x

«المصري اليوم» تقضى يوماً مع قبيلة «ننجلا» فى جنوب السودان: هنا توقف التاريخ

الأربعاء 19-01-2011 23:57 | كتب: هشام علام |
تصوير : محمد معروف

فى قبيلة «ننجلا» أسطورة تتحدث عن إله الشروق، يظهر عند كل فجر، يلقى نفحاته على أتباعه الذين اصطفوا على حافة نهر النيل، ويجمعها منهم عند الغروب «الخير بين ظهوره وأفوله، والخوف عند الظلام»، عاشوا لسنوات يحرسون النهر، يحمونه من غزو القبائل واعتداء الطبيعة، يقدسون كل ما يأتى منه، هم فى السواد الأغلب مسيحيون وبينهم فئة مسلمة، لكن الدين لا يتدخل بأى حال فى أسلوب حياتهم أو تبتلهم، اضطروا مع فيضان جامح منذ ألف عام تقريبا إلى الابتعاد عن شاطئه، فى هذه المرة كان يفترس أبناءهم واحدا تلو الآخر، قضى على ثلثى القبيلة، ولما أفاق «سلطانهم» من إغماءته، حمل البشرى لهم، بأنه أُذن لهم بالرحيل إلى مكان لا يرون فيه النهر ولا يراهم، فساروا لعام كامل، حتى وصلوا إلى غابات السافانا، فى أحضان جبل صخرى، وضعوا متاعهم، وبنوا مما حملوه من طمى النيل أكواخهم، وصار يوم انتقالهم عيداً سنوياً، وتقويما يحتفلون به فى الحادى عشر من يناير كل عام.

الصدفة وحدها حملتنا إلى هناك، كانت «جوبا» عاصمة جنوب السودان قد ضاقت على بعثات الإعلاميين من جميع أنحاء المعمورة الذين جاءوا لمتابعة استفتاء الانفصال، قررنا الابتعاد قليلا، رغم تحذيرات القنصلية المصرية والشرطة السودانية لنا إلى أقرب المدن إلينا هى «توريت»، 150 ميلاً جنوبى شرق جوبا، وسائل النقل الجماعية مرفوعة من الخدمة مؤقتا، حظر التجوال امتد ليلزم سكان كل مدينة داخل أسوارها، الحصول على سيارة «جيب» أمر صعب، أحد الضباط بالجيش الشعبى الجنوبى، وهو أيضا أحد الأبناء التسعة لوزير الإسكان، ساعدنا فى الحصول على سيارة مقابل 400 دولار على أن تظل معنا طيلة اليوم، لا توجد بدائل أخرى، ومع الغسق بدأت الرحلة، كنا نتوقع أن تستغرق ساعتين أو ثلاث ساعات على الأكثر، لكننا سرنا فى طريق يتهاوى فجأة لتسقط السيارة فى حفرة تظن لأول وهلة أنك لن تخرج منها ثانية، ثم تعود لتصعد «تلا» وتنعطف ذات اليمين وذات اليسار، كل هذا يرسخ داخلك إحساسا بأن الوصول إلى المنتهى بهذه الطريقة درب من المستحيل، لذا ومع ظهور أولى علامات الحياة بعد سير لقرابة 4 ساعات، قررنا الوقوف لنلتقط أنفاسنا.

كانت الشمس قد بدأت تسلط أشعتها على جبال سوداء زينتها أشجار مورقة كثيفة ذات سيقان تخضبت بحمرة وصفرة غريبة، يمكنك من هنا مشاهدة بعض أنواع القرود تتقاذف فيما بينها ثمار المانجو، هو الطعام المجانى للقبائل التى تستوطن الغابات والجبال، تشاركهم فيه بعض القردة، أصناف منها لا تقل وحشية عن بقايا الألغام التى تركتها القوات المتحاربة فى تلك الأودية، ثمة طفل عار لم يتجاوز عامه الثانى يجمع سنابل نبات «سام» ليضعها فى قاعدة صاروخ تفجر منذ سبعين عاما، تهرول الأم على طفلها وتنزع من يديه السم وتنهره وتفتش فمه بإصبعها ثم تحمله بعيدا، لتعود وتشعل النار فى تلك السنابل، قليلون منهم الذين يتحدثون العربية، وأغلبهم يتحدثون لغة خاصة بهم، تحمل اسم القبيلة، «ننجلا».

