتقام من زوج ابنتهم وذلك بتجريده من ملابسه وأجبروه على ارتداء قميص نوم امرأة بغرض تجريسه، وقالوا إنهم فعلوها على طريقة محمد رمضان «ناصر الدسوقى» فى مسلسل «الأسطورة».
تستطيع أن ترى فى تلك الوقائع الصغيرة وغيرها، كيف أن «الميديا» وأبطالها يشاركون بدور محورى فى سلوك البشر، وهى قطعا حقيقة، ولكنها تمثل وجها واحدا فقط منها، لو قلنا مثلا إن أطفال مصر الذين شاهدوا «فرافيرو العجيب» كانوا نحو 20 مليونا وإن طفلا واحدا بينهم قطع المسافة بين الوهم والحقيقة وقام بمحاكاة فرافيرو فهذا يعنى أن لديه استعدادا نفسيا لذلك، وكان من الممكن أن يلقى حتفه بأى طريقة أخرى، سواء شاهد المسلسل أم لا، بينما د. يوسف إدريس كان يبحث عن شكل وضع العلبة وليس مخاطر التدخين، ولو كان وهو أساسا طبيب تعمق فى هذا الموقف لأقلع نهائيا عن التدخين، أما واقعة الانتقام من رجل وإجباره على ارتداء زى امرأة فإنه يعنى شيئين: نظرة المجتمع لدونية المرأة والثانية أن القانون فى إجازة، قبل أن نعتبر الأمر فقط مجرد محاكاة وندين ناصر الدسوقى، وبالمناسبة، هذا السلوك ليس اختراعا من الدراما فهو إحدى أدوات الانتقام فى الريف والأحياء الشعبية.
قبل أيام فتح اللواء أحمد عمر النيران على الميديا متهما الدراما بأنها روجت للمخدرات، وقال المسؤول عن مكافحتها فى حواره مع عصام أبوسديرة على صفحات «المصرى اليوم» إنها دمرت الشباب، من الممكن أن نكرر هذه الكلمات ونرتاح تماما من تحمل المسؤولية، ونبرئ ساحة الدولة والأجهزة الأمنية من المسؤولية، ومن الممكن أن تضيف أيضا أن التحرش والعنف، سببهما «الدراما».
الاتهام ليس مصريا أو عربيا فقط، ولكن فى العالم كله تتردد دائما اتهامات مماثلة، لكنهم فى مصر يريدون تعقيم الدراما ومنعها من التنفس، بل إننا حتى الآن نجد من يكرر مقولة إن مسرحية «مدرسة المشاغبين» هى التى أفسدت وقبل أكثر من 45 عاما التعليم فى بلادنا، وننسى أن هذه المسرحية مأخوذة قبل 50 عاما عن الفيلم الأمريكى «إلى أستاذى مع حبى» لسيدنى بواتييه، فهل تراجع مستوى التعليم فى أمريكا؟. نعم نرى أحيانا عنفا ضد الأساتذة ولكن ألم نر أيضا، أساتذة يعذبون الطلبة، بل وصل الأمر بأحدهم أن انهال بالضرب على تلميذ فى المرحلة الابتدائية حتى فقد حياته.
البعض يرى أن الكثير من الأعمال الدرامية تحمل تجاوزا أو فى الحدود الدنيا لا يجوز أن يُسمح بتداولها فى شهر رمضان، البعض على الجانب الآخر اعتبرها على العكس تحاول أن تقفز فوق سور الممنوعات لتصل إلى «المسكوت عنه» فى المجتمع، ولكننا فى العادة نعتبر أن إلقاء الضوء عليه يحمل إدانة أخلاقية لنا، وهكذا تفرقت السبل وتناقضت زوايا الرؤية، وفى الحالتين احتلت تلك المسلسلات النسبة الأكبر من كثافة المشاهدة.
ستكتشف أن هناك دائما صوتا يتحسر على أيام زمان عندما كانت الشاشة نظيفة، رغم أننا فى منتصف الخمسينيات شاهدنا «شباب امرأة» للمخرج الكبير صلاح أبوسيف والذى كان يتناول شبق امرأة فى منتصف العمر، لا يجرؤ أى مخرج اليوم على تقديم تلك العلاقة مجددا وبكل تلك الجرأة، وبالمناسبة قبل بداية إرسال التليفزيون فى مصر كان التوقيت النموذجى لعرض الأفلام هو شهر رمضان، وهكذا شاهد المصريون «شباب امرأة» فى رمضان، ولم يعتبروه من مبطلات الصيام.
هل من الممكن أن نصل إلى منطقة آمنة لا نجد فيها هذا التناحر بين صوت يناضل من أجل حماية حرية الإبداع ويعتبرها خطا أحمر وصوت على الجانب الآخر يعلو مطالبا بحماية المجتمع من شطحات الفن والفنانين؟، حيث يرى أن الخطر الحقيقى الذى يهدد أمن الأسرة يبدأ باختراق الدراما.