كان اليوم هو ذكرى وصولهم إلى تلك الأرض، فى هذا اليوم تقام الاحتفالات منذ الرابعة عصرا وحتى ظهر اليوم التالى، الحديث يجب أن يكون مع السلطان فى البداية، اسمه «شو ما لاخى» يشبه فى ملابسه الهنود الحمر، كما تصورهم أفلام هوليوود، إنه الزى اليومى هنا، يضع على رأسه تاجا من ريش الطاووس، وفى عنقه قلادة زينها بناب أسد كانوا قد أولموا به العام الماضى، هذا العام لم يتمكنوا من اصطياد أى من تلك الأسود التى تعيش خلف التل مباشرة، يستر عورته بقطع من القماش ذات ألوان زاهية، وفى قدميه سوار من الأحجار الملونة، فيما رسم على بطنه علامات من طمى النيل، يرسل أحد أفراد القبيلة ليحضرها من ضفته كل عام.

رغم صعوبة الحصول على المياه فإنه كان كريما معنا، تذهب النساء لجلب المياه من مناطق تبعد كيلومترين كل صباح، أخبرنا أننا لو عدنا عند الزوال، فسوف نشاهد حدثاً فريداً، وهو احتفال «ننجلا» الذين يأتون من كل مكان فى العالم لإقامة هذا الاحتفال، «لا نسمح للغرباء بمشاركتنا، لكننا سنمنحكم هذا الشرف»، تزودنا بالماء على أمل اللحاق بالاحتفال فى موعده، لكن الطريق إلى «توريت» استغرق 6 ساعات كاملة، ودون أى تردد قررنا العودة إلى «ننجلا».

كانت القرية خاوية على عروشها، تفتش فى الأكواخ المخروطية التى صنعت من قوائم الغاب تعلوها أسطح مخروطية الشكل من حشائش السافانا، فلا تجد أحداً، لكن ثمة طبولاً مخيفة تأتى من مكان ما فى قلب الحشائش المرتفعة، وتحت إحدى أشجار المانجو كان أحدهم مقيداً إلى جذع الشجر، يرقصون حوله بالحراب، ويطلقون صرخات عالية، وهو مستسلم فى صمت، يدور الرجال فى حلقة متصلة، فيما تجلس النساء شبه عاريات يطلقن صراخا عاليا، لحظات ويحرر الأسير نفسه ويشرع فى الهرب يلاحقه رجال القبيلة بملابسهم الأفريقية التى تستر الجزء الأسفل من أبدانهم ويطلقون حرابهم إلى جواره، حتى يسقط فيتكالبوا عليه متظاهرين بطعنه.

يمثل هذا الأسير عدوهم الذى تسبب فى مقتل العشرات منهم فى الحرب الأهلية، وهو أيضا رمز «الشيطان» الذى أغضب إله الشروق «كمان» فى الأسطورة، فلفظهم النيل إلى قلب الأدغال الاستوائية، لذا تقام الصلوات كل عام- بحسب السلطان شو ما- لاسترضاء النهر وإله الشروق وطرد الشيطان.

فى الناحية الأخرى تجد النساء يجلسن وإلى جوار كل منهن حزمة من نبات ذى سنابل تتباين بين الأحمر الأرجوانى والأزرق والأبيض، يسمونه الذرة، يوضع فى صخرة مجوفة ويتناوبن عليه بحجر رخامى لطحنه، ليضاف إليه الماء ويصير عجينا، فيما تخلط البذور نفسها– دون طحن– مع الماء وتغلى فى قدر نحاسى لساعات طويلة فيصير خمرا، يمر به صبية صغار على الرجال فى قنان فخارية عشية الاحتفال، فجأة ينفخ مسن تجاوز السبعين فى بوق طويل، صنع من أحد أنياب الفيلة الاستوائية، ينتفض الجميع ويركعون موجهين أبصارهم إلى الأرض فى صمت مطبق، يظلون هكذا لدقائق، حتى يهب السلطان واقفاً مشيحا بدرعه وحربته ومطلقا صفيرا مختلفا، فتبدأ الأهازيج والأغانى.