هناك مطالبة فى أكثر من بيان من خلال مؤسسات ومجالس قومية تُمهد للدولة كُل سُبل التدخل لتعاود أداء الدور الأبوى؛ أن تتولى هى اختيار ما يجوز عرضه أو مصادرته، هل لا نزال نعيش فى زمن يمنح الأجهزة إمكانية السيطرة بالمنع؟، بعد أن صار «النت» يصل إلى كل بيت وأسقط سُلطة الدولة فى الحجب، لدينا مؤخرا نموذج فيلم «حلاوة روح» الذى رفعته الدولة من دور العرض قبل ثلاث سنوات، فأصبح خلال ساعات الأكثر تداولا على مواقع التواصل الاجتماعى، الدولة لا تستطيع سوى فقط أن تواجه ما تراه رديئا بدعم ما تشعر بأنه جيد، عليها أن تُسهم فى تهيئة المناخ الصحى لتقديم قوة دفع للفن الجيد.
البعض يرنو إلى فن أقرب إلى «الكارت بوستال» الذى يُجمل الحياة ويمنح الواقع ألقا كاذبا بإبعاد كل ما هو سلبى عن الصورة، وكأن غض الطرف عن قُبح الحياة يجعل الواقع جميلا، لتصبح معركتنا ليست محاربة الواقع الردىء ولكن مطاردة الفن الذى يقدم هذه الرداءة.
صرنا دائما ما نواجه هذا السؤال عن هذه الألفاظ والمواقف الدرامية التى باتت تتواجد بمساحة كبيرة، حيث نرى العديد من الأحداث تجرى فى بيت دعارة، نرى قوادا وامرأة تبيع شرفها، أو رجلا يتعاطى أو يبيع المخدرات، الصوت المحافظ يشعر أنه لا يليق تقديم هذه المشاهد، القطاع الأكبر من المجتمع غاضب ويحمل الفن سبب تردى الواقع، بينما الأرقام فى دُنيا الواقع تشير إلى أن معدلات التحرش فى مصر حققت أرقاما قياسية على مستوى العالم.
لو تأملت الموقف نظريا ستجد أننا فى تاريخ الدراما عالميا لا نُقدم الشخصيات الإيجابية إلا فيما ندر، وأن الشخصيات السلبية والمدانة أخلاقيا هى التى تحتل المساحة الأكبر، ومن البديهى أن يتكرر هذا الأمر فى الدراما المصرية.
لا شك أن قسطا لا بأس به من الدراما، توقف عند العالم المتوحش والمنفلت والغوغائى، لى تحفظات على العديد من الأعمال التى أراها تُسهب فى تقديم بعض تلك المشاهد، اعتراضى لا يستند إلى زاوية أخلاقية أو رقابية، كما يحلو للبعض وصفها ولكن برؤية فنية تتكئ على علم الجمال ونقيضه القبح، نعم هناك ما يمكن أن نطلق عليه إسرافا أو مشاهد مجانية ولكن الطريق إلى مواجهتها يأتى فقط من خلال تقديم مقال نقدى وليس بإشهار أو استدعاء وتحفيز قوة الدولة على المصادرة، لم يعد من الممكن أن نُشهر هذا السلاح الذى انتهى عمره الافتراضى مع الانتشار الفضائى قبل قرابة عقدين من الزمان، علينا أن نسعى لكى نزيد وعى الناس فى الاختيار، الفن الجيد لديه قدرة على إزاحة الردىء، وبالمناسبة ليس المقصود بالجيد هو الخالى من أى مشاهد جريئة الذى أطلقوا عليه فى السينما المصرية قبل سنوات «السينما النظيفة»، كما أن على الجانب الآخر فإن الردىء ليس هو الذى يتضمن تلك المشاهد، الفيصل هو أسلوب التناول.
لا نريد فنا معقما يشعرنا وكأننا نعيش فى المدينة الفاضلة، ولا فنا ينزع عن أبطاله ورقة التوت، الفن هو ما ترى فيه الحياة بحلوها ومرها، بنبلها وتوحشها، لا يمكن أن نبدد الطاقة فى مطاردة الصورة الدرامية مهما بلغ قبحها ونترك القبح ماثلا أمامنا فى الحياة. الذى يدفع الشباب لتعاطى المخدرات هل فقط الدراما؟ أم أن هناك البطالة تلعب دورا والإحباط يشكل عاملا محوريا، وغياب العدالة وتكافؤ الفرص، تلك هى البنية التحتية التى تلعب دور البطولة، فى خلق مناخ يمهد قطعا للتعاطى، لا أنفى دور الدراما ولكن الواقع الذى نعيشه، صار حاضنا للانحراف فهو الفاعل رقم واحد، هل نريد أن نخدع أنفسنا، وتشترى الدراما الليلة كلها، لا بأس أن نفتح النيران على «فرافيرو العجيب»!!.