هو عالم سحرى، أشبه ما يكون بقصص ألف ليلة وليلة، الحزن من الممنوعات فى هذا اليوم، لا خصام بيع ولا شراء، يوم وليلة للفرح والرقص فقط، من يتسبب فى المشاكل صار ملعونا حتى العام التالى، ويعيش معزولا فى كوخ بعيد، لا يرى أطفاله ولا يحصد زرعه ولا يعاشر امرأته إلا بمهر آخر، الملعون يصيب الكل باللعنة.

المهور هنا عالية جدا، ويحددها السلطان وفق جمال المرأة، الطويلة الصلعاء ذات الأنف الأفطس هى الأجمل، بياض العين عنصر مهم، والقد الممشوق دليل العفة، من ليست كذلك فهى امرأة لعوب، تبدأ المهور هنا بثمانين بقرة، من لا يملك المهر كاملا يدفع جزءا ويكتب صكا على نفسه، يلتزم أبناؤه بسداد قيمته عن أبيهم، وإلا أصابهم العار وعايرهم أبناء القبيلة بهذا، يتزوج الشاب فى سن السابعة عشرة، والفتاة فى الرابعة عشرة، الكوخ يتسع لزوجتين، وله عدد لا محدود من الزوجات، علاوة على قدرته على الاقتران بزوجة أبيه الصغرى عند وفاته، بعد موافقة الأخ الأكبر، وإن أنجب منها يصير الطفل أخا له وليس ابنا، كما يتزوج الرجل زوجة أخيه عند سفره أو وفاته، ولا ينطبق الحال مع أسرة السلطان وبناته لضمن نقاء النسب، لأن السلطنة هنا بالوراثة.

فى الرابعة يبدأ الاحتفال، تجد فتيات جئن من الولايات المتحدة وكندا، خلعن الجزء العلوى من ملابسهن واكتفين بحمالات الصدر، وضعن الطين على وجوههن ورحن يغنين بصوت مرتفع حول نصب علقت فيه الطبول الأفريقية، يتسلقن التل المجاور فى جماعات، وما إن تنزل جماعة حتى تصعد الأخرى، تحمل كل مجموعة منهن راية مختلفة، ترمز راية التمساح إلى نهر النيل، والمحارب ذو الرمح إلى إله الصيد، وطائر أبوقردان إلى إله الزراعة.

قبيلة «ننجلا» تقدر بخمسة آلاف فرد، لم يشاركوا– بحسب السلطان– فى استفتاء انفصال الجنوب، لا يفضلون الحديث فى هذه الأمور، يرونها أموراً شيطانية، كل ما عليهم فى هذا اليوم هو اصطياد أحد الأسود كما هى عادة الأجداد، وطهيه، لكن هذا العام لم يتمكنوا من ذلك، فاكتفوا بتقييد أحدهم مكان الأسد والاحتفال حوله.

بينهم تجد الشرطى والمعلم والطبيب، جاءوا من الخرطوم وكندا وأمريكا اللاتينية، جاءوا ليؤدوا فرضهم السنوى، وإلا واجهوا الفشل وسوء الحظ والحرمان طول حياتهم، يرفضون هنا أى مظاهر للحضارة والتمدن، ومن يخرج من أبنائهم ويعود يجب أن يتخلى عن كل شىء عند مدخل القرية، وإلا أصابته اللعنة، لا صحف ولا تلفاز ولا كهرباء ولا سياسة، الطعام يوضع فى سلال مرتفعة عن الأرض، واللحوم تقدد فى الرمل وتحت الشمس، والنار تشتعل بالأحجار لتدفئهم نهارا وتحميهم ليلا، لأنهم - بحسب معتقداتهم- يجب أن يظلوا على الحالة التى فارقوا فيها نهر النيل حتى يأتيهم أمر العودة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية